عبدالله الكبير
أورد الدكتور محمد المفتي في كتابه ( زمن المملكة) مقتطفات من مذكرة صادرة عن السفارة الأمريكية في ليبيا تحت عنوان ” العرس البرقاوي.. مصاهرة الشلحي ومازق” .
يسرد التقرير وقائع زفاف عمر الشلحي ناظر الخاصة الملكية وفوزية ابنة أبرز سياسي برقة حسين مازق، في يوليو 1969، والبذخ الذي شهده العرس والطائرة الخاصة التي نقلت المعازيم من طرابلس، والحفلات التي أحيتها الفرق الموسيقية والراقصات المصريات، بشكل لم تعرف له ليبيا ولا مدينة البيضاء مثيلا من قبل.
وكان من اللافت في التقرير اشارته إلى وصول العروس “مرتدية فستانا باهضا، وزنها لايزيد عن 45 كيلو جرام، محمولة من قبل عشرة رجال، وكانت الحفلة صاخبة، بيد أن مزاج العروس كان عابسا، وكان شائعا أنها لم تكن راضية عن هذا الزواج الذي رتبه الملك، وهكذا جلست فوزية ستة ساعات دون ابتسامة“.
يستشهد المفتي بماورد في التقرير في إطار حديثه عن الزهو واستعراض الثروة خلال نهاية زمن المملكة، من خلال عرس باذخ، كدليل على الفساد وانفلات الأمور، والسخط العام على هذا الفساد، ولكن اللافت في هذا الجزء من التقرير، هو التفاصيل الدقيقة الخاصة بالعروس، وزنها، جلوسها لساعات في الحفل من دون أن تبتسم.
الفكرة الشائعة عن تقارير السفارات أنها تعد من رجال ونساء مخابرات متخصصون، يتقنون مهنتهم جيدا، لكي تكون التقارير شاملة ووافية ودقيقة، وأنها لا تتعدى الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واهتمامات واتجاهات الرأي العام. وما تتناوله الصحافة ويستقطب اهتمام القراء، وغيرها من الشؤون ذات العلاقة المباشرة بالتطورات السياسية.
فما الذي يستدعي اهتمام سفارة دولة عظمى مثل أمريكا، بمظهر ومزاج عروس في حفلة عرسها في مدينة ليبية صغيرة؟
تجدر الإشارة أولا أن التقاليد الليبية تفصل بين الرجال والنساء في المناسبات الاجتماعية، ما يعني أن المخبر الذي جمع المعلومات من داخل حفل النساء كان إمرأة.
ثانيا، المصاهرة بين عائلتين نافذتين سياسيا، وتوطيد العلاقة عبر المصاهرة له بعد سياسي سيؤثر في مجريات الاحداث، ولكن عدم رضى العروس ينذر بانهيار الزواج، ومن ثم الفتور، وربما العداء، بين العائلتين، وهذا أيضا ستكون له تداعيات سياسية.
إذا في الحالتين يتعين على الحكومة الأمريكية أن تأخذ بعين الاعتبار كافة السيناريوهات المحتملة للتطورات التي ستنتج عن هذه المصاهرة، وكقوة عظمى مهيمنة لابد أن تهتم بأدق التفاصيل التي يمكن أن يصل تأثيرها إلى المصالح الامريكية.
فأمريكا أنذاك لها قاعدة عسكرية كبيرة في ليبيا، ونشاط القوى الاشتراكية يتنامى في المنطقة العربية، وهي في حالة صراع بارد مع السوفييات، والمنطقة متوترة بسبب الصراع العربي الاسرائيلي.
ما دفعني إلى العودة للكتاب رغم مطالعته فور صدوره، هو الرد المتلفز للسيد علي العباني رئيس هيأة الأوقاف بطرابلس، على ماورد في تقرير ديوان المحاسبة عن تجاوزات مالية في الهيأة، حيث قال أن “بالتقرير معلومات حساسة تخترق الأمن القومي، وهذه المعلومات يمنحها الديوان بالمجان، للدول التي لن تكون بحاجة إلى إرسال جواسيس، فلديهم في ليبيا تقارير ديوان المحاسبة“.
هذا الرأي من مسؤول الأوقاف يؤكد قلة المعرفة بقدرات الدول في الحصول على أدق المعلومات، والدور المحوري للسفارات في هذا النشاط، دون الحاجة إلى التقارير والنشرات الرسمية، الصادرة عن المؤسسات كتقرير ديوان المحاسبة.
وهذا لا يعني إهمال التقارير وعدم الاهتمام بها، ولكن هذا الاهتمام تحصيل حاصل، فبأدواتهم وأجهزتهم وخبراتهم، لديهم معلومات أبعد وأعمق وأكثر شمولا مما يرد في التقارير الرسمية، ليس في الدول الضعيفة المفككة، أو التي تعبر مرحلة انتقالية، بل حتى في الدول القوية المستقرة.
ذكرت تقارير صحفية موثوقة عن تجسس أمريكا على المستشارة الألمانية السابقة ميركل، واعتراض كل مكالماتها، والسلوك نفسه تمارسه كافة أجهزة المخابرات، كل حسب قدراته وإمكانياته.
ولعل ماورد من تفاصيل بالتقرير الخاص بالعرس البرقاوي، بين عائلتي الشلحي ومازق، قبل أكثر نصف قرن، دليل كاف على الأيدي الطويلة، والعيون الحادة للقوى الدولية، للوصول إلى المعلومات بأدق تفاصيلها، غير أن المشكلة لدينا في من يتبوؤن المناصب والمسؤوليات أنهم لا يقرأون.
ـــــــــــــ