من السلاح والمواجهة .. الى سلاح الكلمة والاشتباك
من العمل المسلح … الي الاشتباك بالكلمة
واجهت الجبهة محاولات جماعية للاستقالة كان أهمها واخطرها في صيف عام 1985 حيث وقع 45 على مذكرة شديدة اللهجة لم تعرف الجبهة مثلها من قبل. وفي 1994 موجة اخري من الانسحابات الجماعية. وبين ذينك التاريخين انساحابات واستقالات وتراجعات واحتجاجات كثيرة.
لقد بلغ عدد العاملين في الجبهة والمرتبطين بها والمتعاطفين معها بضعة آلاف من الليبيين خلال حقبة الثمانينات. ولكن، في اواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، كان الرفض والعزوف هو الموقف بالنسبة لكثير من العاملين في الجبهة وأخذت الأعداد تتقلص. فمنهم من انسحب في هدوء، ومنهم من فاصل التنظيم ورجع الى ليبيا، ومنهم من تصالح مع النظام، ومنهم من خرج من التنظيم الي تنظيمات أخرى، ومنهم من تبخر واعتزل العمل بكل انواعه.
تركت الجبهة وتلك الاسئلة تعج في ذهني ليل نهار تكاد تعصف بي. كنت أمر بأيام في صراع مع نفسي. فالمسألة أولا وقبل كل شيء مسؤولية شخصية، تتطلب مواجهة شخصية مباشرة. وهي شأن أخلاقي وإنساني يحتاج المرء الى تسويته بينه وبين نفسه. فعمل الجبهة ترتبت عليه مصائر أرواح ومسؤوليات وتبعات لا نستطيع انكارها أو التهرب منها، وذهبت فيه ارواح أعز إخواننا وزملائنا واصدقائنا.
فماذا عن مسؤوليتنا تجاه الذين تكبدوا الخسائر من تشريد وسجن وتعذيب وترعيب للأهل والاقرباء في ليبيا؟
وماذا عن الذين دفعوا من أموالهم الخاصة مبالغ طائلة ذهبت هباء منثورا، ووكادت تفلس بهم؟
وماذا عن الذين تشتت حياتهم فانقطعت دراستهم وفقدوا مصادر رزقهم؟
ثم ماذا عن الذي قتلوا في ميادين المواجهة والسجون في سبيل عمل اشتركنا فيه سواسية؟
لم انقطع عن ساحة العمل الليبية. وكانت فترة النصف الأول من التسعينات فترة تخللها التأمل والانكفاء على النفس، وشيء من الصراع مع الارواح الشريرة للفترة السابقة.
ولكنني آليت على نفسي أن أجدد صلتي بالليبيين بصورة أو بأخرى. اتصلت بكل من له علاقة بالعمل السياسي الليبي ولم أتمكن من اللقاء بهم في السابق، إما لانشغالي أو لأننا كنا نعتبرهم عناصر غير فاعلة في الساحة.
فتعرفت على المزيد من النماذج والشخصيات والامزجة الليبية. وكان من أهم الاتصالات التي قمت بها في تلك الفترة الحرجة (1994) تعرفي على قيادة الجماعة الاسلامية المقاتلة الليبية الذين كانوا في لندن آنذاك.
كانت الجماعة قد وصلت الى مرحلة متقدمة في عملها. فقد خرجت من افغانستان وحولت معظم نشاطها العسكري وجهودها الى ليبيا. وقد كانت حتي عام 1995 جماعة غير معلنة وغامضة. وكان ـ نظرا لعملها ذي الطابع العسكري ـ لغموضها هذا ميزة تجعلها متفوقة على غيرها من الجماعات ومتقدمة بمرحلة على النظام الليبي الذي كان يلاحقها ويجمع كل ما تقع عليه يداه من معلومات عنها.
وعندما قررت قيادة الجماعة الاعلان عن وجودها في سبتمبر 1995 كان رأيي الذي ابديته لهم هو التريث وعدم الاعلان. ولكنهم أصبحوا يرون مجموعات آخرى تتبنى اعمالهم داخل ليبيا وكان ذلك يشوه نضالهم وجهادهم ولم يكن لهم من خيار إلا الإعلان عن الجماعة.
وبعث أولئك الشباب في نفسي روحا جديدة لمواصلة العمل، وكنت متشوقا الى التعرف على عملهم فإذا بهم مهتمين بجوانب أخرى غير العمل العسكري، وأنهم أبعد ما يكونون عن الارهاب، وأنهم يؤسسون نشاطهم على أسس فقهية واسلامية وشرعية رصينة.
وكانت لقاءاتنا تستغرق في الحديث عن العمل الوطني العام وتقييمه وعن مستقبل ليبيا وما عسانا أن نعمله لكي تعود اليها الحياة الطبيعية.
* * * *
اسباب الانسحاب من الجبهة
ويمكن تلخيص الاسباب التي أدت الى انسحابي من الجبهة فيما يلي:
• ترهل التنظيم وفقدانه للحيوية التي كان يتمتع بها فاضحى بالوعة للمصاريف مع تقلص المردود السياسي أو العملي للجهد المبذول.
• فقدانه للقدرة على اخذ القرار المستقل الذي يحفظ له مكانه كعمل وطني.
• دخوله في مسلسل اجندات أخري لا سلطان له عليها.
• تكاثر الأخطاء واضطرار القيادة الى التغطية عليها وعدم قدرتها على تصحيحها أو تلافيها أو حتى الاعتراف بها، واكبر ما كان ذلك ظاهرا على الاطلاق في العمل العسكري.
• عدم تعرف القيادة على لحظات الهزيمة وعدم اعترافها بها، وبدلا من المضي بعد ذلك في تلافي الاخطاء التي ادت اليها، أصرت على الهروب الى الأمام.
• اخفاق الجبهة بشكل كبير في التعامل مع الداخل.
* * * *
ما بعـد الجـبهــة والمعـارضــة
في التسعينات انشغلت بالعمل الخاص الذي لم يأخذني بعيدا عن أجواء ليبيا وشؤونها وهو الاعلام. واستمرت اتصالاتي بعدد من الزملاء الذين كانوا يشاطرونني بعض المشاعر والافكار والرؤى من داخل الجهة وخارجها. ومع أواخر التسعينات تحركت القضية الليبية من جديد في أكثر من اتجاه.
كان العمل المسلح الذي من ورائه الجماعة الاسلامية المقاتلة وغيرها من الجماعات المسلحة. وكان هناك حادثة دك المساجين السياسيين بالسلاح في سجن ابوسليم في ضواحي طرابلس العاصمة الذي أسفر عن أكثر من 1200 قتيلا عام 1996. وكان هناك اعتقال أفواج من “الأخوان المسلمون” وفرار مجموعة منهم خارج البلاد عام 1998. وكان هناك تسليم ليبيا لمتهيْن اثنين في قضية لوكربي الشهيرة للمحاكمة في هولندا.
كل هذه الأحداث مرت ولم يكن لنا حضور في الساحة لنعرض وجهات نظرنا. كان لنا حضور لا بأس به عبر الفضائيات العربية ولكنه غير كاف. وكانت لنا لقاءات ومناقشات خاصة تداولنا فيها وضعنا وامكانية عودتنا الى الساحة بشكل أفضل.
عدة اسلئة كان علينا أن نطرحا ونجيب عليها:
كيف نعود… ولماذا نعود؟
ما نوع الخطاب الذي نعود به، ولمن نوجهه؟
ما هي الوسائل التي نستعملها لمخاطبة الناس؟
ما هو محتوى الخطاب وما هي الأهداف التي نريد أن نحققها؟
ومن خلال النقاش والمداولات على فترة ليست بالقصيرة توصلنا الى عدد من القناعات المشتركة التي تصلح أن تكون منطلقا للعمل.
المعيار الأساسي كان دائما هو مراعاة مصلحة ليبيا وضرورة العمل على احتواء تفاقم الأزمات التي تواجهها. ولذا كان الاتجاه بالخطاب الى الداخل محصول حاصل. ورأينا أن الأمثل هو مخاطبة الليبيين جميعا بغض النظر عن ولائهم للنظام من عدمه، والحوار مع مختلف النخب وغيرها من فئات الليبيين. ورأينا استبدال الخطاب “المعارض” بخطاب “المشاركة” والاشتباك الايجابي.
ورأينا توجيه الخطاب بحكم اننا ليبيون وبحكم أننا مجموعة مدنية غير سياسية كي ننزع فتيل السياسة بالكامل من المعادلة مع النظام كما نزعنا من قبل فتيل العمل العسكري واللجوء الى القوة.
وكانت هناك ضرورة للاستعداد للحوار مع أي كان من الأطراف المعادية أو المخاصمة لنا، وأن يكون الحوار مفتوحا وعقلانيا وصريحا، وبوسائل حضارية، وأن تنبثق من خلال الواقع الليبي كما هو. وأصبح من الضروري إعادة رسم خريطة الادراك الثقافي والاجتماعي والسياسي لدى المواطن الليبي.
وجرت حوارات ومناقشات متواصلة منذ أواخر التسعينات جمعت عددا من الشخصيات الليبية في أوروبا وأمريكا تجمع بينهم إهتمامات وافكار وقناعات وتجارب مشتركة ومتقاربة. وكان الهدف هو التوصل الى طرح واقعي وخطاب معتدل من أجل عقلنة التدافع السياسي على الساحة الليبية. وذلك إيمانا منا بأن مشكلة ليبيا لم تعد سياسية أو اقصادية وحسب بل أصبحت لها أبعاد إنسانية أخلاقية تحتاج الى حلول شاملة السلطة وحدها غير قادرة لتقديمها.
لمسنا الحاجة الى توظيف الاعلام وخاصة الانترنيت. فأنشأنا موقع “اخبار ليبيا” في اكتوبر 2002 ومواقع اخري بعد ذلك منها “المنتدى ليبيا” h و “ليبيا الشفافية” وأصدرنا مجلة دورية باسم المنتدى الليبي كشاهد يوثق مسيرتنا الجديدة، وأصدرنا الأبحاث والدراسات وشاركنا في اللقاءات والمؤتمرات الدولية للمنظمات غير الحكومية لاثبات وجودنا في الساحة.
ومن هنا انبثق مصطلح وفكرة “الاصلاح” بكل معانيه وإيحاءاته وبكل ما يترتب عليه من مسؤوليات والتزامات. وانطلقنا بفكرة منتدى ليبيا للتنمية البشرية والسياسية كمجهود أهلي وكبيت للخبرة ليس له أي صفة تنظيمية أيديولوجيه أو دينية أو سياسية.
ومن هنا انطلقنا كل في مجال حركته، وبما لديه من اتصالات وما وهبه الله من امكانيات. وكان في نصب أعيننا الليبيون في الداخل وما مدي تجاوبهم مع طرحنا.
كانت السياسة ولا تزال أهم مجالات التنمية والتقدم في المجتمعات. ولكننا نمارسها بصفتنا مؤسسة أهلية لا تحمل أي صفات حزبية أو ايديولوجية. فنحن لا نخوض المعارك السياسية لنكسب الأصوات أو مناصب الحكم أو لنتاقسم حصصا في السلطة أو لنساوم عليها. فمركز اهتمامنا الأساسي هو المجتمع وانحيازنا دائما الى صفه.
أصبح الاصلاح همنا، بغض النظر عمن تبناه أو دعا اليه أو حاربه. فهو منهج جميع أنبياء الله ورسله عليهم السلام، وهو منهج كل المصلحين أين ما كانوا وفي أي مجتمع ولدوا وفي أي ثقافة أو حضارة وجدوا.
ـــــــــــــــــــ
الخـلاصــة
لقد كانت الحياة هي مدرستي الكبرى. ففيها عرفت الناس ومنهم تعلمت. فيها واجهت الاحداث وعاصرتها. واكثر ما علمتني الحياة أن لله سبحانه وتعالى سننا تحكم هذا العالم وتعمل عملها فيه، وأن أمر الله نافذ لا راد لحكمه مهما حاول الانسان أن يتدخل في توجيه شؤون العالم أو الحياة أو السير بها الى حيث يريد.
فالقوانين الآلهية ـ سواء عرفناها أم لم نكن على علم بها ـ هي صاحبة الكلمة الأخيرة ولها الأمر من قبل ومن بعد… ولن تجد لسنة الله تحويلا ولن تجد لسنة الله تبديلا. وما دور الانسان في هذه الحياة إلا البذل والعطاء عسي ألاّ يكون شقيا.
_____________