ابراهيم عبد العزيز صهد

لم تكد عجلات طائرة أليتالياتلامس مدرج مطار طرابلس، حتى بدأت ترتفع من جديد محلقة في سماء المطار. اعترت الركاب مشاعر الدهشة والقلق.

تبادلت مع رفيقي نظرات القلق والتعجب لبرهة قطعها صوت قائد الطائرة يخبرنا أن سلطات المطار قد طلبت منه الصعود بعد ما أعطته إذنا للهبوط، وأنه في انتظار السماح له بالهبوط أو سيكون علينا العودة إلى روما، من حيث أتينا. رحلتنا كانت متعبة، ولم تكن في حاجة إلى مزيد من المشاكل.

كنا قد قضينا ليلة طويلة مسهدة في مطار روما، لا ندري هل سيكون في إمكاننا الطيران إلى طرابلس في الغداة، أم أن السلطات الجديدة في ليبيا ستستمر في قفل الأجواء الليبية أمام حركة الطيران.

كنت ورفيقي قد قضينا يوما طويلا في لندنا قبل أن نصل إلى روما متنقلين بين مكاتب خطوط الطيران، ثم إلى مطار هيثروحتى تمكنا من الطيران إلى روما على متن خطوط أليتاليا“. وقبلها فشلت جهودنا في الحصول على مقعدين على متن الرحلة الخاصة التي جهزتها شركة الخطوط الجوية البريطانية.

تلك الرحلة كانت تقل السفير البريطاني الجديد، وعددا من الأسر البريطانية التي كانت تقضي إجازة الصيف في بريطانيا، وقد تم ترتيب الرحلة بعد إذن  خاص من الانقلابيين في ليبيا لتكون أول رحلة جوية خارجية يسمح لها بالوصول إلى طرابلس بعد الانقلاب. تحصل زميلان لنا على آخر مقعدين على رحلة الخطوط البريطانية.

وكان علينا –أنا ورفيقي – أن نتابع البحث عن رحلة إلى طرابلس، إلى أن أخبرتنا السفارة الليبية في لندن أن أليطالياستسير رحلة من روما صبيحة اليوم التالي، وبالرغم من أن خطوط أليتالياأوضحت لنا أن هذا غير مؤكد، إلا أننا قررنا أن نسافر إلى روما على أمل أن نسافر في اليوم التالي إلى طرابلس.

كان رفيقي في الرحلة هو المقدم جاب الله مطر. وكنا في بريطانيا ضمن أربعة ضباط أوفدتهم رئاسة الأركان العامة لتلقي دورة ابتدائية في مدرسة المدفعية الملكية البريطانية. كان الضباط الأربعة يكونون أركان الدفاع الجوي الليبي الذي كان قيد التشكيل، وكانت ليبيا قد تعاقدت مع بريطانيا على شراء منظومة للدفاع الجوي قوامها صواريخ ثاندر بيردذات المدى المرتفع، وصواريخ ريبييرذات المدى المتوسط، مع منظومات رادار، ومدفعية مضادة للطائرات.

كنا قد أنهينا تدريباتنا في مدرسة المدفعية البريطانية في ويلز، وبدأنا في مرحلة الالتحاق الفعلي بوحدات الدفاع الجوي البريطانية، للاطلاع العملي والإلمام ببعض جوانب التنسيق الراداري، وأنظمة الضبط والتشبيك ومتابعة الطائرات العدوة وفرزها من الطائرات الصديقة.

كنا نزور وحدات في مناطق مختلفة في اسكتلندا وإنجلترا، ونتخذ من لندن مركزا لانطلاقنا إلى هذه المواقع. غير أن حدوث الانقلاب العسكري جعلنا نقرر التوقف والعودة الفورية إلى البلاد وبأسرع ما يمكن. لم يكن الفرار سهلا، ولم نكن جميعا متفقين عليه، ولكن توصلنا إليه لأننا لم نعد قادرين نفسيا وذهنيا على متابعة الدورة في تلك الظروف التي تمر بها البلاد.

كان أول لقاء لي بالأخ جاب الله مطر أثناء حضوره دورة تدريبية في مدرسة المخابرة بالمرج. كنت مدرسا بالمدرسة، وكانت تلك أول تجربة أمر بها بالتدريس لضباط أكبر مني رتبة. بعد الدوام اليومي كنا نقضي معظم الوقت في بهو الضباط في تبادل الحديث. كان جاب الله أحد من تأنس للحديث معهم وتستمتع بالاستماع لهم. كان يجيد الحديث وينقلك من كلام أهل المدن إلى أحاديث البادية وأمثالها وحتى أغانيها وأشعارها.

اللقاء الثاني بيننا كان في مدرسة المدفعية البريطانية في ويلز، حيث جلسنا جميعا في مقاعد الطلاب، وتدربنا سويا في مواقع بطاريات الصواريخ، وكنا نقطن في مبنى واحد، ونتناول وجبات الطعام كلها معا، ونقضي معظم الوقت مع بعضنا، فنشأت بيننا صحبة وصداقة رفعنا فيها التكليف.

عاد رفيقانا على متن طائرة الخطوط البريطانية، بينما عدنا جاب الله وكاتب هذه السطورعلى متن طائرة أليتاليا، التي عادت للتحليق في سماء مطار طرابلس تنتظر إذنا ثانيا بالهبوط.

في المطار استقبلنا أحد ضبط الجيش، الذي كان ضمن مجموعة ألحقت للعمل في المطار إثر الانقلاب. كان استقبال الضابط حارا وحفيا، وتم تخصيص سيارة لاندروفرلنقلنا إلى معسكر باب العزيزية.

كانت الإجراءات تبدو روتينية إلى أن جاءوا بجنديين مسلحين وأركبوهما معنا في السيارةثم جاءوا بضابط  من شرطة طرابلس لا أذكر اسمه الآن ولكني أذكر أنه من ذوي الرتب الكبيرةكان قادما معنا على نفس الطائرة وأركبوه معنا…. بعدها توالت المفاجآت .

كان الارتباك يسود مطار طرابلس، وكنا نرى بوضوح تناقضا في إدارة أوضاع المطار، وإجراءات استقبال ركاب الطائرة الوحيدة التي حطت بالمطار، وهذا فسر لنا السبب الذي أدى بطائرتنا أن تعيد الإقلاع بعدما حطت على المدرج، وكيف استمر تحليقها لمدة تزيد على نصف ساعة حتى سمح لها بالهبوط من جديد.

 استقبالنا كان خاصا، لا يقارن بالإجراءات التي كانت تتبع مع المسافرين الآخرين التي كانت تأخذ وقتا أطول، فقد استقبلنا أحد ضباط الجيش وكان يعرفنا، وقد كان بالفعل ودودا وحفيا بنا، وأتم كل الإجراءات بسرعة، لكن هذه الحفاوة لم تدم،  فبعد أن اصطحبنا الضابط الذي استقبلنا إلى سيارة لاندروفركانت ستنقلنا إلى معسكر باب العزيزية، وطلب من السائق أن يغادر المطار، صاح شخص آخر لإيقاف السيارة.

وتكررت عملية الأوامر المتناقضة لسائق السيارة بالتحرك مرة وبالانتظار مرة أخرى. وعرفنا أن التناقض مرده أن الضابط الذي اصطحبنا إلى السيارة كان لا يرى ضرورة وجود حراسة معنا، بينما كان غيره يرى عكس ذلك، وهذا معناه أننا في حكم المعتقلين.

 بعد فترة من الانتظار أُركب معنا جنديان مسلحان. كان سائق السيارة قد بدأ يتبرم من تناقض الأوامر ومن الحرج الذي وجد نفسه فيه، فما كان من جاب الله إلا أن قال له عليك بالصبر الدنيا ما هيش طايرة، وانكان علينا واخذين على سوق الرحيل امغرب“.

نظرت إلى جاب الله وقلت له مازحا: “الربيع من فم الدار يبانفرد على: “كان هذا أول خط المحراث …. والا خليها ساكتة“.

كان تبرم السائق قد بلغ مداه عندما أمر بأن يتوقف مرة أخرى بعد أن تحركت السيارة، وقالوا له لديك راكب آخر ستأخذه معك. عرفنا أن الراكب أحد ضباط الشرطة في طرابلس (لا أتذكر رتبته الآن ولكنني أظن بأنه كان عقيدا أو زعيما)، وكان قادما معنا على نفس الرحلةكان الرجل كبيرا في السن، ويبدو الارتباك واضحا عليه، وطلبوا منه أن يركب في الخلف مع الجنديين، عندها تخليت له عن مقعدي –احتراما لسنه ولرتبتهوركبت في الخلف مع الحرس. لا أنسى نظرة الامتنان التي بدت في عينيه.

 تحركت بنا السيارة ثم توقفت بعد دقائق عند مدخل المطار، حيث أقيمت بوابة وبجانبها مبنى صغير. كان يقف على البوابة ضابط برتبة ملازم مع عدد من الجنود، وبعد أن فحص السيارة ومن فيها، وفحص جوازات السفر، طلب منا النزول من السيارة والدخول إلى المبنى، الذي كان عبارة عن غرفة صغيرة، بها بعض الكراسي المتآكلة.

كان الملازم دائم الصياح، ويبدي تبرما ممن يصدر الأوامر في هذا المطار. وجلسنا في تلك الغرفة فترة تزيد عن ثلاث ساعات. كنت منشغلا بمراقبة ما يجري حولنا من خلال إحدى نوافذ الغرفة، وكنت أود أن أعرف لم تم احتجازنا في هذه الغرفة بعد ما سمح لنا بمغادرة المطار، سيارتنا كانت هي الوحيدة التي أوقفت. وكنت أستمع إلى الحديث الدائر بين جاب الله وضابط الشرطة. كان ضابط الشرطة قد بدأ يأنس لنا، فأشار في حديث خافت إلى أنهم أخضعوه إلى ما يشبه التحقيق، وفتشوا متاعه وفتشوه شخصيا.

 كنا نتصبب عرقا لأن الجو كان حارا في ذلك اليوم، خاصة وأن باب الغرفة ونافذتين فيها كانت تطلان باتجاه الشمس. ومن خلال الحديث عرفنا أن رفيقنا مصاب بداء السكريوأنه متضايق من شدة الحر وفي أمس الحاجة إلى أن يشرب ماء، ولكنه لا يريد أن يطلب ماء مخافة أن يعرض نفسه لأي حرج أو مهانة.

ولما كنت أصغرهم سنا ورتبة، فقد شعرت أن علي أن أطلب ماء، وعندما خرجت من باب الغرفة، كان الملازم ما زال في صياحه وانشغاله بفحص السيارات المغادرة، وكان أحد الجنود قريبا مني فطلبت منه أن يزودنا بماء، وبعد قليل دخل علينا بقربة صغيرة فيها ماء بارد، وقال هذه لي ولكن ما تعز عليكم“.

وبعد قليل دخل نفس الجندي يحمل سفرة بها أكواب شاي وقطع خبز، معتذرا أنه ليس لديه اكثر من ذلك وهو يقول الجود بالموجود“. وعندما خرج الجندي استوقفته عند باب الغرفة وعرفت أنه يعمل في معسكر عين زاره، وبعد الانقلاب تم إرساله ضمن مجموعة من جنود المعسكر إلى المطار للحراسة، أما الملازم فهو من وحدة أخرى، وأن الجنود العاملين معه في الموقع يعانون من تصرفاته. كما عرفت من الجندي أنه في الأصل من منطقة القيقب“. 

بعد طول انتظار قررنا أن نخرج لنتحدث مع الملازم، خرجت أنا وجاب الله وطلبنا من ضابط الشرطة أن يبقى في الغرفة. لم يعجب الملازم خروجنا، لكن جاب الله بادره بأن سأله لماذا نحن هنا؟ ومن أمر بهذا؟.

كانت نبرات صوت جاب الله حادة. قال الملازم بأنه ينفذ الأوامر. فقلت له لقد سألك المقدم جاب الله عمن أمر بإيقافنا في هذه الغرفة، ولا نظن أنك تلقيت أمرا من أحد حتى تنفذه، وإنما هو تصرف من عندك. ازداد ارتباك الملازم وقال إن مشكلتي هو ضابط الشرطة الذي معكم، وأنا في انتظار أوامر إلى أين أرسله.

قال له جاب الله لو كنت مكانك لما أوقفت السيارة لأنك ترتكب خطأ كبيرا، فلماذا لا تترك القرار للموجودين في ‘طرابلس؟. قال هذا ما فعلته بالفعل فقد اتصلت باللاسلكي بمعسكر باب العزيزية وأنا في انتظار ردهم.

 بعد قليل دخل الملازم وقال ستغادرون إلى معسكر باب العزيزية. وهكذا غادرنا جميعا تلك الغرفة، وركب معنا الجنديان

في معسكر باب العزيزية توالت المفاجآت 

يتبع ..

___________________

المصدر: مدونة جولات في التاريخ الليبي

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *