حسن الحاج علي
تدخّل العسكريين في السلطة أصبح ظاهرة سياسية ملازمة لمعظم دول العالم الثالث، فقد بدأت هذه الظاهرة غريبة بعد سنوات قليلة من عمر الاستقلال ثم شاعت واستحكمت في العقود الأخيرة.
فمنذ رحيل المستعمر كانت الجيوش في العالم الثالث تندرج تحت إطارين:
الأول: جيوش أنشأها ودربها المستعمر، فقامت على النمط الأوروبي وثقافته بل وحاربت تحت قيادته كما حدث في الهند، والسودان والفلبين.
الثاني: جيوش أنشأتها حركات التحرر كما حدث في الجزائر وأنغولا وغيرهما.
لذا فقد بدأ غريبا أن يأتي أول تدخل للعسكريين في السلطة في افريقيا ـ جنوب الصحراء ـ في السودان أولا عام 1958، ثم توغو 1963، ثم نيجيريا عام 1966، لأن ذلك يجافي الثقافة الأوروبية التي بنيت عليها تلك الجيوش حيث الفصل الواضح بين مناطق النفوذ العسكرية ومناطق النفوذ المدنية واعتبرت تلك الانقلابات في وقتها حوادث شاذة لقاعدة عدم تدخل العسكر في السلطة.
ولكن انقضى عقد من الزمان حتى اتضح أن القاعدة هي تدخل العسكر في السلطة والحالات الشاذة بقاؤهم في الثكنات تحت سيطرة القيادة السياسية المدنية.
ولقد صاحب استيلاء العسكر على السلطة في العالم الثالث استشراء للدكتاتورية وطغيان حكم الفرد أو المجموعة حتى أصبح كل من يبدي رأيا مخالفا للزعيم القائد أو الطليعة الثائرة معرضا للإعدام أو السجن تحت قانون أمن الدولة.
وموضوع العلاقة بين العسكر بالسلطة في العالم الثالث شغل بال العديد من أساتذة العلوم السياسية والمشتغلين بها حتى أصبح علما قائما بذاته ضمن العلوم السياسية.
وهذه الدراسة ستتناول أسباب تدخل العسكر في السلطة في العالم الثالث بينما ظل رصفاؤهم في المعسكرين الغربي والشرقي تحت سلطات الحكومات المدنية مكتفين بالضغط اللوبي على الحكومات دون الحاجة لإنقلاب عسكري أو التهديد به.
والعسكر نوعان:
الأول، الجندي المهني الملتزم بمهمة الجيش الأولى دون غيره وهي حماية تراب الوطن وصد عدوان الأعداء.
الثاني، هو الجندي السياسي الذي يخلط مع مهمته الأساسية مهمة سياسية أخرى بأن يكون صاحب سلطان سياسي أو يكون مؤثرا تأثيرا مباشرا في مجرى السياسة في بلده.
والجندي السياسي يمكن أن يكون أحد ثلاثة أنواع:
النوع الأول، يمكن أن نطلق عليه “العسكري المعتدل” وهو الصنف لا يتدخل في السلطة تدخلا سافرا عن طريق الانقلاب وإنما هو الذي يضغط على الحكومة مهددا بالانقلاب إذا لم تتم التغييرات التي تتناسب ومصالح الجيش معطيا لنفسه حق “الفيتو” ضد كل قرار يتعارض وتلك المصالح ولعل أوضح الأمثلة على هذا النوع يوجد في إمريكا اللاتينية.
فقد قام الجيش الأرجنتيني إبان ولاية الرئيس فرونديزي 1959-1962 بالضغط عليه لتغيير وإعفاء عدد من أعضاء مجلس الوزراء فرضخ واستبدلهم بآخرين مقبولين للجيش.
النوع الثاني، هو العسكري المحافظ والذي ترتبط مصالحه مع مصالح الطبقة الحاكمة والذي يمنع حدوث أي تغيير في النظام السياسي يتعارض مع مصالحه بالتدخل الكامل عن طريق الانقلاب. وهذا النوع لا يحدث أي تغيير في التركيبة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ويكون همّه منصبّا نحو التنمية الاقتصادية.
وهنا تبرز للأذهان انقلاب الجنرال بينوشية في تشيلي وانقلاب عام 1964 في بوليفيا.
ففي كلا الانقلابين كان تخوف الجيش من التيار اليساري فالرئيس التشيلي الليندي كان يساريا في حين صنّف الرئيس البوليفي استنسورو على أنه كان يمالي الأعضاء الشيوعيين داخل حزبه والذين يخططون لاستلام السلطة.
النوع الثالث، هو الجندي الذي يتدخل عن طريق الانقلاب ويحدث تغييرا شاملا في النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي عن طريق خلخلة المؤسسات القديمة ومحوها وإنشاء بنى جديدة لتقود التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي. والأمثلة على هذا النوع كثيرة منها انقلابات عبدالناصر في مصر، والنميري في السودان والقذافي في ليبيا ومنغستو في أثيوبيا.
الأسباب وراء تدخل العسكريين في السلطة تندرج تحت إطارين:
أولا: أسباب خارج نطاق الجيش
يتضمن هذا الشق كل الذين يرون أن تدخل العسكريين في السلطة يعود لأسباب غير متعلقة بالجيش نفسه، مثل الثرات السياسي لكل بلد، النظام السياسي العام، درجة النمو الاقتصادي في البلاد. فأصحاب النظرية التراثية يرون أن التراث السياسي لكل بلد له تأثيره الفاعل والكبير في تحديد سلوك الجيش.
وبناء على ذلك يمكن تقسيم المجتمعات البشرية إلى أربعة مجموعات:
الأولى، مجتمعات تكاد تنعدم حصيلتها من التراث السياسي وهي مجتمعات منغلقة لم تقم فيها المؤسسات ويغيب عنها النشاط السياسي ـ كأثيوبيا في عهد هيلاسلاسي ـ وفي هذه المجتمعات يمكن اللجوء لاستعمال القوة دون رادع يذكر وتكون الحكومات ضعيفة وقابلة للتغيير أمام أي انقلاب مسلح أو التلويح باستعمال القوة المسلحة مما يؤدي إلى الهيمنة الكاملة للعناصر العسكرية بصورة دائمة.
الثانية، وهي مجتمعات ذات تراث سياسي لكنه قليل نسبيا وحكوماتها معرضة كسابقتها للتغيير بالانقلاب العسكري ولكنه غالبا ما يكون لفترة مؤقتة مع إشراك عناصر مدنية في الحكومة سعيا لإضفاء الشرعية التي تسعى الحكومة العسكرية الجديدة عادة لاكتسابها.
الثالثة، مجتمعات ذات تراث سياسي متطور وفيها تكتسب الحكومات عبر إجراءات معينة (استفتاء .. انتخاب .. الخ) يصاحب ذلك وجود قوى سياسية مختلفة تتنافس حول السلطة بالإضافة إلى النقابات والمنظمات غير الحكومية.
لذا يتجه العسكريون إلى الضغط على الحكومة وقد يصل أحيانا إلى درجة التهديد ويتضح من هذا أن تدخل العسكر يتم بصورة غير مباشرة.
الرابعة، مجتمعات ذات تراث سياسي ناجح وهي التي تتمتع بحكومات تسيطر على المؤسسة العسكرية وتكون احتمالات الانقلابات العسكرية خفيفة جدا مع ملاحظة أن أثر العسكريين في السياسة يكون بطريقة مباشرة عبر اللوبي والضغط .
غير أن النقد الذي يمكن أن يوجه لهذه المدرسة هو تجاهلها لعوامل أخرى عديدة ذات أثر لا يمكن تجاهله كالمتغيرات الاقتصادية مثلا. ففي عدد من الدول كانت الأوضاع الاقتصادية المتردية من الأسباب الرئيسية للانقلاب ويمكن أن يكون انقلاب تركيا عام 1980 والذي ستبقته أزمة اقتصادية طاحنة، خير مثال . كما كانت الأحوال الاقتصادية المتردية من الأسباب الرئيسية وراء الإطاحة بحكومة النميري في السودان.
…
يتبع
__________
المصدر: الشروق الاسلامي ـ يوليو 1986