ابراهيم عبد العزيز صهد
شهدت تلك الفترة (أواخر عام 68 وأوائل عام 69)، ما عرف بعملية إعادة تنظيم الجيش. خلال تلك العملية شكلت لجنة عليا –تحت إشراف رئيس الأركان– برئاسة العقيد الركن عبد العزيز الشلحي، وانبثقت عنها عدة لجان فرعية متخصصة. وقد انشغلت قيادات الصنوف وعدد كبير من ضباط الجيش بمهام في إطار عملية إعادة تنظيم الجيش.
هذه العملية كانت تهدف إلى توسيع قدرات الجيش الليبي البشرية، وتزويده بأسلحة حديثة، وجعله قوة عصرية تتمكن من الدفاع عن الأراضي الليبية. كانت العملية تنطوي على تحدي غير بسيط، كما كانت تجري بتأنّ وبمشاركة من مختلف قيادات الجيش، وكانت اللجان الفرعية تشهد نقاشات ومداولات يتم فيها المفاضلة بين الأسلحة من كل النواحي، وأهمها مدى ملاءمتها للأجواء والأراضي الليبية.
وقد اشتملت الخطط المقرة على إنشاء سلاح الدفاع الجوي، وتزويد سلاح الطيران بمقاتلات حديثة، والبحرية بزوارق الطوربيد والصواريخ السريعة، وكانت تشمل إدخال المدفعية ذاتية الحركة ودبابات تشيفتن العملاقة، وتزويد وحدات المشاة بناقلات الجنود المدرعة، وتزويد المخابرة والهندسة بمعدات حديثة، علاوة على وضع برامج للتدريب حول المعدات والأسلحة.
وفي الواقع، فقد كانت هذه هي المرة الأولى –على ما أعلم– التي يتم فيها الحديث عن تسليح الجيش وتنظيمه على هذا المستوى.
عندما كنت في طرابلس أعد نفسي للسفر إلى بريطانيا، كان معسكر باب العزيزية يعج بالحركة، وبأعداد كبيرة من الضباط الذين كانوا يشاركون في لجان إعادة تنظيم الجيش.
وفي المساء تقابلت مع كثيرين منهم، وكان معظمهم متفائلا من إمكانية تحقيق الخطط الطموحة لإعادة تنظيم وتسليح الجيش، وبعضهم كان يتوجس خيفة من أن العملية لن تتم كما هو مخطط لها، إما لاحتمالات تراجع الحكومة تحت الضغوط التي بدأت بالفعل من بعض الدوائر الليبية الأخرى، أو لرفض الدول المعنية بيع مثل هذه الأسلحة إلى ليبيا، إلى غير ذلك من دواعي التوجس.
لكن واقع الأمر أن معظم الأسلحة والمعدات التي اعتمدت قد تمت الموافقة عليها من وزارة الدفاع، ومن الشركات الأجنبية المنتجة، واستصدرت موافقات التصدير من الحكومات المعنية.
بعض العقود وقعت بالفعل وشرع في تنفيذها (مثل عقد شبكة الدفاع الجوي)، وبعضها الآخر كان جاهزا للتوقيع على ما علمت آنذاك.
وكما هو الحال آنذاك، فإن بعض الضباط كان يبالغ في التوجس من نوايا الحكومة تجاه الجيش، وبعض هؤلاء كان يردد أقوالا حول إمكانية قبض عمولات حول هذه الصفقات من قبل شخصيات في الحكومة، وربما حتى من بين كبار الضباط . لكن في العموم فقد كان التفاؤل هو السمة الغالبة.
هكذا كانت المشاعر والآراء بين الضباط الذين التقيتهم في معسكر باب العزيزية، وفي هذه الأجواء من الترقب والحماس لعملية إعادة تنظيم الجيش، حملتني سيارة لاندروفر إلى مطار طرابلس.
وبينما كنت أنهي إجراءات السفر، فوجئت بأستاذي في اللغة الإنجليزية بالكلية العسكرية ينتظرني أمام مكتب الخطوط. كان يرتدي ملابس مدنية، وكان يبتسم على غير عادته التي عرفناها عنه في الكلية عندما كان ضابطا في الجيش البريطاني برتبة رائد، وقد جرت إعارته إلى الجيش الليبي لتدريس اللغة الإنجليزية بالكلية العسكرية.
كان يتسم دائما بالحزم، وكان قليل الكلام إلى درجة البخل، ولا أذكر أنني رأيته مبتسما قط. أما في مطار طرابلس فقد كان مختلفا، كان مجاملا وحريصا على الابتسام طيلة الوقت. علمت منه أنه قد تقاعد من الجيش البريطاني منذ سنتين، وأنه الآن مسؤول الاتصال لشركة BAC في طرابلس.
عبّر عن سعادته بأن يعود للعمل في ليبيا، وقال بأنه ما إن علم بحاجة الشركة إلى ضابط اتصال في طرابلس حتى تقدم بطلبه الذي قبل لسابق خبرته بالعمل مع الجيش الليبي.
كان يحمل ملفا قدمه لي فيه كل تفاصيل الرحلة، وأسماء من سيقابلونني في المطار في لندن، وأعلمني أن سيارة ستحملني مباشرة من المطار إلى مدرسة المدفعية بويلز، وأنه يترك تفاصيل ذلك إلى زملائه في لندن. كما أعطاني ملفا آخر يحتوي معلومات عن الدورة التي سأتلقاها مع زملائي، وبعض المعلومات الدعائية عن إنتاج شركة BAC ، ودس في الملف صورا متعددة لطائرة “نمرود” البريطانية التي كانت مطروحة على ليبيا كمنافس لطائرات F5 الأمريكية، وتمنى لي رحلة سعيدة.
الخطوط الجوية الليبية كانت –آنذاك– من أكثر الشركات كرما، وكانت خدماتها تتصف بالإتقان، وقد اشتهرت بالمحافظة على مواعيدها، طائراتها كانت من طراز “كارافيل“، وكانت تستخدم طيارين من فرنسا. رحلة طرابلس–لندن، كانت تتوقف في جنيف حيث ينزل الركاب الذين يقصدون تلك المدينة.
في الرحلة من جنيف إلى لندن كان في انتظاري تجربة لا أنساها. كانت مقاعد كثيرة خالية نتيجة نزول ركاب في جنيف. لفت انتباهي راكب كان يجلس في الجهة الأخرى المقابلة لي من الممر.
كان في أواخر الخمسين من العمر، وكان يرتدي بدلة بسيطة ولكنها غاية في الأناقة، لم يخلع الجاكيتة أثناء الرحلة مثلما فعل بقية الركاب. قبيل الهبوط في مطار “غات ويك” أخرج الرجل مجموعة من الأوسمة وابتدأ يضعها على الجهة العلوية اليسرى من الجاكيتة.
كنت أعرف بعض تلك الأوسمة، فقد شاهدتها من قبل عند عدد من أقاربي ومعارفي الذين كانوا قد عملوا في الجيش السنوسي، كانت هذه الأوسمة ممنوحة من قيادة الجيش البريطاني الثامن، الذي كان الجيش السنوسي قد عمل في إطاره، يالإضافة إلى وسام واحد كان ممنوحا من المملكة الليبية وهو وسام التحرير.
أثار وضع الرجل للأوسمة على صدره استغرابي واهتمامي في نفس الوقت، ودفعني الفضول للاقتراب من الرجل وتحيته وتقديم نفسي له. ازدادت حفاوته بي عندما علم أنني ضابط في الجيش. كنت من حين لآخر أرنو إلى الأوسمة التي كانت مرتبة “بالمسطرة” بأناقة تماثل أناقة ملبسه ومظهره.
كنت أغالب نفسي حتى لا أسأله، ولكنني وجدت نفسي مدفوعا بحب الاطلاع –إن لم يكن الفضول– لأن أقول له هذه أوسمة الجيش السنوسي؟، قال لي نعم هذه أوسمة تحصلت عليها أثناء الخدمة بالجيش السنوسي…
ثم صنف لي هذه الأوسمة على ثلاثة أصناف:
ـ منها ما منح لكل منتسبي الجيش السنوسي من قيادة الجيش الثامن،
ـ وهناك وسام يحمله لم يمنح للجميع وإنما منح لبعض من شاركوا في قوات “الكوماندوس” وعملوا خلف خطوط العدو،
ـ ثم وسام التحرير الذي منحته المملكة الليبية إلى كل من عمل بالجيش السنوسي.
لا زلت أذكر بريق عيني الرجل وهو يحدثني عن هذه الأوسمة وعن عمله خلف الخطوط وما احتوته من مخاطرة. وبحكم أنني عسكري فقد كنت أعرف أهمية الأوسمة، لكنني لم أكن أعرف لم وضع الأوسمة؟.
ولجهلي فقد كانت تراودني مشاعر بالإشفاق على هذا الرجل خشية أن يكون في وضعه لهذه الأوسمة ما سيسبب حرجا له أو تندرا منه عندما نصل مطار لندن. فلم أتمالك نفسي وسألته لم يضع الأوسمة الآن. قال لي بأنه مسافر لإجراء فحوصا طبية، وهو يحتاج إلى بعض المساعدة في المطار، وأن من شأن ارتداء هذه الأوسمة أن يسهل إجراءاته في المطار. ولجهلي أيضا فقد استمر إشفاقي على الرجل. وقررت أن أبقى بجانب الرجل لأرى ما يحدث.
بعد هبوط الطائرة، وأثناء توجه المسافرون نحو قاعة الجوازات لاحظت أننا كلما مررنا بأحد رجال الأمن الذين يرتدون الزي العسكري فإنهم يقومون بأداء التحية العسكرية للرجل، وعندما وصلنا قاعة الجوازات الكبيرة، جاء شخص يرتدي ملابس مدنية، وصافح رفيقنا وأخرجه من الطابور، وأخذه من باب جانبي.
لم أر رفيقنا هذا بعدئذ إلا عندما كنا نقف لاستلام حقائبنا، كان واقفا ومعه مرافقين أشار لهما على حقيبته فحملوها له. قبل أن يخرج اقترب مني وسلم علي وهو يقول ربنا يوفقك، قلت له مازحا هذه واسطة!! فضحك كثيرا.
علمت منه أنهم أخذوه إلى قاعة استقبال خاصة، وقاموا بإنهاء إجراءات الجوازات، وطلبوا له سيارة خاصة تنقله إلى الفندق الذي سيقيم به، وقال إنه سيعود إلى غرفة الاستقبال لانتظار وصول السيارة، كذلك قال بأنهم أعلموه بأنهم سيبلغون عن وصوله إلى الجهات المختصة بالمحاربين القدماء، التي سوف تجري اتصالا معه.
هذه التجربة تعلمت منها أشياء كثيرة، أهمها أنها ولأول مرة وضعتني على تماس مع أحد “المغاوير” الذين عملوا خلف خطوط المحور، وشاهدت مدى الاحترام والتقدير الذي قوبل به الرجل في مطار “غات ويك“، تقدير واحترام ربما لا يقابل به في بلده الذي شارك في تحريره، كذلك رسخت هذه التجربة في ذهني أهمية تعلم تاريخنا، وأهمية معرفة دور رجال الجيش السنوسي في معارك تحرير ليبيا من المحور، وأهم من ذلك كله أهمية استقاء معلومات التاريخ من أفواه الرجال الذين صنعوه.
كنت قد عقدت العزم أن ألتقي بالرجل بعد عودتي إلى ليبيا، لكن قيام الانقلاب قد حرمني من البقاء في بلدي الذي لم يستقر لي فيه مقام منذئذ إلا لفترات متقطعة، وهكذا تباعدت الشقة بيني وبين تلك الحادثة، ولم يبق منها إلا ذكرياتها ودروسها.
…
وللحديث بقية إن شاء الله
____________
المصدر: مدونة جولات في التاريخ الليبي