من السلاح والمواجهة .. الى سلاح الكلمة والاشتباك
من العمل المسلح … الي الاشتباك بالكلمة
عاشور الشامس
العودة الى العمل الليـبي
ورغم استمرار علاقتي بالعمل الاسلامي حتي أواخر عام 1981 الا أن التزاماتي نحو العمل الليبي الوطني السياسي ظلت تزداد شيئا فشيئا حتي استولت على وقتي بكامله وظلت هي همي الوحيد تقريبا.
لم يدر في خلدي ولم يساورني ادني شك انني قد تخليت عن دوري الاسلامي بل كنت أحس أن العمل في الاطار الليبي هو تطور طبيعي لعملي الاسلامي واستكمال لما كنت بصدده.. تأسيا بقوله تعالى: “وانذر عشيرتك الأقربين“، وقول الرسول الكريم: “الاقربون أولى بالمعروف“.
كان اغتيال محمد مصطفي رمضان في ابريل 1980 ايذانا ببداية مرحلة هامة في توجهي الجديد نحو النشاط السياسي الليبي، وجاء انسحابي في هدوء من العمل الاسلامى العام الذي كان يشغل كل وقتي آنذاك.
لقد انهمكت في العمل الليبي من خلال “الجبهة الوطنية لانقاذ ليبيا” دون ادني تردد أو تذبذب، والسبب في ذلك عاملان أساسيان:
الاول: قناعتني بجدوى هذا العمل وانه عمل في صميم واجباتي كمسلم.
الثاني: لوجود مجموعة من الاخوة في مقدمة هذا العمل. وهم الذين تأثرت بهم وكانت تربطني بهم علاقة تفوق علاقة الرحم وتعود لأكثر من 15 سنة. فكان انضمامي اليهم تحصيل حاصل.
* * * *
الفريـق أو “اللجـنة التسـييرية”
“الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا” هي اكبر تنظيم معارض ظهر على الساحة الليبية، وسيطر عليها بالكامل خلال الثمينيات. وكان المحرك الأساسي لها هو استقالة سفير ليبيا، محمد يوسف المقريف، في الهند التي أعلنها يوم 31 يوليو 1980 وانضمامه لصفوف المعارضة. وما بين صدور الإستقالة واعلان الجبهة في 7 اكتوبر 1981 شهدت الساحة الليبية تحركا قويا لم تشهد مثله من قبل. فماذا حصل ومن الذي كان وراءه.
قام عمل الجبهة أول ما قام على ثمانية اشخاص ـ كنت احدهم ـ وأطلقنا عليهم اسم “فريق العمل“، وهم: محمد يوسف المقريف، ومحمود الناكوع، واحمد ابراهيم احواس، وابراهيم عبدالعزيز صهد، وعلى رمضان ابوزعكوك، وسليمان عبدالله الضراط، وعاشور الشامس.
وتولي الفريق تهيئة الساحة الليبية والتجنيد للعمل في اطار تيار شعبي واحد. واستمرت مهمة الفريق حتي موعد اعلان تأسيس الجبهة رسميا في 7 أكتوبر 1981.
لقد طرح الفريق وناقش مختلف اوجة النشاط المطلوبة في تلك المرحلة. فأكد على ضرورة العمل في اطار شعبي عام مفتوح لجميع الليبيين في خارج ليبيا وداخلها. وحدد أن يكون هذا العمل سياسيا واعلاميا وتنظيميا وشعبيا وعسكريا. وأكد على ضرورة الاتصال بالناس على اوسع نطاق واستقطابهم للعمل ضد النظام في ليبيا بكل الوسائل.
فبالاضافة الى توفر المواهب والمهارت لدي اعضاء هذا الفريق انفسهم ـ ففيهم السياسي والعسكري والمفكر والاعلامي وصاحب القدرات التنظيمية ـ وكل منهم معروف في الساحة بصورة أو بأخرى ومن ذوي السمعة الحسنة.
وكان الاتجاه الذي اختارته الجبهة منذ البداية اتجاها وطنيا صرف، مفتوحا لجميع الليبيين. وأعلنت أنها لا تمثل اي تيار أو اتجاه حزبي ايديولوجي معين. وأنها تدعو الى عمل وطني يسعي الى التخلص من النظام الحاكم في ليبيا واعادتها الى نوع من الحكم العادل والديمقراطية.
وانطلق اعضاء “الفريق” أو “اللجنة التسييرية” للتبشير بالجبهة وافكارها والدعوة اليها في جميع انحاء العالم وحيثما وجد ليبيون وليبيات. وكان العمل قائما على مبدأ الثقة الصرفة التي لا يتسرب اليها أي نوع من الشك في نيات ومنطلقات افراد الفريق. ولم تكن لأي واحد منهم حسابات شخصية أو اهداف خاصة غير التجرد للعمل الوطني الذي ينتظرنا.
لم يكن في نية أي منهم رغبة في التآمر أو التنافس على مصالح أو الخيانة، وإنما كان هناك اعتراف ضمني بالطموح الشخصي لكل فرد الذي يحدده التفاوت الطبيعي في المؤهلات والامكانيات والقابليات الخاصة، والقدرة على العطاء والاداء والتجرد، والمكانة الاجتماعية والفكرية التي اكتسبها كل واحد منا بجهده الخاص ومؤهلاته الخاصة.
وكان عامل الثقة الذي كان راسخا بين اعضاء الفريق والتكامل فيما بينهم في القدرات والملكات هو الذي طفح دون غيره وبصور طبيعية سلسة على جميع مجالات العمل.
كما كان له الدور الرئيسي خلال 15 شهرا من العمل المتواصل الدؤوب والاتصال الجماهيري في اقناع اعداد كبيرة من الليبيين والليبيات في الوطن العربي واوروبا وأمريكا ـ فضلا عن ليبيا ـ بالانخراط في مشروع العمل الوطني الذي كان مطروحا من قبل الفريق وبسلامة قيادته وجدواها.
وفي الوقت الذي كان الفريق يهيء فيه الارضية لعمل الجبهة كتنظيم وطني عام، كان أيضا يضع الخطوط العريضة الرئيسية لمختلف برامج العمل. ففي المجال السياسي اقر اقامة علاقات مع الدول والتعاون معها واستقطاب مساعدتها من حماية الى دعم لوجيستي واعلامي، وخاصة تلك الحكومات التي كانت في حالة عداء مع النظام الليبي.
واخذ عددا من الترتيبات للعمل النقابي (اتحادات الطلبة) وللاتصال بداخل ليبيا وللعمل الاعلامي فبدأ الاستعداد لاصدر مجلة “الانقاذ” والبحث في امكانية انشاء اذاعة خاصة بالجبهة.
* * * *
مبررات العمل العسكري
ولعل أهم ما اعد له الفريق هو العمل العسكري، الذي كان أساسيا في برنامج الجبة النضالي لدوافع عديدة. اهمها الاغتيالات والمشانق والرصاص في الشوارع.. وإعلان النظام الليبي حربا مفتوحة على خصومه لم يكتف فيها بالمواجهة السلمية أو الكلامية. فقد لجأ الى الاغتيالات والتعذيب والتغييب والرمي بالرصاص في شوارع لندن وروما وبرلين.
وكان قبل ذلك قد نصب المشانق في طرابلس وبنغازي، وبرر القتل تحت ستار “العنف الثوري“، وبث الرعب في كل أرجاء البلاد. وهكذا كان العمل العسكري خيارا لم يأخذ منا كثير تفكير أو نقاش وإنما كان علينا أن نجند له الأفراد ونهيأ له الامكانيات اللوجيستية وكل ما لدينا طاقات…
النظام هو الذي فرض علينا الخيار العسكري. فقد اختار أن ينهج نهج العنف وأسماه “العنف الثوري” الذي تبرره الثورة ويبرره العمل الثوري الأيديولوجي. وقد دعا النظام من فيّ قائده معمر القذافي الى سحق وقتل “اعداء الثورة” حتي وإن لجؤوا الى القطب الشمالي!! وجند لذلك جنودا ودربهم ثم أرسلهم في مخلف أنحاء العالم لقتل الأبرياء إرهابا لمن اعتبرهم “أعداء للثورة“.
وفي داخل ليبيا مضى النظام قدما في تقسيم الليبيين الى نوعين: “مع الثورة” و “ضد الثورة“. وانطلق “يطهر” المجتمع الليبي ممن أسماهم “أعداء الثورة” ابتداء من أوائل عام 1973 والثورة الثقافية.
وزج بمجموعة من خيرة النخب الليبية في السجن لا لشيء سوى مواقفهم الفكرية المخالفة لخط ثورة معمر القذافي. وتكررت هذه العمليات حتي شملت جميع النخب والفئات في السبعيات والثمانينات وما بعدها.
في عامي 1976 و 1977 اندلعت المصادمات في الجامعات الليبية بين المصرّين على فرض “الثورة” بالقوة وبين الرافضين لها. وبرزت ظاهرة غريبة لم يعرفها الليبيون من قبل تعرف باسم “اللجان الثورية“، وهي فرق أو كتائب مدنية مسلحة تعيث في الارض فسادا وتتحرك خارج نطاق القانون بالكامل لا سلطان عليها من عرف أو قانون.
هذه اللجان لم تنشأ بصورة طبيعية شفافة أو باختيار شعبي، وإنما ظهرت في ظروف غامضة وبأسلوب متخف مريب، غير خاضعة لأي قوة تشريعية أو شرعية أو تنفيذية ما عدا سلطة القذافي.
فأطلقت الرصاص في رحاب الجامعة لأول مرة. ونصبت المشانق في الميادين العامة وفي حرم الجامعات وشنقت، في العلن، وسجنت وقتلت، في السر والعلانية، واقامت المحاكم الكنغرية التي لا تراعي فيها ـ بل هي أبعد ما تكون عن ـ أدنى مبادىء القانون أو العدالة.
وأقام النظام معسكرات للتدريب يشرف عليها أعتى الارهابيين الدوليين المعروفين للقاصي والداني، وعلى رأسهم كارلوس وأبونضال وأد ويلسون وزميله فرانك تربل الأمريكيين عملاء الـ (سي أي أيه)… وعشرات آخرون.
وفي أواخر 1979 أخذت وفود الموت التي جندتهم اللجان الثورية تجوب بلدان أوروبا استعداد لاستهداف عشرات المواطنين الليبيين الآمنين وقتلهم في الشوارع في وضح النهار.
كان رد فعل الليبيين على هذا العمل الصفيق الوقح، المستهجن وغير المعروف من قبلهم في تاريخهم كله، بردود فعل متباينة. فمنهم من بلع ريقه سكت. ومنهم من اختفي في دورة الحياة. ومنهم من وضع رأسه بين الرؤوس ولزم السكوت. ولكن منهم من آل على نفسه بالرد بالمثل: (ومن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه)، (والسن بالسن والعين بالعين والجروح قصاص) واعتبر ذلك هو أضعف الايمان.
…
يتبع
_____________