د. محمد عبدالرحمن بالروين
ج ـ دور مندوب الأمم المتحدة في ليبيا
قامت الجمعية العامة باختيار السيد إدريان بلت لإدارة المرحلة الانتقالية من أجل إعلان استقلال ليبيا، والحقيقة أن اختيار هذا الرجل كان ايجابيا ساعدت على استقلال ليبيا، وذلك لعدة أسباب من أهمها:
ـ لقد كان رجلا محايدا ولم تكن له أي أجندة خاصة إلا تحقيق ما كُلِّف به. وقد أشار إلى هذا في أول يوم وصل فيه إلى طرابلس يوم 18 ديسمبر 1950 عندما خاطب الشعب الليبي قائلا: “.. ليس من وظيفتي أن نحكم بلدكم، ذلك سيبقى في أيدي القوى التي تدير بلدكم الآن إلى أن تنالوا استقلالكم ..”.
ـ تعرض السيد بلت للعديد من الانتقادات من أعضاء مجلس العشرة، وخصوصا ممثلي القوى الكبرى، ومن بعض قيادات الأحزاب السياسية الوطنية ولكنه أصر على وظيفته ولم يخضع لأي ضغوط.
ـ لقد كان إنسان عملي وواقعي، فبرغم من أنه كن يؤمن بأن الدستور يجب أن يكتبه ممثلو الشعب الذين يختارهم الشعب في انتخابات حرة, بالرغم من ذلك فقد أتفق مع المنادين بأن الانتخابات لا يمكن القيام بها في تلك الظروف وتحت الهيمنة الأجنبية، وبالتالي فقد وافق على أن يتم تعيين أعضاء الجمعية الوطنية بدلا من انتخابهم ..”.
ـ وفيما يتعلق بتمثيل غير الليبيين في لجنة الجمعية الوطنية فقد أصر السيد بلت أن يكون كل أعضاء هذه اللجنة من الليبيين برغم من كل الضغوط التي واجهها من الدول الأربعة الكبار. لقد أصر السيد بلت أن الأقليات غير الليبية يجب ألا تمثّل في الجمعية الوطنية بشرط أن تضمن لهم كل حقوقهم المدنية والدينية.
د ـ دور التخلف الاقتصادي والسياسي
بالإضافة إلى الظروف السياسية التي ذكرت لا يمكن أن نتجاهل الحقائق الاقتصادية والسياسية التي كانت تواجه مؤسسي الدولة الدستورية الليبية الأولى. وفيما يلي بعض هذه الحقائق:
ـ كانت ليبيا اقتصاديا من الدول التي كانت تسير نحو الموت، وسياسيا كانت متفرقة وغير متحدة ولا تملك الخبرات السياسية من أجل تأسيس دولة عصرية.
ـ كانت ليبيا تفتقد بالكامل لكل الخبرات المهنية والإدارية والفنية مثل المعلمين والأطباء والمهندسين والمدراء والمحاسبين وغيرهم، وأن نسبة الأمية في ليبيا كانت تقدر بأكثر من 90% من عدد السكان.
ـ كانت ليبيا تفتقد إلى أي مصدر من المصادر الطبيعية، وكان أكبر مصدر للدخل هو تجميع الخردة من بقايا أليات الحرب العالمية الثانية، ومن الطريف أنه حتى الرمال الليبية، برغم كثرتها، لا تصلح لصناعة الزجاج.
ـ كانت ليبيا متخلفة اقتصاديا إلى درجة أنه يقال أنه في عام 1908 رفضت المنظمة اليهودية العالمية اعتبار برقة كمنطقة مناسبة لإستيطان اليهود وذلك لعدم توفر المياه فيها.
بناء على هذه الحقائق وغيرها كثير، قام السيد بلت ببعث رسالة، في مارس 1950، إلى اليونسكو يطلب فيها منها المساعدة الفورية، وبعد بعث وفد لدراسة الوضع الاقتصادي في ليبيا، قررت اليونسكو تقديم مساعدات كان أولها قيام مشروع لتدريب الطباعة وإعطاء منح دراسية، وكانت تكلفة المشروع 57 ألف جنيه.
كيفية اﻻﺳﺘﻔﺎدة ﻣﻦ هذه اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ ﺗﺄﺳﻴﺲ دولة ليبيا الدستورية
بعد هذا العرض الموجز لأهم القوى السياسية التي كانت وراء تأسيس دولة ليبيا الدستورية الأولى (1951-1969)، يحق لنا أن نسأل:
كيف يمكن الاستفادة من هذه التجربة من أجل بناء دولة ليبيا الدستورية الثانية؟
أـ الاستفادة والتذكير
ينبغي أن يكون واضحا للجميع بأننا لا نناقش هنا دستور ليبيا المستقبلي. ذلك لأنه ليس من حقنا بل هو حق الشعب الليبي ككل. ولابد من التأكيد أننا ندعو إلى ضرورة الاستفادة من أهم الدروس والعبر من تلك التجربة.
ينبغي أن نذكّر بأنه لدينا في ليبيا ثقافة دستورية، وأن دولة ليبيا الدستورية الأولى كانت غنية بالأفكار والمبادئ والقيم التي ينبغي أن نتمسك بها وندعو إلى تطبيقها وتحقيقها في بناء دولة ليبيا الدستورية الثانية.
ب ـ دستور 1951 كان نصرا للشعب الليبي وهزيمة لأعداء الاستقلال
إن ما حدث يوم السابع من اكتوبر 1951، يعتبر بحق انتصار عظيم للشعب الليبي وهزيمة لأعداء الاستقلال. ففي هذا اليوم استطاع الشعب الليبي المستعمَر والضعيف، والفقير، وغير المتعلم، وغير المتحد، أن يعلن للعالم أنه بالرغم من كل التحديات، كان قادرا أن يصيغ دستوره ويوحد كلمته وأن قادر على حكم نفسه في دولة دستورية عصرية.
ج ـ درس رائع في التسوية السياسية
إلى جانت أن الدستور كان نصرا عظيما للشعب الليبي، إنه كان حلا وسطيا وتسوية سياسية ارضت كل الأطراف، وهذا درس رائع علينا أن نقتدي به ونحن في مرحلة التحول الديمقراطي وإعادة بناء الدولة المدنية الدستورية.
د ـ قمة الانفتاح على تجارب الغير
من دروس وعبر هذه التجربة هو أن نكون منفتحين على تجارب لغير ومدركين بما يدور حولنا، بمعنى أن نكون على استعداد لأخذ أفضل من عند الآخرين، في الشرق والغرب، بشرط ألا نتخلى عن أفضل ما عندنا.
هكذا كانت نظرة مؤسسي دولة ليبيا الدستورية الأولى عندما اقتبسوا كل الوسائل والأفكار الواردة إليهم من تجارب دولية فنقحوها وجعلوها تلائم ثقافتنا ومعتقداتنا، وما اقتباس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلا خير مثال على ذلك، وهكذا ينبغي أن نكون نحن اليوم.
هـ ـ ضرورة التمييز بين الأفكار والوسائل
لابد أن ندرك بأن الأفكار أهم من الوسائل، أي ينبغي أن يكون تمسكنا بالأفكار أكثر من الأشكال وكل أنواع وآليات الحكم التي تبناها مؤسسي الدولة الدستورية الأولى، وذلك لعدة أسباب:
ـ كان النظام الملكي الذي أقامه مؤسسو الدولة الليبية، الأنسب في تلك المرحلة، فمن جهة كانت تتويجا للجهود التي بذلها السيد ادريس السنوسي من أجل تحقيق الاستقلال، ومن جهة أخرى كانت تكريما وعرفانا للحركة السنوسية على قدمته للشعب الليبي في تاريخه المعاصر.
بالإضافة إلى كل ذلك كانت مطلبا شعبيا، فممثلو الشعب الليبي عام 1950 الذين ذهبوا لمبايعة ادريس في الوقت الذي لم يطلب فيه البيعة، ولم يكن متحمسا لها. أما اليوم، فلابد أن ندرك بأنه لا يوجد بيننا “إدريس” ثاني لكي نبايعه ويمكن تنصيبه ملكا علينا جميعا.
ومن جهة أخرى، إن عهد الأنظمة الملكية قد انتهى وأن هذا النوع من الحكم لن يكون حلا للتحديات والإشكاليات التي تواجه بلادنا اليوم.
ـ دستور 1951 لا يمكن تكبيقه بالصورة التي عليها الآن وذلك لسببين: أولأ، أن المادة 197 في الدستور تنص على أنه “لا يجوز اقتراح تنقيح الأحكام الخاصة بشكل الحكم وبنظام وراثة العرش وبالحكم النيابي وبمبادئ الحرية والمساواة التي يكفلها هذا الدستور“.
فهذه المادة تنص ـ صراحة ـ بأن “شكل الحكم الملكي” لا يمكن تعديلها وهي جزء من الدستور. وإلى جانب هذه المادة نجد أن المادة 198 تحدد طريقة واحدة لتعديل هذا الدستور، حيث تنص بأن يتم التعديل عن طريق البرلمان وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بوجود ملك يعين مجلس الشيوخ كما تنص المادة 94.
ـ إن المواد التي من الممكن قبولها كما هي اليوم لا تزيد عن نصف مواد الدستور، أما بقيت المواد فلابد من إلغاء بعضها وتعديل البعض الآخر.
وـ درس الارادة والأﺻﺮار
ﻣﻦاﻟﺪروس اﻟﺘﻰ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺘﻌﻠﻤﻬﺎ ﻣﻦ ﺗﺠﺮﺑﺘﻨﺎ اﻟﺪﺳﺘﻮرﻳﺔ ا ﻻوﻟﻰ هو ﺿﺮورة وﺟﻮد رﺟﺎل ﻟﻬﻢ قدر كبير من الإرادة والإصرار والاستعداد لمواجهة التحديات
___________
(*) ورقة قدمت في مؤتمر منظمة الليبيون الأمريكان تحت عنوان نحو إعادة الشرعية الدستورية في ليبيا، عقد في واشنطن يومي 23 و 24 يونيو 2006.
المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك