ابراهيم عبد العزيز صهد
عندما وصلنا إلى قاعة الدرس المخصصة لنا وجدنا الرائد “مور” الذي كان يقع عليه العبيء الأكبر في تدريبنا، وقد تولى جاب الله مطر تقديمي إليه، فقال مازحا: بأنه لم يكن يتوقع أن يراني اليوم، وأردف مجاملا لكنه سعيد بحضوري، وأوضح بأنه سوف يخصص الساعة الأولى للمراجعة، وأنه سوف يخصص أحد المدرسين للبقاء معي بعد الدوام لتغطية ما فات بتوسع إن رغبت في ذلك.
كان طاقم التدريب يتكون من “الرائد: مور” يساعده عدد من الضباط، وكان التدريب العملي يتم بإشراف “نائب ضابط: كلارك” يساعده عدد من الضباط وضباط الصف.
وكان كلارك يمثل الجندي المحترف، أكسبته سنوات عمله متدرجا من جندي إلى نائب ضابط خبرة واسعة، وكان قد عمل فترة طويلة ضمن القوات البريطانية المتمركزة في ألمانيا، يتقن الألمانية والفرنسية، وقد قال عنه رؤساؤه بأنه الأكثر خبرة –من بين مدرسي المدرسة– بمنظومة الدفاع الجوي، علاوة على أنه كان مدربا ماهرا يستغرق في الشرح ويقحمنا في الاستنباط والاستنتاج، وكان يعرف كيف ينتقل بسرعة بين الحزم والمرونة، كان يستعمل بعض الكلمات الألمانية وكان دائما يكرر “ممتاز” وهي إحدى الكلمات القليلة التي يعرفها بالعربية.
كانت أجواء التدريب يسودها الروح العلمية بعيدا عن جفاف العسكرية البريطانية، وكانت أطقم التدريب تتوخى التفاعل معنا بكل إيجابية. كنا نقضي ساعات التدريب بين الدروس النظرية في قاعات الدرس، وبين الدروس العملية في مواقع بطاريات الصواريخ الموزعة على ساحات التدريب، وكانت أجواء صيف ذلك العام مناسبة جدا للتدريب الخارجي، ولذلك فقد استفدنا بطريقة مثلى من الأوقات المخصصة للتدريب العملي.
هكذا التحفت بهذه المجموعة من الضباط، وقضينا وقتا مشتركا خلال ما يزيد على ثلاثة أشهر، نشترك في السكن، وفي الطعام، وفي التدريب العملي والنظري، ولا نجد مفرا من قضاء معظم أوقات فراغنا معا.
خلال هذه الفترة توطدت صلاتنا وعلاقاتنا، وارتفعت الكلفة بيننا، وبالذات توطدت علاقتي مع جاب الله مطر، وكانت بداية لصلة استمرت منذئذ ومرت بمحطات كثيرة، وشهدت تطورات متعددة لكنها كانت دائما مؤسسة على الاحترام والود المتبادلين، وخلال كل صلاتي به عرفت عنه سعة الصدر وحسن المعشر، كما عرفته بلباقته التي قلما بفقدها، هذه المعرفة والعلاقة امتدت منذ أن جمعتنا دورة التدريب في بريطانيا، مرورا بأيام الاعتقال في معسكر باب العزيزية، ثم خلال عملنا في البعثة الليبية للأمم المتحدة، أو في مرحلة النضال من أجل القضية الوطنية من موقعين مختلفين إلى أن اجتمعنا في الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا.
هذه العلاقة والصلة تطورت من علاقة بين ضابطين تختلف رتبتاهما جمعتهما دورة تدريبية، إلى صداقة متنتها تحديات ومحن مشتركة وهدف واحد، واتسعت هذه العلاقة لتشمل البعد الأسري أيضا.
سادت روح الفريق بين الضباط الأربع، وكان يحدونا أمل مشترك في إثبات جدارتنا ومواجهة التحدي الذي كان علينا أن نكون المقدمة في خوضه، وهو تحدي يتمثل في المشاركة في تأسيس منظومة للدفاع الجوي لأول مرة في بلادنا، وهي منظومة كانت بمعايير تلك الأيام تعد من أكثر نظم الدفاع الجوي تقدما.
لا أعرف حقيقة أن أية دولة عربية كانت يومها تمتلك مثل هذه المنظومة . لقد كان علينا استيعاب مفردات هذه المنظومة في وقت قصير جدا، وكان علينا أن نكون قادرين على نشر بطاريات الدفاع الجوي وتوزيعها، ثم قيادة المنظومة.
كنا دائما نذكر بعضنا بهذه المعاني، ونتعاون في استذكار الدروس، ونتنافس بكل ما تعنيه الكلمة من أجل التفوق، وهذا انعكس على استفادتنا من التدريب، وعلى نتائج الاختبارات المتعددة الأسبوعية والنهائية التي كان أداؤنا فيها متميزا.
لم يكن لدى الجيش الليبي حتى ذلك الوقت أية قدرات للدفاع الجوي، لم يكن لدينا حتى مدفعية ضد الطائرات، ولم يكن لدينا رادارات لاستمكان الطائرات المعادية. ولذلك كان الأمر جديدا علينا بالكامل، أن نقفز من الصفر إلى أحدث وأعقد التقنيات التي كانت متوافرة آنذاك.
الجلوس من اليمبن: الرائد محمد القذافي، الرائد مور، الرائد جاب الله مطر
الوقوف من اليمين: النقيب إبراهيم صهد، نائب الضابط كلارك، الرائد حامد الوشاحي
كان رفاقي الثلاثة قد جاءوا من وحدات مختلفة: جاب الله مطر كان من صنف المشاة وكان يعمل في إدارة الحركات برئاسة الأركان، ومحمد القذافي وحامد الوشاحي من صنف المشاة أيضا وقد عملا سويا في مدرسة المشاة وفي وحدات أخرى مختلفة، وكنت من صنف المخابرة وقد عملت في مدرسة المخابرة ثم في منظومة مخابرة الجيش، ولهذا فقد كانت خلفيتي والدورات التي تلقيتها في السابق عاملا مساعدا لي في أثناء تدريباتنا على مختلف مكونات نظام الدفاع الجوي خاصة فيما يتعلق بمنظومة نقل المعلومات بين المكونات من وإلى مركز القيادة، ومواقع الرادارات، وغرف التحكم والسيطرة، ومنصات إطلاق الصواريخ.
أصبحت عملية تكوين سلاح للدفاع الجوي ضرورية خاصة بعد أن تطورت قدرات الأسلحة الجوية في العالم، وتطورت قدرات الطائرات المقاتلة والقاذفة من ناحيتي السرعة وقوة النيران، وبعد أن أصبح التفوق الجوي على أرض المعركة من أهم عناصر الفوز.
كل هذه العوامل كانت بارزة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وخاصة بعد التطورات الهائلة التي شهدنها المحركات النفاثة التي جعلت الطائرات المقاتلة تتفوق على سرعة الصوت.
وكانت حرب يونيو 1967 شاهدا حيا وقريبا على المعادلة التي باتت تفرض نفسها استراتيجيا وتعبويا. بالتأكيد فإن قلة الإمكانات المالية قبل ظهور البترول في ليبيا كانت سببا في تدني تسليح وتجهيز الجيش الليبي، وفي الاعتماد على المساعدات التي كانت تحصل عليها ليبيا من بريطانيا وأمريكا.
وكان تناقضا رهيبا ينشأ بين مستويات التدريبات المتقدمة التي تلقاها عدد كبير من الضباط في المدارس العسكرية الأجنبية (اليونان وتركيا وأمريكا وبريطانيا)، وبين مستوى التسليح والتجهيز في الجيش الليبي، ففي حين يتلقى الضباط تدريبات على معدات وأسلحة متطورة وعلى التطبيقات التعبوية والاستراتيجية المؤسسة على هذه المعدات والأسلحة والمرتبطة بها، فإنهم يعودون إلى ليبيا ليتعاملوا مع معدات وأسلحة أقل ما يقال عنها أنها من أجيال تجاوزها التطور العسكري إن لم نقل بأنها منتهية الصلاحية. وهذا الخلل كان في الواقع مدعاة للإحباط.
كانت مساعي تحديث أسلحة الجيش بطيئة جدا وتقابل بممانعة من أوساط متعددة، وقد كان إدخال البندقية الآلية البلجيكية (FN) في الخدمة من أول خطوات التحديث، وتم ذلك خلال عام 1962-1963، ثم تمت خطوات متفرقة في هذا الصدد منها تزويد الوحدات بأجهزة سلكية ولاسلكية بأجهزة أمريكية حديثة، وغيرها من الخطوات المتفرقة والمتواضعة.
أول خطوة كبيرة تمثلت في التعاقد مع شركة T.M.C. الأمريكية على تزويد الجيش يمحطات لاسلكية تكفل للجيش الاستقلال باتصالاته السلكية واللاسلكية وباستخدام أحدث طرق الاتصال.
ثم جاءت الخطوة الثانية في عملية إعادة تنظيم وتسليح الجيش، والتي كانت عملية متكاملة لتزويد الجيش بأسلحة حديثة متطورة تشمل كافة الصنوف، مع تزويد سلاح الجو بطائرات حديثة، والبحرية بطرادات وزوارق الطوربيد السريعة، وكان من ضمن هذه العملية تكوين سلاح للدفاع الجوي، اختيرت له معدات بريطانية الصنع.
قبل توقيع صفقة الدفاع الجوي، قامت اللجان المختصة بالموازنة بين المعدات البريطانية ومثيلاتها الأمريكية، وقام وفد من اللجنة المشرفة على عملية إعادة تنظيم الجيش بزيارة لبريطانيا لفحص المعدات والأسلحة المزمع التعاقد عليها بما في ذلك زيارة قواعد الدفاع الجوي البريطانية للاطلاع على أنظمة الدفاع الجوي البريطانية.
وكانت العقود تشتمل على التزويد بالمعدات وتدريب الأطقم على التشغيل والصيانة. كانت رئاسة الأركان قد أعدت عددا من الضباط وضباط الصف ليشكلوا نواة الدفاع الجوي، وتم إعداد برامج التدريب بما فيها دراسة اللغة قبل الالتحاق بالدورات التخصصية، وقد تم نقل العقيد الركن عون اشقيفة من منصبه مديرا للحركات برئاسة الأركان ليتولى قيادة الدفاع الجوي.
كان الرائد عطية الديباني من بين الضباط الذين اختيروا ليتواوا مهام في قيادة الدفاع الجوي، ثم جرى اختيارنا نحن الأربع لشغل مناصب ضباط الركن في قيادة الدفاع الجوي.
وكانت الدورة التي تمت برمجتها لتكون دورة مركزة نتعرف فيها على مكونات المنظومة وكيفية تشغيلها وأساليب الربط والتنسيق بين مختلف مستويات أسلحة الدفاع الجوي، والتنسيق مع سلاح الطيران، وغيرها من الأساسيات التي تمكننا من التعامل مع هذه المنظومة الجديدة والإشراف على إنشاء أول سلاح للدفاع الجوي في ليبيا.
هكذا وجدنا أنفسنا وجها لوجه أمام هذا التحدي، وكان علينا أن نتعرف على مكونات هذه المنظومة منذ اليوم الأول لوصولنا إلى مدرسة المدفعية الملكية.
____________
المصدر: مدونة جولات في التاريخ الليبي