د. فتحي الفاضلي
يلاحظ المتتبع لتاريخ الحركة السنوسية، شبه اجماع بين الليبيين، بمختلف انتماءاتهم الثقافية والفكرية، والجهوية، على تأييد ومباركة – او على الاقل احترام وتقدير– الحركة السنوسية ورجالها، في الفترة التي امتدت من تأسيس الحركة، وحتى نهاية حربها مع الانجليز، عام 1917م.
تلك الحرب التي انتهت بخروج احمد الشريف الى استنبول، عاصمة الخلافة آنذاك، واستلام ادريس السنوسي (رحمه الله) لقيادة الحركة.
ثم يلاحظ تفاوت الاراء عن الحركة، من بعد ذلك التاريخ، بين مؤيد ومتحفظ وناقد. واختلفت اسباب التأييد او التحفظ او النقد، تبعا للمكان احيانا، وتبعا للحوادث احيانا اخرى.
وليس من العدل ربط الحركة السنوسية، وتاريخها، بالعهد الملكي، بل ان الفصل بين الاثنين يعتبر ضرورة، من اجل الوصول الى دراسة موضوعية، بعيدة عن العاطفة. وهذا لا يعتبر نقدا موجها للعهد الملكي، بل يعني ان الامرين، مختلفين تماما، وان الحديث عن العهد الملكي، لابد ان ياخذ حقه، من العدل والموضوعية والانصاف.
“وفي أربطة السنوسية وزواياها، نمت بذرة المقاومة، ومنها انبثق جهاد عمر المختار، الباسل النبيل“ (سيد قطب)
لقد تميز العهد الملكي بايجابيات، لا حصر لها، وخاصة فيما يتعلق بالامن، وحقوق الانسان، والامان، وما يتعلق بالمحافظة، على الشعائر الدينية، وحرية الصحافة، وحرية السفر، والصحة، والتعليم، والنشاطات الثقافية، والاقتصادية. وللعهد السابق، بالرغم من ذلك، اخطاء عديدة ايضاً، وله اعداؤه ومنتقدوه ومعارضوه.
والحكمة تتطلب التركيز على ايجابيات العهد الملكي، وتحديد سلبياته، بموضوعية، بعيداً عن العاطفة، وبعيداً عن التجني ايضا، وذلك من اجل استخراج ما هو صالح منها، ونبذ ما هو سلبي. اما الحركة السنوسية فقد جاءت وليدة لمتطلبات العالم الاسلامي في ذلك الوقت، وقدمت الكثير لهذه الامة، حسب امكانياتها، ودخلت التاريخ الاسلامي، كاحدى الحركات الاسلامية، التي وقفت في القرن التاسع عشر، ضد الزحف الصليبي المعاصر، على الوطن الاسلامي.
ولم تكن الحركة محلية النزعة، ولم يفكر مؤسسوها بذلك، بل كانوا لا يرضون باقل من ان تكون حركتهم، حركة عالمية، تعمل على نهضة الامة الاسلامية جميعها، من واقع الانحطاط الذي تردت اليه. وقد ذُكرت هذه الحركة بالخير، من قبل الكثير من رجال الدعوة الاسلامية المعاصرة. كما ذكرها الكثير من الكتاب الغربيين، كحركة عقائدية تصادم وتعادي مصالحهم.
كان تأثر محمد بن على السنوسي بحالة الضعف والانحطاط التي وصل اليها العالم الاسلامي في عصره، سببا رئيسيا في تكوين الحركة السنوسية. فجاء تأسيس هذه الحركة آنذاك، كمحاولة للنهوض بالعالم الاسلامي، وايقاضه من غفلته، بعد أن مس الضعف والتأخر جميع نواحيه. وقد أرجع السنوسي هذا التأخر، الى عدة اسباب منها: جهل المسلمين بامور دينهم، وتفرق آرائهم، وتعدد مذاهبهم، وفقد روح التضحية عند العلماء، وحاجتهم الى الحماسة لنشر الاسلام.
ادت حالة الانحطاط هذه – وكنتيجة طبيعية ومتوقعة – الى انتشار المسيحية في المناطق الاسلامية. وكانت افريقيا إحدى ضحايا هذا التقدم التنصيري، الذي تمثل في انتشار ما يسمى بالمبشرين او المنصرين فيها، حيث شهدت تقدما ملحوظا، للقوى المسيحية في ذلك الوقت.
وكان من نتيجة هذا الضعف والانحطاط ايضا، ان تمادت اوروبا –التي كانت في اوج مجدها آنذاك– في تحدي العالم الاسلامي عسكريا، واقتصاديا، وعقائديا، فتزامن بذلك تأخر المسلمين وتخلفهم مع نمو القوة الاوربية، وزيادة خطرها وأطماعها في العالم الاسلامي. لذلك كان وجود الحركة، ضرورة حتمتها المرحلة التي تكونت فيها.
وكانت الحركة السنوسية، تهدف الى تحقيق بعض الاصلاحات المحلية والعالمية، وتهدف الى تجديد العالم الاسلامي، على اسس الكتاب والسنة، تجديدا روحيا كاملا. وبنت لذلك مفهوما، على اساس ان تحرير الاسلام سياسيا، من الغزو الغربي، يجب ان يسبقه انعاش روحي ومعنوي، عميق للمسلمين، توطئة لتحقيق وحدة الشعوب الاسلامية.
ولتحقيق ذلك، عملت السنوسية على عدة محاور، كان اهمها اصلاح الفرد المسلم، الذي يعتبر نواة للمجتمع الاسلامي. فربت الحركة الفرد المسلم، تربية تشعره بالعزة، وتغرس فيه صفة إباء الضيم، ومقاومة السيطرة الاجنبية. ثم عملت على تكتيل المسلمين ضد النفوذ الخارجي، عن طريق استعراض أوصاف الكفر والايمان في ذهن المسلم، وما يجب على المسلم إتباعه، في شأن الولاية العامة، من قبل غير المسلمين، من الحكام والولاة، اذا ما قيض لهؤلا، ان يديوا امر المسلمين.
ثم تجاوزت هذه الحركة المجتمع الاسلامي، فحملت لواء دعوة التبشير بالاسلام بين القبائل الوثنية. كما كانت تقوم بالدعوة الى الاسلام، نقيا بين المسلمين، وتربي روح القوة فيهم، والاخذ بما هو من اسباب القوة، في العصر الحاضر، وتدعو الوثنيين، وبقايا العناصر القديمة الى الاسلام، في وسط افريقيا وسواحلها. وامتد النشاط الى السودان الغربي والى سلطنة واداي الاسلامية، في افريقيا الاستوائية، كما انتشر دعاة السنوسية، في صحراء مصر الغربية.
واستهدف هذا النشاط نشر الاسلام في البلدان الوثنية، او اصلاحه في البلاد التي تدين به من قبل. ومن مظاهر الاصلاح، اقرار البدو، وتدريبهم على الزراعة، ثم نشر الثقافة الدينية، وهي بالنسبة لذلك العصر، الوسيلة الوحيدة لنشر التعليم. ونتيجة للعمل داخل المجتمع الاسلامي وخارجه، فان الافا من رجال القبائل، الذين كانوا مسلمين بالاسم فقط، ولاجيال عدة تحسنوا خلقيا وروحيا. بينما اعتنق الاسلام في افريقيا الاستوائية عدد اكثر منهم بكثير.
وكان العمل على اصلاح الفرد المسلم روحيا وخلقيا، والعمل على نشر الاسلام في المناطق غير الاسلامية، متزامنا، مع عمليات احياء التراث، وازالة الغفلة الطويلة الرتيبة، واعداد الناس للدفاع عن الاوطان، والاعراض، في سبيل اعلاء كلمة الحق في هذه الربوع.
ولتحقيق هذه الاهداف، رفعت الحركة السنوسية مباديء، تدل على بعد النظر، والادراك لفقه الدعوة، ولطبيعة هذا الدين الحنيف، ويمكننا ابضا ان نستشف منها حال الامة في ذلك الوقت.
أما مباديء الحركة، فيمكن تلخيصها في النقاط التالية:
ـ ليست هناك حدود تقسم العالم الاسلامي ، فالحركة الاصلاحية، يلزم ان تكون شاملة لكل اقطاره، او اكثرها بقدر الامكان.
ـ الحركات الاصلاحية يلزم ان تكون سياسية وفكرية في نفس الوقت، أما إصلاح جانب بدون الاخر، فذلك نقص في الحركة، فالاسلام دين ودولة، عبادة وعمل.
ـ العالم الاسلامي يواجه حركة التبشير المسيحية، ولذلك يلزم ان تعني الحركة الاصلاحية بنشر الاسلام، وخاصة بين اللادينيين، قبل ان تسبقه المسيحية في هذا الميدان.
ـ العودة الى يسر الدين الاسلامي، والاعتماد على الكتاب والسنة، والانتفاع بالمذاهب المختلفة، فيما يناسب المسلمين، وييسر حياتهم، بالاضافة الى تنقية الاسلام من البدع والضلالات.
ـ الزهد والخمول والاستجداء، التي كانت طابع بعض الطرق ، ليست من الاسلام في شيء.
وقد ظهرت آثار الحركة السنوسية ونجاحها في كثير من المجالات. فمن الناحية العلمية صار معهد الجغبوب اعظم مدرسة لنشر الاسلام في اواسط افريقيا.
ومن الناحية الاجتماعية والاقتصادية قضوا على العداوة القائمة بين القبائل، واقتلعوا جذور النزاع الذي كان مستمرا بينهم. وقامت الزوايا السنوسية بعدة وظائف، فهي مدارس، ومراكز اجتماعية، وتجارية، وحصون، ومحاكم، ومصارف، ومخازن، واماكن آمنة، وملاجيء للفقراء.
وفيما يخص الجهاد، أنتجت هذه المدرسة، قوما لهم شغف بالموت، فاذا سمعوا نداء الحرب، هرعوا كالسيل من كل مكان.
يقول الشهيد “سيد قطب“، عن دور الزوايا السنوسية، في احياء حركة الجهاد: “وفي اربطة السنوسية وزواياها، نمت بذرة المقاومة، ومنها انبثق جهاد عمر المختار، الباسل النبيل“، ويقول اللواء محمود شيت خطاب:” لقد كان لجامع القرويين في المغرب، ولجامع الزيتونة في تونس، ولجمعية العلماء في الجزائر، وللزوايا السنوسية في ليبيا، جهاد مشرف للمستعمر الغاشم، فمنها تخرج قادة الجهاد، ومنها انطلق الثوار، وهي التي حفظت للمغرب العربي، عقيدته الاسلامية، ولغته العربية، وهي التي كانت ولا تزال، موطن الشرف الرفيع، وموئل الفضيلة والعلم، فهي قوة أي قوة، للمغاربة، وهي مفخرة من أعظم مفاخرهم“.
وتوضح نظرة الغرب الى الحركة السنوسية، طبيعة العلاقة بين الحركة وخصومها، فقد شعرت فرنسا بخطورة دعوة محمد المهدي السنوسي، بعد ان اوصلت لهم مخابراتهم، معلومات عن نشاطه مع الحجيج في الحجاز، ومنهم– اي من الحجيج– مسلمو شمال افريقيا، التي كانت تحت السيطرة الفرنسية.
لقد دأب السنوسيون على اغتنام الفرص بكل جهدهم، لتعميم حركة بعث الاسلام بين الحجاج، من كل بقاع العالم، وذلك هو السبب الذي من اجله اصبحت السنوسية، معروفة حتى في البلاد النائية كالملايو واندونيسيا والفلبين. ولذلك منعت فرنسا نشر الطريقة السنوسية، التي تعدها خطرا عظيما على الاستعمار.
وحاولت ايطاليا التقرب الى المجاهد أحمد الشريف، حتى تكسبه الى جانبها، اثناء غزوها لليبيا. وحاولت بريطانيا النقرب اليه، عن طريق العديد من قياداتها، ومنهم الجنرال كتشنر– المعتمد البريطاني في مصر– الذي بعث برسالة لأحمد الشريف– قبل بداية الهجوم السنوسي، على القوات الانجليزية عام 1915م، يقول له في مقدمتها، التي تفوح منها رائحة النفاق:
“الى مهبط اسرار الحضرة الربانية، ومصدر صفوة الارشادات اللدنية، صاحب التجليات الانسية، والنفحات القدسية، قطب دائرة اهل الفضل والكمال، وخلاصة ارباب الحجا والجلال، المتحلي بروحانية أسلافه الطيبين الطاهرين، المتحلي بصفات اهل الجمال واليقين، المتخلي عن اوضار الاغيار، في مهيع عبادة رب العالمين، دوحة الشجرة الهاشمية، ونصعة السلالة العلوية، خليفة صاحب ذلك النور القدسي، سيدي احمد الشريف السنوسي، رضي الله عنه وايده بروح منه.
اما ماكمهون، نائب ملك بريطانيا في الهند، ومندوبها في مصر، فيقول في رسالة أخرى بعثت في يناير 1915م: “الى قطب دائرة اهل الفضل والكمال، وخلاصة أرباب الجلال، إمام المصلحين، وقدوة المرشدين، الاستاذ الاعظم والملاذ الافخم، السيد احمد الشريف السنوسي، اعزه الله. سلام الله الاسنى، وتحياته المباركة الحسنى، تخص مقام السيادة“.
ولم تتوقف العداوة لهذه الحركة، على فرنسا وبريطانيا وايطاليا، بل اصبحت اوروبا ترى في قائد الحركة، اكبر خصم لحركات التنصير، في القارة الافريقية، وقد بُذلت جهودا كثيرة لعرقلة هذه الحركة، حتى يخلو الجو للقساوسة والمبشرين، للعمل في افريقيا وخضد الشوكة الاسلامية في تلك الديار.
واتبع الاوربيون عدة وسائل للتصدي للحركة منها:
الضغط على السلطان عبد الحميد، لاحضار المهدي السنوسي الى استنول، وحجزه هناك، بعد أن اوعزوا للسلطنة خطر الحركة السنوسية على الخلافة نفسها، وذلك في محاولة اوربية للايقاع بين الحركة والسلطان عبد الحميد.
وفشلت هذه المحاولة، نظرا لان قائد الحركة استطاع ان يقنع السلطان عبد الحميد، بحقيقة النوايا الاستعمارية تجاه حركته. وبالرغم من فشل هذه المحاولة، الا ان زيادة الضغط الاوربي، اضطرت السنوسي الى ان ينتقل الى الجغبوب.
ثم تطور الصراع الى ان وصل الى التصادم العسكري بين الحركة وفرنسا، في الجنوب الليبي، ومع بريطانيا وايطاليا في الشمال. وهكذا شغلت الحركة افكار الدولة الاستعمارية من كل جهة، فانجلترا تحسب حساب الحركة وقائدها، من جهة السودان المصري، وفرنسا من جهة واداي، ومستعمراتها في اواسط افريقيا، وشمالها وغربها، وايطاليا كانت تتزلف اليه، لعلها تنال سكوته، فيما كانت تنويه من الغارة على طرابلس.
كانت هذه هي نظرة الاوربيين الى الحركة السنوسية، نظرة ريبة وحذر وترقب وخوف. ولم تخب نظرتهم تلك، فقد حققت الحركة عنصرين، ما كان لأي استعمار او عدو للاسلام والمسلمين ان يتقبلهما، او ان يتحمل وجودهما، وهما عنصري الانتشار والجهاد.
فقد دخل استجابة لهذه الدعوة القوية المستمرة، عدد لا يحصي الا بالوف الالوف في نيجيريا وغانا وغينيا والسنغال والكونغو وتشاد واوغندا وروديسيا، وغيرها من وسط افريقيا، وقد ضايق ذلك المنصرين، وحاولوا ان يتباروا معهم فباءوا بالخسران. واتسع نطاق الحركة سياسيا فبلغ من الحدود المصرية شرقا، الى شواطيء الاطلنطي غربا، من خلال برقة وطرابلس وفزان وصحراء الجزائر ومنطقة تشاد.
ووصلت الدعوة السنوسية حاملة الاسلام، الى بلاد كور وتبستي وبركو واندي ودارفور وواداي وكانم وشاد وارقر وبقرمي. وعن طريق الحجيج وصلت الدعوة الى الملايو واندونيسيا. كما كان للحركة اتباع في الحجاز.
وقد جاء هذا الانتشار ، حقيقا للمبدأ الاول الذي نادت به الحركة، والذي يؤكد انه ليس هناك حدود تقسم العالم الاسلامي، وتحقيقا كذلك للمبدأ الثالث، الذي أكد خطورة حركة التبشير المسيحي، وضرورة ان يسبق المسلمون الى ميدان نشر الاسلام، قبل ان يسبق المسيحيون الى نشر عقائدهم. وقاد الحركة ورجالها في هذا المجال، معركة عقائدية، كان فيها الكثير من الخير، للاسلام والمسلمين، حتى يومنا هذا.
وترجمت الحركة مبدأ الجهاد عمليا، فقد كانت مدرسة تعلم المسلمين الجهاد، والتجرد لله سبحانه وتعالى، وعدم الركون الى الدنيا، والشجاعة في الحق، وقد اندفع اتباعها، بتوجيه من مشايخها، يجاهدون المستعمرين، بقلوب امتلأت إيمانا، وبجرأة قل نظيرها، وبنظام دقيق، تعلموه في زواياهم المبثوثة، هنا وهناك.
فقد اعلنت الحركة، الجهاد، الذي انطلق من عام 1902م الى 1909م، ضد الفرنسيين في اواسط افريقيا، وفي الجنوب الليبي، وضد الانجليز في شرق ليبيا من 1915م الى 1917م، وضد الايطاليين من 1911 الى 1931م. واظهر هذا الجهاد، قوة العقيدة الاسلامية، في تحريك الثورة ضد القوات الاجنبية، كذلك اوضحت المعارك، مدى تأثير العقيدة الاسلامية، في دفع المؤمن، الى التفاني في خدمة وطنه، على اعتبار انه وطن الاسلام، وكيف تهيئه لتقديم روحه فداء له.
وهكذا سجلت الحركة السنوسية، بصراعها من اجل نشر الاسلام، وطرد الغزاة، وايقاف المد الصليبي، جولة رئيسية، من جولات الصراع، بين الاسلام وخصومه، على ارض ليبيا.
____________
المصدر: موقع الكاتب على النت
Injection site atrophy Injection site pain Dry skin Insomnia Pain Spinal osteoarthritis Adenoma benign Breast cancer in situ Breast tenderness Colonoscopy buy priligy online