هزيمة “نجمة الموت”: الاستسلام والأسر
لقد تم خداع صحيفة واشنطن بوست وصحيفة وول ستريت جورنال من قبل البيت الأبيض لنشر تقارير كاذبة عن قيام القذافي بتكثيف الأنشطة الإرهابية.
في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، كان حفتر ضابطًا غير مُجرَّب ولكنه مخلص، وقد أعجب به القذافي نسبيا لأنه كان يتصرف كضابط جريئ و معربد ويشرب الخمر.
لكن هل يمكن أن يكون لحفتر دور؟
لا يزال القذافي يثق في دائرته الضيقة المقربة من كبار الضباط، ولكن في عام 1987 نقل حفتر من مصدر الثروة النفطية للبلاد إلى قلعة صحراوية نائية في شمال تشاد.
كان الرئيس ريغان قد تبنى عمليات استخباراتية سرية في وقت مبكر من إدارته، مستخدمًا نتائج الانتخابات الرئاسية لصالحه للقيام بعمليات سرية ضد الدول المرتبطة بالسوفييت.
كانت العملية الأولى هي تنصيب الرئيس التشادي حسين حبري في عام 1981 من أجل مضايقة القذافي في جناحه الجنوبي.
في 14 أغسطس 1986، وافق ريغان على خطة سرية أعدها مستشار الأمن القومي جون إم بويندكستر لتمويل برامج الخداع التي تهدف إلى جعل القذافي يعتقد أن هناك درجة عالية من المعارضة الداخلية له، وأن مساعديه الرئيسيين الموثوق بهم غير موالين. والولايات المتحدة على وشك التحرك ضده عسكريا.
مذكرة بويندكستر المكونة من ثلاث صفحات، والتي تم تسريبها إلى بوب وودوارد في صحيفة واشنطن بوست، وضعت خطة سرية شرح فيها كيف ستصور الولايات المتحدة القذافي على أنه مصاب بجنون العظمة، وفي الوقت نفسه، إثارة الاستياء الشعبي باستخدام أحداث حقيقية وخيالية، والتي بالطبع ستجعل القذافي يتصرف بشكل مبرر كمريض بجنون العظمة.
تم خداع الأمريكيين أولاً. لقد خدع البيت الأبيض صحيفة واشنطن بوست وصحيفة وول ستريت جورنال لنشر تقارير كاذبة حول قيام القذافي بتكثيف الأنشطة الإرهابية بينما، في الواقع، قررت وكالة المخابرات المركزية أن القذافي تخلى عن تلك التكتيكات.
الثمانينيات لم تكن لطيفة مع القذافي. انخفضت أسعار النفط، وتسللت دول أخرى وهاجمت الحكومة، وكانت الحرب في تشاد تسير بشكل جانبي حيث اختارت فرنسا وإسرائيل والولايات المتحدة دعم الزعيم الجديد، حسين حبري.
في 7 يونيو 1982، توغّلت قوات حبري المدعومة من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في نجامينا، عاصمة تشاد، وسيطرت على الحكومة.
كانت المهمة التالية للنظام الجديد في تشاد هي طرد الليبيين من الشمال. وثائق وكالة المخابرات المركزية التي رفعت عنها السرية من ديسمبر 1982 تظهر أن انخفاض الدخل النفطي جعل القذافي مترددًا في تكثيف العمليات هناك.
أنفق ريغان 10 ملايين دولار على تعزيز القتال ضد معارضي حبري المدعومين من القذافي في الشمال. كانت عملية تشاد السرية هي أول عملية سرية قام بها المقدم البحري أوليفر نورث في مجلس الأمن القومي.
نسّقت مجموعته للعمليات مع مدير المخابرات المركزية ويليام كيسي. كتاب تيم وينر، “تراث الرماد“، وثق هذه الفترة، التي أنفقت خلالها الولايات المتحدة نصف مليار دولار على دولة لم يسمع بها معظم الأمريكيين من قبل.
أظهر المقدم نورث حماسه للتغلب على العقبات البيروقراطية، بعد أن كان أعضاء الكونغرس مترددين وبطيئين في دعم عمليته. كان رد المقدم نورث “اللعنة على الكونجرس.. أرسل الأشياء الآن“. حتى أن المقدم نورث اقترح استخدام القاذفة السرية الجديدة “الشبح” لاغتيال القذافي دعماً لمحاولة عام 1984 من قبل الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا لمهاجمة ثكنات ومجمّع باب العزيزية في طرابلس، القاعدة الرئيسية للقذافي.
قدمت عملية مشتركة بين البنتاغون ووكالة المخابرات المركزية بقيادة تشيستر كروكر وجيمس بيشوب وتشارلي دولفر مساعدة عسكرية سرية لتزويد التشاديين بالأسلحة لمحاربة القذافي. ليس فقط قذائف آر بي جي وبنادق هجومية ، بل عشرين شاحنة بيك آب تويوتا مثبتة ببنادق عديمة الارتداد عيار 105 ملم ومدافع رشاشة عيار 12.7 ملم ، جنبًا إلى جنب مع صواريخ ستينجرز وريد آي المضادة للطائرات، بالإضافة للمدربين والمشغلين اللازمين للتنسيق مع طائرات المراقبة أواكس ، إف -15 و 600 التي تقوم بعمليات الدعم للأفراد.
أدت زيادة المساعدات التي قدمتها وكالة المخابرات المركزية إلى تشاد خلال صعود حبري إلى قيام القذافي بجلب 7000 جندي في شمال تشاد.
في عام 1986 ، قال القذافي في خطاب ألقاه أمام خريجي الكلية العسكرية إنه يجب أن يقاوم العدوان الفرنسي والأمريكي بهدف إنقاذ السكان التشاديين من الفناء.
ومع تدفق الأسلحة لقتال القذافي، اندفعت الجماعات التشادية فوق الصحراء الحارقة بأسلحة تويوتا وأسلحة أرض–جو جديدة وأطنان من الذخيرة، وكلها مدعومة بالقوة الجوية الفرنسية والمخابرات الأمريكية.
كان هدفهم هو طرد القوات الليبية والمرتزقة المتخندقة في قواعد شديدة التحصين على حدودهم الشمالية. وكان أبرزها قاعدة الإمداد الرئيسية في وادي دوم.
كان حفتر قائدًا بريًا من المدرسة القديمة على الطراز السوفيتي، واستمر في بناء مهبط الطائرات في وادي دوم وتسليح قواته بالمدرعات والمدفعية والبطاريات المضادة والطائرات الضخمة وقام بتحصين القاعدة بالألغام الأرضية.
في الصحراء كان العرب يقاتلون دائمًا باستخدام عمليات مفاجئة كضربات البرق، ولكن كان الموقف الثابت هو إسقاط لقذافي.
محمد بويصر، الذي يعمل كمهندس بترول في دالاس، كان مستشارًا سياسيًا لحفتر. يتذكر قصة وادي دوم: “قسم حفتر قوته إلى ثلاث مجموعات. تم إرسال الوحدة الأولى لمحاربة التشاديين وهُزموا. ثم إرسل المجموعة الثانية على نفس الطريق وهُزمت أيضًا. ثم أرسل الفريق الثالث، وتبعهم التشاديون إلى قاعدته “.
هذا الوصف يطابق آخرين. أرسل حفتر باستمرار القوات المسلحة الأخف وزنا والأسرع على سيارات تويوتا، وكان يضرب ويهزم في كل مرة. أخيرًا ، اتبع التشاديون طابورًا ليبيًا متراجعًا عبر الألغام الأرضية حتى وصلوا للقاعدة والتي أطلق علي تلك العملية بعض الصحفيين “نجمة الموت”.
حاول القذافي إدارة الحرب من بعيد. لقد أمضى عقدين في بناء دفاعاته المعقدة لتأمين المنطقة. ولتعزيز قواته، فجلب مقاتلين سودانيين بمبلغ 500 دولار شهريًا ومرتزقة دروز لبنانيين بمبلغ 2500 دولار شهريًا.
أمر القذافي خليفة حفتر بإرسال رتل عسكري لمهاجمة المتمردين في فادا ، وفي 19 مارس، تم القضاء على هذا الرتل بسرعة على بعد 30 ميلاً جنوب شرق وادي دوم عند ممر يسمى بئر كورة. كما تم القضاء على رتل نجدة ثانٍ على بعد 12 ميلاً من القاعدة.
علم رجال حفتر أن التشاديين قادمون لكنهم لم يطلقوا النار على الأرتال القادمة، معتقدين أن رجالهم يعودون ومعهم ما كانوا يسمونهم بالقوات التشادية الصديقة. و كان الأمر كذلك، لكن التشاديين لم يكونوا قوات صديقة بل كانوا في مطاردة ساخنة لقوات حفتر.
في 22 مارس، شن 2500 جندي تشادي هجومًا قبل الفجر على وادي دوم. كان حفتر يقوم بعمليات إرسال متزامنة، وكان واثقًا من أن حقول الألغام والدروع ستردع أي قوات مهاجمة.
كان الفرنسيون والأمريكيون محل اهتمام حفتر. زودوا التشاديين بمعلومات استخبارية واعتراضات لاسلكية ؛ أسقطت الضربات الجوية الفرنسية رادار لحفتر. وكانت القبائل التشادية قد أتقنت “الغزو” أو غارة الكر والفر على الإبل، إلا أن الهجوم اعتمد هذه المرة على 400 شاحنة بيك آب تويوتا.
قامت سيارات التويوتا التشادية المزودة بأسلحة ميلان المضادة للدبابات بمباغثة دبابات حفتر من الجانبين مما أربك الليبيين وهم يحاولون توجيه أبراجهم الرد على النيران في مختلف الاتجاهات.
حاصر التشاديون القاعدة الجوية، مما أدى إلى وقوع إصابات مدمرة. وحاول الليبيون المرعوبون الفرار عبر حقول الألغام الخاصة بهم مما أدى إلى عواقب مميتة. بعد أربع ساعات من القتال خارج القاعدة، استسلم الليبيون، تاركين المطار والمخابئ تحت الأرض سليمة.
إجمالاً ، استسلم 3000 ليبي. كان هناك ما يقدر بنحو 11000 جندي ليبي في المنطقة في مارس 1987. وبعد خمسة أيام، استعاد التشاديون شمال تشاد. وتمكنت معظم القوات الليبية والمقاتلين الأجانب من الانسحاب إلى ليبيا.
من بين الثلاثة آلاف رجل الذين استسلموا في وادي دوم، فر أكثر من نصفهم، تاركين حفتر و 1269 جنديًا كأسرى.
كيف خسر حفتر كل هذه الخسارة عندما كان لديه الكثير من الموارد تحت تصرفه؟
أولئك الذين كانوا هناك يصرون على أن حفتر كان مخمورًا مع صديقته المحلية واستسلم بسرعة. على عكس العديد من الأساطير حول حفتر، بدت هذه السردية مناسبة.
عندما سأل مراسل نيويورك تايمز ضابطا تشاديا في وادي دوم عما إذا كانت تكتيكات “حرب تويوتا” ستكون فعالة ضد جيش من الدرجة الأولى ، قال إنه لا يعرف “لم نكن نحارب جيشا من الدرجة الأولى.”
أحد المسؤولين الحكوميين التشاديين ابتهج بالنصر: “العقيد القذافي عانى من هزيمة استراتيجية دمرت مصداقية وفعالية الجيش الليبي“.
تشير التقديرات إلى أنه بحلول الوقت الذي تفاوضت فيه تشاد وليبيا على وقف إطلاق النار في 11 سبتمبر 1987، كان القذافي قد خسر 1.5 مليار دولار من المعدات العسكرية ، و 7500 قتيلًا و 2000 أسير – أي عُشر جيشه بالكامل.
***
يتبع
________________
المصدر: ترجمة بتصرف عن موقع “الملفات الليبية“.