ومن التغيير بالقوة إلى أسلوب العمل السلمي

علي رمضان ابوزعكوك

المراجعات:

أولا: بعد معايشة محاولات العمل المعارض للنظام الحاكم داخل ليبيا كمواطن بمحاولة إبداء الرأي أو بالسعي لبناء مؤسسات المجتمع المدني، أو في الخارج بطرح برامج للمعارضة ضد النظام القائم في ليبيا؛ وكما هو الحال في المعارضات الأخرى، بيّن بأن محاولة تغيير النظم القائمة بالقوة لم تؤدي إلا للمزيد من العنف وسفك الدماء وذلك للعديد من الأسباب منها:

  1. عدم توازن القوى في الكفتين، فالدولة الحديثة متغولة في تعاملها مع من يعارضها وهي تمتلك السيطرة على الأجهزة الأمنية والوسائل الإعلامية وتتحكم في مصادر الثروة، وهي حقيقة من بيدها (السلطة والثروة والسلاح).

  2. كما ظهر من نتائج قيام العمل الفدائي الجبهة بمحاولة مايو سنة 1984 (باب العزيزية)، كيف استطاع النظام من التمكن من ضرب البنى التحتية للمعارضة الداخلية.

  3. كان لنشأة العمل المعارض في الخارج أنه أصبح كالسمك الذي يسبح خارج الماء، وقد واجهت الجبهة الظروف الصعبة، أثناء قيامها بمحاولة بناء شبكة التنظيم الداخلي. والتي ضرب معظمها بعد أحداث مايو 1984

  4. تحالف دول النظام الإقليمي ضد قوى المعارضة، ولدى فإنها لم تسمح للقوى المعارضة بالقيام بنشاط من على أراضيها، إلا حينما تجد في ذلك تحقيقا لمصلحتها، وكذلك فهي عادة ما تعمل على استخدام ورقة المعارضة للضغط على النظام الليبي أثناء الحوار معه، بل وقيام بعض هذه الدول بتسليم معارضين للسلطات الليبية بعد ما أعطتهم الأمان، نظير ثمن بخس، دراهم معدودة.

  5. محددات الواقع الدولي، فبعض الدول وخصوصا الغربية قد تمنح المعارضين حق اللجوء السياسي، ولكنها كدول تسعى لتحقيق مصالحها، وليس في السياسة مواقف أخلاقية مبدئية، ولذا فإن سياساتها تدور حسب الظروف والأفراد، ولكن هذه السياسة في الغالب تسعى لتحقيق مصالحها التي هي متوفرة مع النظام الحاكم.

ثانيا: لقد بينت تجربة العمل المعارض البون الشاسع بين المنطلقات الفكرية والممارسة العملية، إذ لم تتمكن الجبهة من تطوير نفسها لتصبح مؤسسة القائمة على ممارسة الديمقراطية، وتغلبت الفردية في اتخاذ القرار على الرأي الجماعي، كما اثبتت أن هناك إشكالية كبيرة بين العمل السياسي المعارض وبين العمل الجماعي الديمقراطي.

ولأننا كنا نعتقد أن وجودنا في الغرب حيث تسود في مجتمعاته ثقافة حرة سيدفعنا إلى التعلم منها والخذ بها لبناء ثقافة حضارية جديدة فيما بيننا تحترم الرأي والرأي الآخر ويغلب عليها ثقافة أدب الاختلاف.

واستقلت من الللجنة التنفيدية من الجبهة سنة 1987، وبقيت عضوا عاملا من أجل إصلاح الجبهة ديمقراطيا. وبالرغم من انتخابي للمكتب الدائم الذي يعتبر الهيئة المتابعة والمراقبة للجنة التنفيدية إلا أنني مع مجموعة من أعضاء الجبهة قررنا الخروج منها ببيان مسبب سنة 1993. وقد بينا في هذا البيان أسباب اتخاذنا لهذا الموقف، وعدم الرضى بطريقة العمل في الجبهة، التي رفضت قيادتها جهود الإصلاح.

وقد كانت الفترة ما بين 1993 إلى 2001 فترة حوار ونقاش بين عدد من قيادات الجبهة التي تركتها للنظر في كيفية الاستفادة من خبراتنا المتراكمة بإيجاد مناهج أوأساليب جديدة لخدمة قضية الوطن.

وقد كانت تلك الفترة هي فترة الإرهاصات لبدء العمل الجدي في تكوين منتدى ليبيا للتنمية البشرية والسياسية

ما هو المنـتدى.. ولمـاذا ؟؟

انطلقت فكرة المنتدى، ليلعب دوره في تحفيز الطاقات والعناصر المبدعة، وتأسيس الوعي المستـنير، ومزاولة الضغط السلمي العلني البنّاء بكل أنواعه ووسائله الثقافية والفكرية والسياسية والاجتماعية، وطرح الرؤى الوطنية المستقلة، المتحررة من قيود الإيديولوجية والحزبية، والمنفتحة على كل الآراء والآفاق.

والأمل أن يجد الباحث في هذا الخطاب الأفكار والرؤى والأطروحات والمشاريع التي تشغل اهتمام النخب الفكرية والسياسية والحركية أو التي تشكل برامج العاملين في هذه الساحات المختلفة.

لقد تبين أن غياب الحريات العامة وغياب سيادة القانون ومؤسسات المجتمع المدني في أي مجموعة بشرية، وغياب الاستقرار وآليات المحاسبة والمراقبة في تركيبة أي دولةهي وصفة نكِدة كفيلة حتما بأن تؤدي إلى انحسار الطبقة المبدعة، وتعطيل الطاقات والقدرات الخلاقة المعول عليها في النهوض بالمجتمع، وتخلف الأداء الفردي والجماعي السليم، وإجهاض محاولات النهوض والتنمية بمعناها الإنساني الواسع الشامل.

هذه الملامح تصف جزئيا الحال التي آلت إليها الأوضاع في ليبيا خلال العقود الثلاثة الماضية. وهي البيئة والمعطيات التي نشأت فيها فكرة منتدى ليبيا للتنمية البشرية والسياسية الذي أعلن عن تأسيسه في يوليه 2003.

    فهو عصارة مجموعة من القراءات والخبرات والتجارب الميدانية والحركية في مجال العمل الثقافي والفكري والسياسي والميداني العام

   وهو مرجل لتجميع الخبرات والمعلومات والمعارف والمهارات

   وهو بوتـقة للبحث والتحليل والدراسة في شؤون المجتمع والدولة

   وهو منبر فكري ثقافي للتمحيص والحوار وصهر الآراء والأفكار

   وهو محور تتجمع حوله خيرة الإمكانيات والقدرات العاملة في الساحة

  وهو منبر يتجاوز الشكليات والأنماط والترسبات والحواجز الفكرية والتنظيمية والحزبية ليغوص في المضامين ويوجه الأبصار والاهتمام نحو المستقبل المشترك تحت مظلة واحدة هي: ليبيا الوطـن

  وهو طاولة مستديرة تحترم كل الآراء والتوجهات، وتعتبر الاختلاف والنقد والتمحيص والحوار أساسا للإبداع والإثراء والتجديد.

إن أساليب الحكم المتبعة في ليبيا على مدى العقود الثلاثة الماضية، والإدارة السياسية والاقتصادية الأوتوقراطية (حكم وفكر الفرد المطلق)، والانفصام المدمر بين السلطات والصلاحيات من جهة والمسؤولية والمحاسبة من جهة أخرى

أدت الى تراجع مخيف في الأسس الأخلاقية والسلوكية القائم عليها مجتمع ليبيا القرن الواحد والعشرين. وقد ترتبت على ذلك تجاوزات وانتهاكات وممارسات مستهجنة لا يقبل بها دين ولا عرف ولا قانون ولا تقاليد. ممارسات غريبة كل الغرابة عن طبيعة المجتمع الليبي في القديم والحديث

هذا الوضع السقيم يعكس التناقضات المخيفة في تركيبة المجتمع بين واقع الناس وبين الشعارات والمباديء التي يُحكمون بها. ويُظهر التفاوت الكبير في مستويات التعليم والمعيشة والامتيازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمادية المتوفرة لمختلف فئات المجتمع. كما أنه يُفضي إلى انهيار القيم والمعايير التي تقوم عليها لُحمة المجتمع حتى يقال في وصف ليبيا بأنها: أغنى دولة وأفقر شعب.

وتنقلب الموازين التي اعتادها الناس، فيبرز الرجل المناسب في المكان غير المناسب، والعكس بالعكس، ويكتسب كثير من المضامين والمسميات المتعارف عليها بين الأسوياء من البشر أسماء وعناوين لا تمت لمضامينها ومسمياتها بصلة.

ومع تقهقر عملية التنمية العلمية والاقتصادية والإنسانية تفاقمت الصراعات داخل المجتمع، وتشتت النخب والعقول، المعول عليها في تكوين الرأي العام وترشيد الأجيال، من مهنيين ومؤهلين ومبدعين وغيرهم.

منهم من استهوته السلطة وابتلعته الآلة الحاكمة، ومنهم من هجر الوطن وهاجر بحثا عن الرخاء وفرص التطوير والعمل. ومنهم من أودع السجون لآرائه ومواقفه الرافضة للنخبة الحاكمة، ومنهم من انسحب من الساحة العامة مختارا الركون ومؤثرا الإنسياب في تيار الحياة السائد في هدوء وسلام.

في غياب هذه النخب عن مجالات التأثير والتوجيه في المجتمع أو تعطيلها، وبانحسار الطبقة الوسطى التي هي عماد النمو والتقدم الحضاري والاقتصادي في المجتمع، تحولت الأولوية في قيادة المجتمع من أهل الكفاءة والتأهيل الى أهل الحظوة والولاء، وخلا الجو لطبقة جديدة من المثقفينوالقيادات التي ارتبطت ارتباطا مصيريا بالسلطة الأوتوقراطية وانصاعت لتوجيهاتها وبرامجها وبالغت في إرضائها والتزلف إليها وتحقيق أهدافها.

فحلت الشللية محل الوطنية، واختفت الرؤى الوطنية المستقلة، ونشأ في ليبيا مجتمع مشوه سياسيا واجتماعيا غير قادر على مواكبة الحداثـة والتطور المعاصر الذي يشهده عالم القرن الواحد والعشرين.

ومن خلال عملية تراكمية تواصلت، يوما بعد يوم وسنة بعد سنة، لأكثر من ثلاثة عقود اهتزت في المجتمع الليبي قيم التسامح والإيثار والنخوة والتضحية، وتدنت العلاقات الإنسانية وأنماط السلوك الإجتماعي، وأخذت عرى المجتمع في التفكك والتحلل شيئا فشيئا. وهكذا أصبحت مصالح الناس ـ المادية والمعنوية على حد سواء ـ مهددة ، واختلت الأعراف والنظم الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية المتعارف عليها بينهم.

وأصبحت ضرورات الحياة في ليبيا ـ ناهيك عن كمالياتها ـ إما مفقودة أو متعسرة. وأصبح الاعتداء على الدين والنفس والعقل والعِرض والمال أمرا مباحا مشاعا. لا.. بل أصبح ذلك الإعتداء يمارس بموجب القانونوتحت حماية القضاء، مستندا في غالب الأحيان على مقولات ونصوص ثوريةوشعارات جوفاء تتبناها الدولة وتنادي بها.

وهكذا تجاوزت الأوضاع في ليبيا كونها قضية سياسية، أو صراعا على الحكم، لتصبح أقرب ما تكون الى كارثة إنسانيةبكل ما تعنيه هذه الكلمة. ولم يعد العلاج مقتصرا على التغيير السياسي، أو استبدال نظام أوتوقراطي استبدادي بنظام آخر ربما استوى معه في الأوتوقراطية والاستبداد، أو على الإصلاحات الأقتصادية وحدها التي ربما حلت رأسمالية شعبيةمحل اشتراكية شعبية“…

وإنما يكمن العلاج في حركة نهضوية شاملة تتعامل مع الإنسان الليبي المعاصر كوحدة متكاملة، ومع جميع جوانب الحياة والدولة والمجتمع في ليبيا بمختلف انماطها. ومزاولة الضغط السلمي العلني البنّاء بكل أنواعه ووسائله الثقافية والفكرية والسياسية والاجتماعية

هذا ملخص ما يصبو إليه منتدى ليبيا للتنمية البشرية والسياسية. والأمل معقود على أنه بجهود وأفكار المبدعين المخلصين من الليبيين، وبمزاولة الضغط السلمي العلني البنّاء بكل أنواعه ووسائله الثقافية والفكرية والسياسية والاجتماعية، يمكننا أن ننطلق على بركة الله للمساهمة بالجهد القليل المتواضع في بناء مجتمع يقوم على قيم التسامح والعدل والحرية واحترام جميع الآراء والتوجهات. مجتمع متحرر من التخلف والأحقاد والحواجز المصطنعة التي تفرق بين الناس وتحيلهم معاول دمار يقتل بعضهم بعضا

ومن أجل بناء وطـن حـنون يتـسع للجمـيع

_____________

 

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *