عبدالسلام مصطفى التريكي

ذكرت في مقال سابق ذكرياتي مع عملية باب العزيزية في مايو 1984 وكنت حينها في نهاية المرحلة الإبتدائية في نهاية السنة في مدرسة محمد حجازي العنقودي القرءانية، وجرت أحداث باب العزيزية بالقرب من مدرستي بضع مئات من الأمتار وتعرضنا فيها للخطر.

كانت تلك الأيام أول مرة أسمع فيها باسم الشهيد بإذن الله الحاج أحمد حواس، فقد سمعنا بمقتله في نفس اليوم تقريبا 6 مايو 1984 أثناء محاولة دخوله من الحدود التونسية قرب مدينة زوارة، وسمعت بعض الأخبار عن شجاعته.

ثم مرت الأيام والأعوام حتى خرجت لاستكمال تخصصي في الطب النووي خارج ليبيا، ودخلت أحد الأيام مسجد المدينة وكنت جالسا في الصف الأول بالقرب من رجل بشوش في العقد الخامس من عمره تبدو عليه ملامح سكان أمريكا اللاتينية، يتكلم الإنجليزية بلكنة ولكن بإتقان، فالتفتَ إليَّ مُرحِّبا بقدومي ويبدو أنه كان يعرف من بعض الزملاء أني حديث عهد بالإقامة في المدينة وأني قادم من ليبيا.

سيرة عطرة مغيبة

ثم بعد حديث ودٌي، فاجأني بالسؤال عن الشهيد أحمد حواس، وقال لي: أتعرفه؟! فأصابتني دهشة عجيبة، وقلت : لا أعرفه شخصيا فقد كنت صغيرا حين مقتله، لكن سمعت عنه، ولكن كيف عرفته ومتى؟! فقال لي: إنه رجل بطل وصالح ونحن نحبه في بلدي غوايانا!!

وكنت قد سمعت قبلها أنه كان سفيرا في غوايانا، وعرفت لاحقا أنه كان في نهاية السبعينيات وبداية الثمانيات سفيرا في غوايانا، لكن لم أكن أعرف أي معلومات تفصيلية عنه.

فزادت دهشتي وتعجبي من سؤاله ومن معرفته بالشهيد أحمد حواس، فقلت له: هل رأيته ولماذا هو محبوب عندكم؟!

فقال لي: أنا شخصيا لم ألتقه لأنني هاجرت من غوايانا مبكرا في 1973، ولكن أخي ووالدي قد رافقاه أثناء دعوته في غوايانا، فزاد تعجبي أكثر، وقلت له: هو سفير ليبيا وللقذافي فكيف كان داعية؟!!

فقال لي: هو ضد القذافي، ولكن أخي فاضليعرف معلومات أكثر عنه ويمكن أن يخبرك بها. فخرجت من المسجد أحمل تساؤلات كثيرة عن سيرة ذلك البطل وكيف وصلت سيرته إلى غابات أمريكا الجنوبية، ثم لم أفاتح أحدا بالأمر لأننا في تلك الفترة كنا تحت حكم النظام السابق وأتباعه في كل مكان.

كتمت الأمر، وانشغلت بدراستي وعملي في المستشفى، حتى جاء اليوم بعد سقوط نظام القذافيالذي سمعت فيه عن محاضرة سيلقيها داعية وعالم ومؤرخ مشهور جدا أمريكي ويقال أن أصوله من السكان الأصليين في أمريكا الجنوبية

وهو الشيخ د. عبدالله حكيم كويك وهو خِرٌِيج جامعة المدينة المنورة سنة 1979، ومهتم بتاريخ المسلمين في أمريكا الشمالية وأفريقيا، وقد أهداني كتابه الرائع عن دخول الإسلام إلى أمريكا الشمالية مئات السنين قبل كولومبس.

المهم حضرت المحاضرة الرائعة عن وجود الإسلام في أمريكا، ثم في نهاية المحاضرة ذكر الشيخ عبدالله اسم الشهيد أحمد حواس ودوره في نشر الإسلام في غوايانا وتعليم المسلمين، فظننت أني قد سمعت الاسم خطأ، وأعاد لذاكرتي ذلك الأخ الفاضل الحبيب من غوايانا، فقررت بعد المحاضرة أن أسأل الشيخ عبدالله كويك، عن علاقته بالحاج أحمد حواس؟

وبعد انتهاء المحاضرة سلمت عليه، وقدمت نفسي له، وأخبرته أني من ليبيا، وأني متشوق لسماع قصة الحاج أحمد حواس وعلاقته به؟

ففرح ورأيت الدموع في عينيه أثناء حديثه عنه، وقال لي: هو صديقي ورافقته في رحلات دعوية، وأنه قد قدم للإسلام والمسلمين الكثير في غوايانا، وبنى عمارة كبيرة من 6 طوابق أنشأ فيها مسجدا ومدرسة ومرافق للمسلمين، وأنه كان لايفتر عن دعوة الناس للإسلام ونصح المسلمين أثناء عمله كسفير، وأنه داعية وبطل قد فقدته الأمة.

فزاد تعجبي وشوقي لمعرفة المزيد عن سيرة هذا البطل الذي لم أتوقع أن يعرفه غير الليبيين، وللأسف يجهل سيرته أغلب الليبيون، لأن النظام السابق قد شوَّه سيرته وطمسها.

ثم عرفت لاحقا أنه كان يُدَرِّسُ القذافي في الكلية العسكرية قبل انقلاب سبتمر 1969، ثم طُرد من العسكرية بعد الانقلاب وأبعده القذافي في سفارات عديدة حتى كان آخرها في غوايانا قبل انشقاقه عنه في فبراير 1981.

ثم مرت الأيام وتواصلت مع الأخ فاضلمن غوايانا الذي كان ممن رافق وتعلّم على يدي الشهيد بإذن الله أحمد حواس في غوايانا، وذكر لي قصصا عجيبة عنه، حتى ظننته يتكلم عن شخص غيره!!

فيقول الأخ فاضل: كان الشهيد أحمد حواس في غوايانا يزورونا في قريتنا في غابات غوايانا البعيدة جدا عن العاصمة (جورج تاون) مقر السفارة الليبية والتي تبعد مئات الكيلومترات عن قريتنا.

وكان الشهيد يأتينا عدة مرات في السنة ويقود سيارته بنفسه مسافة 4 ساعات، ثم يركب بسيارته السفينة عبر الأنهار في الامازون مسافة 8 ساعات يقطعها وحيدا دون مرافقين حتى يصل إلى قريتنا المُسلمة في الأدغال ليجلس معنا لأسابيع ينام فيها في المسجد وهو سفير دولة غنيّة، يُعلمنا القرءان والفقه والصلاة والعبادات و الأحكام والعقيدة، ويصلي بنا الصلوات والتهجد وينام على أرض المسجد الصغير ويأكل معنا في المسجدثم نخرج معه في رحلات دعوية بسيارته في القرى البعيدة في الغابات.

ويقول الأخ فاضل: كان الشهيد شديد التواضع والصبر، ولم نر رجلا دبلوماسيا في حياتنا يفعل ما فعله من أجل الإسلام والمسلمين، وأنه كان يتَنَقَّل بين المناطق في غوايانا ويفعل ما فعله معنا من دعوة وتعليم.

سيرة عجيبة وكأنه من الرعيل الأول، تحتاج لبحث وتنقيب ونشرها بين الناس ليعرفوا ماذا قدم هذا البطل لدينه وأمته حتى هانت عليه نفسه رخيصة؟

وأتمنى من زملائه أن يُزوّدوني بمعلومات موثقة مكتوبة عنه لأكتب عنه ولعليّ بهذا المقال قد قدمت لمحة بسيطة للأجيال لعل بعض المؤرخين يتحمسوا للكتابة بتوسع عن سيرة هذا البطل رحمه الله وغفر له واسكنه الفردوس الأعلى من الجنة.

____________

المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *