حسن الحاج علي
التقدم الاقتصادي والاستقرار السياسي
من خلال البحث المستمر لإيجاد نظرية تحدد العلاقة بين الجيش والسلطة المدنية برز الاتجاه القائل بوجود العلاقة المباشرة بين التقدم الاقتصادي وتدخل العسكريين في السلطة. فكلما كان البلد متقدما اقتصاديا كلما قل احتمال استيلاء الجيش على السلطة والعكس صحيح. غير أن الدراسات اللاحقة والتي أجريت على عدد من الأقطار وجدت أن هذا الافتراض ضعيف ولا يمكن الاعتماد عليه.
النظام الحزبي والوضع السياسي العام
هناك أيضا الافتراض الذي يذهب إلى أن الانقلابات العسكرية مقرونة بالنظام الحزبي الموجود وأنها كثيرة الحدوث في البلدان ذات الحزب الواحد، لأن قيادات في الجيش ترى في نفسها الحزب الوحيد للمعارضة وذلك لغياب المعارضة المدنية المنظمة.
ولكن الأحداث السياسية المتلاحقة لم تدعم هذا الافتراض خصوصا في البلدان الافريقية حيث وقعت انقلابات عسكرية في دول متعددة الأحزاب كسيراليون، ونيجيريا، والسودان، ومصر.
والافتراض الراجح في هذا المجال أن الواقع الموجود داخل المجتمع هو الذي يلعب دورا أساسيا في استيلاء الجيش على السلطة، فغياب المؤسسات الراسخة مع تفتت القوى السياسية والاجتماعية وصراعها الحاد خلق نوعا من عدم الاستقرار مما يمهد الطريق للعسكر.
لذا فأسباب التدخل العسكري ليست عسكرية تعكس خصائص المؤسسة العسكرية التنظيمية والاجتماعية وإنما سياسية تعكس حالة النظام السياسي والاجتماعي العام والتي تحولت فيها كل التنظيمات والقوى الاجتماعية إلى قوى سياسية، فالاقطار التي تمتلك جيش سياسي تمتلك أيضا جامعات سياسية وإدارة مدنية سياسية ونقابات سياسية.
في مجتمع هذه فئاته ليس غريبا أن يشتغل الجيش بالسياسة ولأنه الوحيد الذي يمتلك وسائل القوة فهو الوحيد الذي يغير النظام السياسي من خلال فوهة البندقية.
والتسييس الذي يحدث لكل قطاعات المجتمع يكون نتيجة لأن درجة التعبئة الاجتماعية عالية ولا تتناسب ومعدل التنمية الاقتصادية المتدنى وهذا يولد درجة من السخط الاجتماعي. والسخط الاجتماعي يمكن تلافيه عبر المؤسسات الاجتماعية غير السياسية وإلا كان التسييس العام لكل القطاعات هو النتيجة المتوقعة.
ويتضح من هذا الافتراض أن وجود المؤسسات القوية هو الضمانة الوحيدة للاستقرار السياسي ومنع الانقلابات العسكرية.
ثانيا: أسباب داخل نطاق الجيش
الاتجاه الآخر لتحليل أسباب تدخل العسكر في السلطة يقول بوجود تلك الأسباب في داخل المؤسسة العسكرية وذلك لامتلاكها لوسائل الاستيلاء على السلطة ومقدرتها على ذلك.
وهذه المقدرة تعود لعدة أشياء منها:
ـ النظام العام للمؤسسة العسكرية المتمثل في مركزية القرارات والأوامر
ـ النظام الصارم، والهيكل الهرمي المنضبط
ـ نظام التخاطب الرسمي والتدريب الخاص
وكل هذه الأشياء تؤدي إلى التجانس داخل المؤسسة العسكرية مما يسهل عليها استلام السلطة عند الحاجة لذلك خصوصا في بلدان تستخدم فيها تقاليد راسخة لخضوع المؤسسة العسكرية لسيطرة وتوجيه الحكومة المدنية.
يضاف إلى ذلك الانضباط المهني والشعور بالإنتماء القومي وهو عامل تنظيمي آخر يسهم في دفع العسكريين نحو السلطة، ذلك أن الجندي المهني يعتبر الدولة هي “الزبون” الوحيد الذي يتعامل معه في حين أن الجندي السياسي له عدة “زبائن” من أهمهم المؤسسة العسكرية لذا فهو مستعد للتدخل في السلطة لحماية مصالح “زبائنه” لا سيما إذا كانت مصالح المؤسسة العسكرية.
ويكون مستعدا للتدخل أيضا الجندي المهني عندما يشعر أن أدارة الدولة “زبونه الأوحد” يعشش فيها الفساد والمحسوبية وأنه يتدخله العسكري سيحسم هذا الفساد وينقذ الوطن من الانحدار نحو الهاوية.
ككل قطاعات المجتمع فإن للجيش مصالح ذاتية معرضة للتجاوز والضياع وعندما يشعر العسكريون بذلك يكون ردهم بالتحرك نحو قصر الرئاسة واستلام دفة الحكم .
ومصالح الجيش تتهدد من عدة نواحي:
أـ شعور الجيش بوجود منافس حقيقي يهدد وجوده كالمليشيات الشعبية، فقد تحرك الجيش في غانا عام 1966 عندما شعر أن نكروما سينشئ مليشيا شعبية على حساب الجيش، إضافة إلى الأوضاع المعيشية السيئة لأفراد الجيش الغاني وثيابهم العسكرية الممزقة والتي تحدث عنها الجنرال أفريقا قائد الانقلاب مما اعتبره إساءة لكرامة الجندي الغاني عندما قارن بينهم وبين رصفائهم في الجيوش الأخرى.
والرئيس المالي أطاح به صغار الضباط عام 1068 عندما أنشأ مليشيا شعبية مسلحة تسليحا جيدا فاقت عدد الجيش بثلاثة أضعاف وكانت تقوم بدوريات الحراسة الليلية ومراقبة الحدود، اضافة إلى أنها كانت تتمتع بمخصصات ومزايا حيثية يفتقدها الجيش، ولما كان كبار الضباط يدينون بالولاء السياسي للرئيس المالي فقد قام صغار الضباط بالمهمة الانقلابية.
ب ـ خصم ميزانية الجيش أو رفض زيادة ميزانيته وما يترتب على ذلك من نقص في العتاد وخصم المرتبات. ولقد كان السبب الرئيسي لانقلاب 1963 في الدومنيكان هو رفض رئيس الجمهورية شراء طائرات جديدة لسلاح الجو مما حدا الجيش للإطاحة به.
ج ـ التدخل في شؤون الجيش الداخلية. فقد كان واحدا من أسباب تحرك الجيش السوداني لاسقاط نميري شعوره بأن المؤسسة العسكرية قد أصبحت لعبة في يد النميري حيث التطهير المستمر لكل ضابط يشك في ولائه.
وإنقلاب 1964 في البرازيل جاء نتيجة مباشرة لتدخل الرئيس الرئيس في شؤون الجيش الداخلية حيث كان يتم ترقية الضباط ذو الولاء السياسي للرئيس بسرعة مذهلة دون اعتبار للكفاءة المهنية مما جعل الجيش يتحرك ويستلم السلطة.
رغم كل تلك الافتراضات التي ذكرت آنفا فإن إيجاد نظرية واحدة شاملة حول علاقة الجيش بالسلطة والجهاز المدني تكون صالحة للتطبيق في كل دول العالم الثالث سعي لم يكلل بالنجاح وذلك لقصور هذه النظريات من جهة وتعدد أسباب الانقلابات لتعدد المجتمعات واختلاف واقعها وتجاربها من جهة أخرى حتى إن أحد الباحثين ذهب إلى أن الانقلابات في دول العالم الثالث هي ظاهرة عشوائية لا يمكن دراستها علميا والخروج منها بنظرية قابلة للتطبيق.
__________
المصدر: الشروق الاسلامي ـ يوليو 1986