ابراهيم عبد العزيز صهد
كان أول من استقبلنا في معسكر باب العزيزية النقيب خيري نوري خالد، وكانت كل تصرفاته سيئة، بدءا من تجاهله معرفتنا، وإبقاءنا في السيارة فترة من الوقت، وحرصه على إسماعنا أوامر يصدرها إلى الجنود. كانت السيارة واقفة في الساحة، وكان خيري يكرر الأمر للجنود بأن لا يتركوا أحدا ينزل من السيارة.
بعد فترة رأيت النقيب مختار القروي يخرج من باب أحد المباني، فناديت عليه، فاتجه نحو السيارة، ورحب بنا بحرارة، وأبدى تعجبه لماذا نحن جالسين في السيارة، واصطحبنا إلى داخل المبنى. كان القروي – كعادته – دمثا، وكان يبدي أسفه من أن نكون قد عوملنا على نحو غير لائق، وتساءل بتعجب وهو يهز رأسه لماذا أرسلوا معكم حراسات، ولماذا يبقيكم خيري في السيارة لابد أنه لم يعرفكم. فقلت له بل هو يعرفني جيدا وهذا تصرف سيئ جدا، ولا معنى له، ولا مبرر له.
كان مختار القروي ضابطا في كتيبة المدفعية التي كانت متمركزة في معسكر المرج عندما كنت أعمل في مدرسة المخابرة بنفس المعسكر. وبرغم انتسابنا آنذاك لوحدتين مختلفتين إلا أننا كنا نجتمع على مائدة الغذاء في بهو الضباط، كما كنا نلتقي كثيرا في بهو ضباط مدرسة المشاة بعد انتهاء الدوام المسائي. وكانت انطباعاتي عنه جيدة منذ ذلك الحين، وفي الواقع لم يخيب ظني لا في ذلك اليوم الذي وصلنا فيه إلى معسكر باب العزيزية، ولا بعدئذ.
لم يطل معنا مقام القروي، فقد اعتذر لأنه يريد أن يذهب إلى معسكر آخر، ولكن قبل أن يغادر قال لا بد أنكم متعبين من السفر وأشار علينا بالبقاء في بهو الضباط لنرتاح حتى يتم “توجيهنا إلى الوحدات التي سنلتحق بها“. أما رفيقنا ضابط البوليس فقد تم اصطحابه إلى نفس السيارة التي نقلتنا من المطار، وغادرت السيارة المعسكر. ولم أره بعدها.
في طريقنا من المقر إلى البهو التقينا بالحاج “محمود أبو شريدة“، وكانت صدفة عجيبة، فهو صهر جاب الله، وكذلك فقد كانت بيننا معرفة بحكم تجاورنا في السكن خلال الخمسينات وأوائل الستينات، كنا نسكن في شارع سيدي سعيد وكان هو يسكن في شارع العنيزات. سلمنا على بعض، ومن المفارقات أن الرجل هنأنا بقيام “الثورة“، ولا زلت أذكر كلماته “مبروك الثورة“.
كان –بحكم مصاهرته لجاب الله– يعرف أن جاب الله كان في الخارج وسألنا متى عدنا؟. كانت أسئلته تدل على أنه يريد معرفة وضعنا، وعلمنا منه أنه كان في زيارة لطرابلس عند ما حدث الانقلاب، وأنه قد جاء إلى المعسكر للحصول على إذن للعودة إلى بنغازي، واختتم حديثه معنا بسؤالنا عما كنا نريد أن نوصيه شيئا من بنغازي. لم نوصه بشيء لأننا لم نكن وحدنا في وقفتنا معه، فقد كان أحد الضباط يقف قريبا منا.
هذا اللقاء العابر كان مفيدا لي، فقد كانت أسرتي في بنغازي قلقة لأنهم كانوا لا يعرفون عني شيئا، خاصة بعد أن طال الأمر، وحاول أخي الحاج سالم رحمه الله الاستفسار عني من ضباط معسكر قريونس –حيث كنت أعمل قبل نقلي إلى الدفاع الجوي–، وأيضا من ضباط معسكر البركة، وكانت أول مشكلة واجهها هو أن معظم الضباط إما كانوا معتقلين أو أن مواقعهم قد تغيرت، أما الذين تمكن من الالتقاء بهم بمن فيهم مصطفى الخروبي –كان في معسكر البركة آنذاك– فكانوا يجيبونه بالقول بأنهم لا يعرفون.
مصطفى الخروبي أنكر أن أكون معتقلا وطمأنه بالقول إما أنني ما زلت في بريطانيا أواصل الدورة، أو أنني عدت وكلفت بالعمل في إحدى الوحدات في البلد، وفسر عدم اتصالي بالظروف التي في الجيش آنذاك.
لم يقم الحاج محمود بوشريدة بإخطار أسرتي بأنه رآني في باب العزيزية، برغم علاقته الوطيدة مع أخي، ولا أدري لماذا لم يفعل؟، ولكنه ذكر لابنه “عبد السلام” –ربما في معرض حديثه عن جاب الله– أنه رآنا في المعسكر.
ومن قبيل الصدف أيضا أن التقى أخي عند بوابة معسكر بن يونس “المستشفى العسكري” مع عبد السلام الذي كان هناك لبعض شأنه وعرف أن أخي جاء إلى المعسكر يسأل عني، فلم يخبره في حينها، ولكنه أخبر أحد معارفنا بأن والده قد شاهدني ومعي جاب الله في معسكر باب العزيزية، وبهذه الطريقة وصل الخبر إلى أسرتي.
لم أستطع الاتصال بأسرتي إلا بعد ما يزيد عن شهر من اعتقالي، وتم ذلك بتسهيل من أحد الضباط، ولهذا قصة أخرى.
عندما وصلنا إلى بهو الضباط وجدناه مكتظا بعدد من الرجال يلبسون ملابس مدنية، وكانوا كلهم صغار السن، ولا أذكر أننا عرفنا منهم أحدا، ولكننا عرفنا أنهم من طلاب الدفعة الثانية عشر من الكلية العسكرية، وأنه قد جرى استدعاؤهم للحاجة إليهم، وقد كانوا يقضون فترة الإجازة.
كان هذا إجراء غير عادي، فهؤلاء الطلاب لم ينهوا السنة الثانية من الكلية، وكان هذا الإجراء يعني أن هناك نقصا حادا في الضباط، وليس من تفسير لذلك إلا كثرة عدد الضباط الموقوفين عن العمل.
كان هذا الانطباع الذي راودنا يسير في تواز مع ما لقيناه منذ وصولنا مطار طرابلس، فلم نر أي ضابط برتبة رائد منذ وصلنا، وأغلب من رأينا كانوا من خريجي الدفعات الأخيرة من الكلية.
تحلق حولنا هؤلاء الإخوة بعد دخولنا البهو وسلموا علينا، وكانت مظاهر الترقب والقلق بادية على وجوههم، وكنا نرى في وجوههم تساؤلات، ولكنهم لم يطرحوها إلا بعد فترة من جلوسنا معهم.
كانوا لا يعرفون ما هي المهام التي سيكلفون بها، وهل سيعاملون كضباط في التكليفات التي تصدر لهم وهم لم يتحصلوا على الرتبة بعد، أم سيعاملون كجنود، وهذا طبعا غير منطقي أيضا، وكانوا لا يعرفون متى يبت في شأنهم، وأنهم كانوا ينتظرون في البهو منذ الصباح دون أن يتحدث إليهم أي أحد.
كان علينا أن ننتظر نحن أيضا في بهو الضباط إلى ما بعد المغرب، وطيلة هذا الوقت لم نر أي ضابط نعرفه، وبخلاف القروي وخيري خالد فجميع الضباط الذين رأيناهم كانوا برتبة ملازم.
بعد المغرب جاء أحد الضباط يقدم رجلا ويؤخر الأخرى، وكان يبدو عليه الارتباك والتأثر، وأخبرنا أنه سيصطحبنا إلى غرفة في قاطع منام الضباط لنستريح فيها. كان واضحا –بالنسبة لي على الأقل– أن هذا يعني وضعنا تحت التوقيف.
تبادلت مع جاب الله نظرات ذات مغزى، فقد كان جاب الله مازال يحتفظ بتفاؤل بأن هذه الإجراءات ناجمة عن فوضى تصاحب الانقلاب، وأننا غير مقصودين بهذه الإجراءات، ولسبب ما لم أكن أشاطره هذا التفاؤل، ولذلك فعند وصولنا إلى الغرفة مع مرافقنا قلت للضابط بطريقة مازحة ” هل أنت مكلف باعتقالنا؟” فاحمر وجه الضابط وحاول أن يتملص من الإجابة، وقال إن لديه أوامر بتفتيش أمتعتنا، ولكنه لن يفعل، وأضاف مبتسما إن الأمر لن يزيد على “ليلة وفراقها صبح“.
قال له جاب الله وهو يبتسم “ولا يهمك يا بوصاحب .. الشناطي ما فيهن شي على كل حال“. أدى الضابط التحية العسكرية وخرج.
نظر إلي جاب الله وقال لي “ربما تكون قد أحرجت الراجل، وكما ترى فالموضوع ليس اعتقالا، ونحن نقيم في غرفة في قاطع الضباط” كان جاب الله يبتسم، فظننت أنه يمزح، ولكن لما رأيت أنه كان يظن حقا أننا غير معتقلين، قلت له “افتح باب الغرفة واخرج فإذا لم تجد حارسا فنحن غبر معتقلين في هذه الغرفة“.
فضحك جاب الله وقال “ازعما يا بورفيق .. والله خايف إلا يكون كلامك مزبوط“، واستدار وفتح باب الغرفة. كان وراء الباب جنديين من “التبو“، وحاول جاب الله أن يفهمها أنه يريد استعمال الحمام، ففهماه بصعوبة.
عندما عاد إلى الغرفة كان يضحك وقال لي “خبر أيسمه… من قلة الجنود.. ما لقيو إلا هالتبو للحراسة… هذوم كيف نتفاهموا معاهم” … لكن في الواقع كان واضحا لنا لماذا اختاروا جنديين من التبو.
في تلك الليلة تبادلنا أحاديث كثيرة .. وحاولنا تقييم الأمور بحسب ما رأيناه. كانت الدلائل حتى تلك اللحظة تدل على أن الاعتقالات في صفوف الضباط أكبر بكثير مما كنا نتوقع، وأن الأمور تدار من صغار الرتب.
وأذكر أننا لم نعلم بأن معمر القذافي قد أصبح “رئيسا لمجلس قيادة الثورة” إلا ذلك اليوم. وتساءلنا حول دور آدم الحواز وموسى أحمد، كان الأول قد أصبح وزيرا للدفاع والثاني للداخلية، ولم يكن يراودنا أدنى شك في أن سعد الدين بوشويرب ليس سوى واجهة.
كذلك فقد كنا نتعجب من حالة الارتباك الشديد التي كانت سائدة بعد أكثر من اثني عشر يوما على قيام الانقلاب[*]. ولكن الحديث بيننا لم يطل لأننا كنا مرهقين جدا فنمنا.
كانت الغرفة صغيرة نسبيا، لكن كان بها سريران، ويبدو أنها لم تكن مشغولة من أحد، لأن الدواليب كانت فارغة، وبالغرفة نافذة ذات قضبان حديدية تطل على ساحة واسعة. بقينا في تلك الغرفة حوالي أسبوعين.
وللحديث بقية إن شاء الله..
[*] وقد عرفنا بعدئذ من أحد الضباط أن خيري نوري خالد هو الذي يدير الأمور في المعسكر، وأن كل الإجراءات التي اتخذت بحقنا –بعد مغادرة القروي– كانت بترتيبات بين خيري خالد ومعمر القذافي شخصيا.
…
يتبع
______________
المصدر: مدونة جولات من التاريخ الليبي