حركة صوفية خضع لها العثمانيون وانقلب عليها العسكر
شريف أيمن
الانسحاب العثماني أمام النفوذ السنوسي
تجدر الإشارة هنا إلى أهمية مدينة برقة التي اتخذها السنوسي مقرا للزاوية المركزية الأولى (البيضاء) قبل أن تكون زاوية (الجغبوب) هي المركزية في ما بعد، كما سيأتي. فعندما بسط العثمانيون سيطرتهم على البلاد، كانت مراكز سلطتهم على المدن الساحلية، وبعض المدن القريبة من متناول جنودهم وأسطولهم.
وأما دواخل البلاد جنوبا فكانت بعيدة عن سلطانهم، لذا ترك العثمانيون لأسرة “القره مانلي” إدارة حكم مدينة برقة لما يزيد على قرن، ورضوا في ما بعد الاعتراف بالسنوسية لا كطريقة فحسب بل كإمارة سياسية كذلك، حسب كتاب “الدولة السنوسية“.
اجتماعيا، كان سكان المدينة –نظرا لغياب النفوذ العثماني– قد أمعنوا في السلب والنهب، وكانوا بحاجة لإعادة الضبط الاجتماعي والأخلاقي. وجغرافيًّا، كان المكان يتوسط الأقطار التي يريد السنوسي نشر دعوته بها، كما أن منطقة الجبل الأخضر كانت ذات خصوبة عالية، وتمر بها جميع القوافل الذاهبة أو الآتية من طرابلس الغرب ومصر وفزان (جنوب غربي ليبيا) وواداي (كانت سلطنة شرق بحيرة تشاد) وبرنو (كانت إمبراطورية بنيجيريا)، أو من الدول التي تجاورها، مما يسمح له بنشر دعوته في تلك البلدان.
ولم تلبث المدينة –عقب إنشاء الزاوية بها– أن كبرت وقصدها الزوار من كل مكان، وكانت قريبة من الساحل، فأراد السنوسي أن يبتعد عن السلطان العثماني فاتجه إلى الصحراء قاصدا مدينة الجغبوب لتكون مركزا جديدا لدعوته، فضلا عن أنها كانت مكانا تكثر فيه القبائل العربية التي قبلت الدعوة السنوسية، ودخلت في عداد الإخوان السنوسيين.
نجح السنوسي في نشر دعوته بين القبائل المجاورة، كما “استطاع أن يقيم علاقات مع الولاة العثمانيين، خاصة بعد أن قدم للقبائل خدمات في مجال التعليم والإرشاد، وعالج ظاهرة خروجها عن الدولة بحكمة نادرة.
فكانت القبائل تقبل نصائح ابن السنوسي ويطيعون العثمانيين بناء على توجيهاته، ولذلك تركت الدولة الدواخل في يد الحركة السنوسية، وبدأت الحركة تتحول إلى إمارة منضوية تحت لواء الخلافة العثمانية“، حسب المؤرخ محمد علي الصلابي في كتابه “تاريخ الحركة السنوسية في إفريقيا“.
وعلاقة ابن السنوسي بالولاة العثمانيين كانت متشعبة إلى حد اقتباس والي طرابلس طريقته، وصار من أتباع الطريقة السنوسية، كذلك أخذ سلطان واداي محمد شريف الطريقة منه، وهذا القبول الذي أبداه بعض من في السلطة يشبه اتباع ناخب (أمير) سكسونيا للمصلح البروتستانتي الألماني مارتن لوثر، ولا يخفى أثر وجود دعم حكومي لأي دعوة، خاصة إذا كانت ناشئة.
بلغ سلطان السنوسيين أنَّ شيوخهم استطاعوا “تأمين طرق القوافل في قلب الصحراء الكبرى في أفريقيا، فلم تكن قافلة تأمن على متاجرها وأموالها ورجالها إلا إذا أخذت قبل قيامها وتوغلها في الصحراء “محررات” من شيوخ الزوايا السنوسية تصبح بمثابة “جوازات مرور“، حتى تتمكن من اجتياز أرض قبائل الطوارق وتبو وغيرها بأمن وسلام، لأن هذه القبائل كانت تحترم “محررات” شيوخ السنوسية وتعمل بمقتضاها.
ومن المعروف أنه لم يسبق أن انضوت هذه القبائل تحت لواء أي سلطان آخر قبل ذلك. وعلى هذا فقد أصبحت السبل آمنة في ما بين أفريقيا الوسطى والشمالية، بل وأصبحت القبائل التي كانت صاحبة الجسارة الكبرى على النهب وقطع الطريق هي القوة المحافظة على الأمن بتلك المفاوز والصحاري“، حسب كتاب شكري.
وكان من أهم أسباب ذلك الانتشار بين القبائل الوثنية أن السنوسي كان يشتري العبيد من القبائل التي تُغِير على القوافل ليعتقهم، واشترى ذات مرة قافلة من العبيد كان المستعمرون خطفوهم ليعرضوهم في سوق الرقيق، لكن ابن السنوسي أعتقهم وكرمهم وعلمهم الإسلام، ثم تركهم ليعودوا إلى قبائلهم دعاة، فكانوا دعائم مهمة لنشر الإسلام بين أهليهم وقبائلهم، حسب كتاب الصلابي.
معارضة السنوسيين للثورة المَهْدِيَّة
خَلَفَ محمدُ المهدي والدَه عقب وفاته عام 1276هـ الموافق 1859م، وشكّل المجلس الأعلى للحركة، حسب المؤرخ الصلابي، وكان يضم كبار رؤساء الزوايا في برقة وطرابلس ومصر والحجاز والسودان وشمال أفريقيا، وكان يجتمع سنويا في جغبوب للنظر في أهم أمور الحركة، وكان يرأسه محمد الشريف السنوسي وتُعرض قراراته على محمد المهدي، أما المجلس الخاص فكان يتكون من كبار الإخوان المقيمين في جغبوب، فيعقد جلساته اليومية بها، وكان هذا المجلس بمثابة مجلس الوزراء.
تطور النظام الإداري في عهد محمد المهدي، وحافظ على عدم الاصطدام بالدولة العثمانية، وكانت الثورة المهدية في السودان حدثا مهما في عهده، فقد اتفقت الحركتان في دعوتهما على العودة إلى الأصول الدينية “القرآن والسنة“، وهناك تقارب جغرافي بينهما، مما يستدعي الائتلاف.
وأرسل مهديُّ السودان رسالة إلى محمد المهدي السنوسي يدعوه فيه لاتباعه، لكن كان هناك فارق جوهري بين الحركتين في المنهج؛ ودعا السنوسي إلى عدم الاستجابة للدعوة، وكان رده “إنه إنما يُعنَى بالدعوة إلى إصلاح الدين سِلْما لا حربا، بينما تنفر الملة التي يُراد إحياؤها نفورا عظيما، بل وتشتد ثورتها ضد الدماء التي يهدرها والجرائم التي يرتكبها في السودان“.
أوصى ملك واداي “بألا يحرك ساكنا مع المُتَمَهْدِي، بل إذا جاءه محاربا يحاربه“، كما ينقل الصلابي، ولا يخفى ما في وصف “المتمهدي” من عدم قبول ادِّعاء مهديَّة محمد أحمد المهدي السوداني والتقليل منه.
محمد إدريس.. أول وآخر الملوك السنوسيين
وتولى أحمد الشريف شؤون الحركة بعد وفاة محمد المهدي، وشهد عهده الحرب العالمية الأولى وسقوط السلطنة العثمانية والاحتلال الإيطالي لليبيا، ثم تولى الحركة من بعده الأمير محمد إدريس السنوسي، وكان أميرا على برقة، وأُعلنت الجمهورية الطرابلسية في عهده، إلى أن رأى الطرفان وجوب الائتلاف مطلع يناير/كانون الثاني 1922، ثم انقطعت المفاوضات، إلى أن أرسل الطرابلسيون خطاب بيعة للأمير محمد إدريس في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه ليكون أميرا لقُطْرَي طرابلس وبرقة.
وقبِل الأمير البيعة، وأرسل ردا يؤكد فيه التزامه بحق الشعب في تسيير شؤونه، وأن الناس منذ نشؤوا أحرارًا، وأكّد التزامه الشورى، كما أبقى على إدارة القُطْر الطرابلسي لتتولى الشؤون هناك حتى تجتمع جمعية وطنية لوضع نظام البلاد، ويبدو من إبقائه السلطة بيد الطرابلسيين عدم رغبته في الاستبداد بالرأي، رغم خطاب البيعة المُرسل إليه.
تسارعت الأحداث عقب ذلك، وحاول الإيطاليون قتل الأمير إدريس بالسم، ثم خرج من إيطاليا إلى مصر. ومنذ منتصف 1923 تقريبا، اشتعل الجهاد بقيادة الشيخ عمر المختار، وكان الأمير إدريس عهد إليه بالأعمال السياسية والعسكرية في برقة، كما أورد الصلابي.
وفي 11 سبتمبر/أيلول 1931 أُسر الشيخ عمر المختار، ونفذ حكم الإعدام فيه يوم 16 سبتمبر/أيلول في سلوق (جنوب بنغازي)، بحضور آلاف الليبيين الذين أُرغموا على الحضور، وكانت إيطاليا ارتكبت مذابح بليبيا وهجرت أهلها، وخرج أغلب القادة منها، إلى أن انهزمت في الحرب العالمية الثانية، وأُخلي القطر الطرابلسي بأكمله من الإيطاليين والألمان في السابع من أبريل/نيسان 1943، حسب الصلابي.
بايعت الجمعية الوطنية التأسيسية الأمير محمد إدريس السنوسي ملكا للبلاد أواخر عام 1950، ليكون أول ملك لليبيا من الطريقة السنوسية، وبعد عام أعلن الملك محمد إدريس السنوسي استقلال ليبيا في 24 ديسمبر/كانون الأول 1951، ودعا الملك أشقاءه العرب إلى “التمسك بالدين الكامل والخلق الفاضل والاتحاد الشامل، فلن يُغلب شعب يحرص على هذه الأركان“. ، كما دعاهم إلى “تحرير الفكر من قيود التقليد وأن يعتبروا الدين صديقا للعلم“، كما ينقل الصلابي.
كما أصدر الملك أمرا بتعديل قانون البيت المالك، ألغى بموجبه حصانات وامتيازات الأسرة، وألغى ألقاب الإمارة والنُّبْل من البيت السنوسي، وأمر أيضا بألا تُقبل أي هدية مقدمة من الشعب إليه في أي مناسبة تتعلق به أو بغيره، وطلب في بلاغ ملكي ممن يريدون ذلك أن يوزعوا المبالغ على الفقراء، حسب الصلابي.
استمر حكم الملك إدريس إلى أن تقدم باستقالته عام 1965. وشهدت هذه الفترة أحداثا كثيرة، أبدى فيها التزامه بالمؤسسية، واهتمامه بقضايا الأمة، كدعم الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، وكان تنازلُه عن الحكم بسبب كبر سنه وخشيته ألا يقدر على الوفاء بالتزاماته دليلا على مجافاته الاستبداد.
لكن الشعب خرج رافضا استقالته فرجع عنها، ثم استقال مرة ثانية في أغسطس/آب 1969، استقالة نهائية لأنه أصبح “عاجزا عن حمل هذه الأمانة الثقيلة“، وكان قد بلغ 82 عاما. وفي سبتمبر/أيلول وقع الانقلاب العسكري لينهي حكم العائلة السنوسية، وكان إدريس في رحلة علاج وقت وقوع الانقلاب، فرفض تسلم ما تبقى في عهدته من مخصصات –ولم يكن معه مال– لأنه لم يعد مَلِكًا لليبيا، ولم يعد المال من حقه، ويجب أن يُسلَّم إلى خزينة الشعب، كما نقل الصلابي.
___________