سراج دغمان

هناك الكثير من المجتمعات التي واجهت العديد من التحديات القاسية في مرحلة ما من مراحل تاريخها وتكوينها وربما للفوضى ضريبة يدفع ثمنها عموم المجتمع الذي غالبًا ما تكون معظم طبقاتهِ ضحية لسلوك وثقافة الطبقة المُتغلبة.

إن أساس النهضة لدى المجتمعات هو التكوين الفكري والثقافي ومجموعة القيم الجامعة التي تُستنبط من المخزون التراكمي لتجربة الجامعة للعقل الجمعي في المجتمع الواحد.

لا شك أن الدولة الليبية الحديثة قد تعرضت لمرحلة طويلة من التشويه والمسخ الذي يبدو أنهُ كانَ مُتعمدًا ومدروسًا في حقبة العقيد القذافي الذي تبنت إدارة حُكمهِ سلوك الفوضى الممنهج ومحاولة إقصاء دور المدينة بما تحويه من قيم التمدن التي ترفض بطبيعة تكوينها النُظم الشمولية المُتسلطة بجميع أنواعها سواء كانت سلطة عسكرية أم دينية أم سلطة الحزب الواحد.

فجميع الأنماط الفردية للحكم تتخالف مع طبيعة المدن التي تتبنى التنوع البشري والثقافي والفكري والطبقي والسياسي وهذا التنوع هو الذي يُشكل الحضارة بمفهومها الحديث الذي يتجاوز مفهوم الأحاديات غير المتنوعة إلى مفهوم المختلفات المتعايشة والتي يُثري بعضها الأخر، فعدم التنوع يُولد الإنقراض.

كذلك تَحكّمَ العقيد القذافي في البُنيان القيادي للقبيلة التي تُمثّل الأصالة الليبية والتي كافحت وجاهدت وناضلت ضد المحتلّ والمستعمر عبر الزمن والتي دائمًا عبر عُرفها الفَريد تُعوّض غياب إمتداد الدولة، بحيث خلقت توازن مهم في الجغرافية الليبية الكبيرة والممتدة وعبر نظامها الإجتماعي ساهمت في وحدة النسيج الليبي.

جعل النظام من القبيلة أداة للسلطة وليست وسيلة للمحافظة على المجتمع وإمتدادهِ وهذا أَخَّرَ بل عطَّلَ نُموّ وإمتداد الدولة ولكن يبدو لهذا الأمر تركات تاريخية تفوق كذلك نظام القذافي

لاشك بأن الثورة هي أسوء الحلول لمواجهة الأنظمة الإستبدادية التي تمكنت من مجتمعاتها لعقودٍ طويلة لأنها قد جعلت من الإستبداد ثقافة مترسخة في المجتمع وأمَّنَت نفسها بطوقٍ من حقولِ الألغام من المُشكلات المتراكمة مما يُعيق ويُغرق أي قوى تغيير جديدة في مستنقع من الفوضى لا نهاية له، بحيث تُصبح الفوضى هي المُتحكّمة وهي من تمتلك القدرة على صُنع مراحل التحوّل من سيء إلى أسوأ بشكل درامي انسيابي نحو القاع.

ولهذا فالإصلاح هو العنوان الأهم في هذه المرحلة والذي يجب أن تتعاون فيه الطبقات الحاكمة والمحكومة. فالإصلاح السياسي والإجتماعي والمؤسسي الحقيقي لا يُقصي أحد بل هو يُجدّد عمر الدولة ويُنظّم المجتمع ويخلق المفاهيم الوطنية الجامعة التي تقود للاستقرار والنموّ وتُزيل التوتّرات وأسباب النّزاع، فهو قارب النجاة للوطن.

ولعل ثقافة التحارب الأهلي الطويل في الوطن الليبي أصبحت تتقلّص لصالح ثقافة السلم والتعايش والصُّلح بين كل المكونات الليبية. ففي النهاية لا بقاء للجزء دون بقاء الكُلّ، وأيضًا هُناكَ طُرقٌ أخرى للتنافس على السلطة وعلى المكاسب بأدوات شرعية وقانونية وديمقراطية بعيدة عن ثقافة المُغالبة والتحارب والاقتتال، التي حولت الوطن لساحة حروب طويلة ينمو فيها الموت بمختلف أشكالهِ ويُقصي الحياةَ بمختلفِ ألوانها.

إن الوطن الليبي يغوص في مُحيط خطوط جيوسياسية متشابكة يجعلهُ عُرضة للتغيير والتحوير في ديمغرافيتهِ السُكانية التي يجب أن نحافظ على أول لبنة لها في تأسيس الدولة الوطنية الليبية الحديثة والمتمثّل في التعداد السكاني الأول الذي أُسِّسَ بهِ الكيان الاجتماعي الليبي الحديث عام 1954م الذي شَكَّلَ أولَ مفهومٍ اجتماعي وسياسي لدولة الليبية الوطنية.

فيجب الإنتباه إلى أن التركيبة السُكانية الليبية حساسة للدخلاء عليها والذين يحاولون جَرَّ الجغرافية الليبية لمساحات صراع لا علاقة للوطن الليبي بها، فهي فقط لخلق الفراغ الذي يمتد فيه مشروع التوطين داخل ليبيا، والذي رُبما كانَ سَبَبًا لاستهداف الدولة الليبية في كيانها وقوتها ونفوذها لتمرير هذا المشروع الخطير على الأمة الليبية، والذي ستكون نتائجهُ وخيمة في حالِ حدوثهِ بشكل أوسع بحيث سيصبح السكان الاصليين أقلية أمام التجمعات البشرية الدخيلة التي ستفرض ثقافتها وسلوكها ونظام الحكم في الداخل الليبي.

ولعلِّي أُعَرِّجُ على بعض العوامل المُهمة لاستقرار ووحدة النسيج الليبي تتمثل في العوامل الآتية:

ـ خلق نظام إداري اقتصادي حديث

نظام يقوم بتوزيع عادل لدوائر الحياة الاقتصادية على كل الجغرافية الليبية ويُذيب المركزية المقيتة ويُشعرُ الجميع أنهم شركاء ومستفدين من إيرادهم القومي الذي يجب أن يتحول من إيراد ريعي يذهب لحلقة مُفرغة من الاستهلاك إلى نظام ريعي مُنتج يخلق بيئة جيدة للإستثمار وتدوير رؤوس الأموال المنتجة.

ذلك يعني توفير بيئة جيدة لوجود قطاع خاص منتج ومفكر وبناء يساهم بالشراكة مع مؤسسات الدولة في ترسيخ مفهوم جديد تكون فيه المسؤولية مُشتركة بين القطاع الخاص ومؤسسات الدولة في إدارة التنمية المستدامة داخل الوطن الليبي، وتوفير فرص عمل تقضي على البطالة المُقنعة وغيرها، والتي تعج بها قطاعات الدولة وتُثقل كاهلها، كذلك تعمل على رفع مستوى الدخل السنوي للفرد المنتج في الدولة الليبية ورفع مستوى إجمالي الدخل القومي العام للدولة الليبية.

ولعل الهوية الاقتصادية المُنتجة هي التي تُذيب الكثير من العوائق التي تُحاصر الدولة من صراع الأيدلوجيات والإثنيات والأعراق والمذاهب الفكرية والدينية داخل المجتمعات المُركبة، فما بالك بتذويب بعض المشكلات المتوسطة داخل مجتمعنا الليبي الذي يحمل أسباب الوحدة أكثر من أسباب الانقسام، بالرغم من حجم المؤامرات المختلفة على تفتيت وتجزئة الشعب الليبي.

إلاَّ أنَّ هذه الأزمة أثبتت للجميع أن ليبيا وطنٌ واحدٌ غير قابل لتقسيم وكذلك وطن يحملُ في طياتهِ غضبَ البحرِ وعنفوان الصحراء فهو غير قابل للهزيمة والاندثار وهذا حديث الواقع والتاريخ.

ترسيخ مبدأ توطين العلم أولاً

وهذا عنوان لكتاب الأستاذ الفاضل د. محمد المفتي في كتابهِ القيم الذي يحمل نفس العنوان بحيث يكون للرسالة التعليمية منهجية واضحة في تطوير العقل الجمعي للمجتمع وإكسابهِ العديد من المهارات المهمة، ومن العلوم والمعارف التي تمنحهُ القدرة على أن يحمي وجوده في ظل هذا البحر التنافسي الكبير في زمن العولمة والمجتمعات المنفتحة على بعضها، بما يجعل من التعليم أساس مهم لبقاء وتطوير الفرد والمجتمع مع الحفاظ على الثوابت الوطنية الجامعة

ترسيخ مفهوم الحرية السياسية

يجب المحافظة على هذا المكسب الثمين بحيث لا يمكن العودة بأي شكل من الأشكال للنُظم الشمولية الحاكمة سواءً بشكلها العسكري الكلاسيكي أو بشكلها الديني أو بتفرد مجموعة سياسية أو حزب متفرد بالحكم دون غيرهم.

فيجب ترسيخ الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة. وهذا لن يتأتّى سوى بحوار مجتمعي عميق يُنتج مفاهيم وقناعات فكرية جديدة، توطن إحترام الإختلاف، وحرية التعبير، والحرية الفردية، والإحتجاج السلمي، والتعددية السياسية، والفصل بين السلطات، وحقوق المواطنة وواجبات المواطن. وتؤكد ميثاقها القومي الوطني في وثيقة دستور الدولة التي لن تستمد قوتها سوى عبر الحوار الذي يبني هذه المفاهيم داخل المجتمع.

فلا ديمقراطية بدون ديمقراطين.

وكذلك إحترام الدولة والقانون فالحرية السياسية ليست هي الفوضى الهدامة وانعدام مسؤولية الفرد إتجاه الدولة، فهنا تكون المسؤولية مشتركة بين الدولة إتجاه مواطنيها والمواطنون إتجاه دولتهم ويجب أن يذهب المجهود الجمعي للمجتمع في إصلاح وتقوية دولتهم لا هدمها. فالدولة في علم الإجتماع هي منتوج تَطوري للنخبة التي ينتجها المجتمع والتي يجب أن تعيد لها هيبة الأفراد وولائهم.

ترسيخ مفهوم المواطنة

نحن في زمن تخطّت فيه التجربة الإنسانية مفاهيم المواطنة الدينية والمواطنة العرقية والمواطنة التجارية وأصبحت المواطنة الحديثة هي علاقة الفرد المواطن بالدولة، وعلاقة الدولة بمواطنيها، عبر مجموعة معقدة من القيم والمفاهيم التي يخلقها تطور مفاهيم المجتمع الحديث، وتمنح المواطنة الحقوق الكاملة للمواطن وتحدد واجباتهِ إتجاه الدولة.

كما أنها تؤكد على مبدأ المساواة السياسية والقانونية بين المواطنين متجاوزة كل الاختلافات الدينية والعرقية في المجتمعات المركبة، ومفهوم المواطنة الحديث ينتجهُ العقل الجمعي للمجتمع عبر الحوار الذي ذكرتهُ سابقًا، وفي النهاية لا مواطنة بدون نظام ديمقراطي.

الهوية الوطنية الليبية

لايمكن لمجتمع ولا لدولة البقاء والاستمرار دون إثبات وترسيخ المفاهيم الوطنية الجامعة، والتي تُلخّص في مفهوم الهوية الوطنية، وهذا تحدي قائم لصانع القرار في الوطن الليبي والنخبة الفكرية والثقافية الليبية.

ولعل وطننا الحبيب ليبيا قد دفع ثمن تضاريس جغرافيتهِ الصعبة في إثبات نفسهِ وذاتهِ. فقد كانت ليبيا ملتقى عظيم لحضارات العالم القديم، وملتقى مهم لمصالح القوى العظمى في العالم الحديث.

ولعل النخبة السياسية الليبية اليوم مطالبة بأن تفهم عمقها الجيو سياسي بشكل متزن وعلمي وموضوعي، بحيث تتضح أمامها ملامح المشروع الوطني السياسي الليبي، الذي يجب أن يلتقي مع أحد هذه الخطوط الجيو سياسية.

ولا بد أن نفهم أن عمق منطقتنا هو عمقٌ أطلسيٌّ بامتياز منذُ الحرب الثانية العالمية، ولعلَّ أي خلط جديد في هذه الخطوط الجيوبوليتيكية سيعرض ليبيا وكامل شمال أفريقيا لإعادة الصياغة الهيكلية في بنية هذه الدول والمجتمعات.

وهذا ما يحدث اليوم في الشرق الأوسط وبالتالي يجب أن نحافظ على هوية ليبيا المغاربية الشمال أفريقية المُطلة على أوروبا ببعدها الأطلسي والاقتصادي والأمني والثقافي

فهذه بعض العوامل المهمة في النهوض بالأمة الليبية والتي للأسف تفتقد لعامل مهم أخر، وهو غياب الزعامة الوطنية التي تُشكّل طوق نجاة الأمم والأوطان، وتكون ملتقى إجماع النخبة الوطنية داخل مجتمعاتها.

وعلى سبيل المثال لا الحصر

ـ كان جورج واشنطن قائدًا وزعيمًا مُخلصًا للأمة الأمريكية وقد تجرّد من مركزية ومصالح الأنا إلى مركزية ومصالح الأمة الأمريكية.

ـ كما كان كذلك مصطفى كمال أتاتورك زعيمًا خالدًا في الأمة التركية وخاض حرب الاستقلال الوطني وأسس الدولة التركية الوطنية القومية الحديثة

ـ كذلك كان سعد زغلول شخصية عربية مصرية وطنية مُلهمة قاد أمّتهِ للاستقلال ولترسيخ مبدأ الشراكة الوطنية في الأمة المصرية
ـ وكذلك الزعيم ماو تسي تونج الذي أسس جمهورية الصين الشعبية ووضع مبادئ نهضتها وأسس لعوامل النهضة الصناعية الكبرى في الصين

وعبر التاريخ كان دور الزعامات الوطنية الفردية والجماعية مهم في صناعة النهضة في المجتمعات والأمم. وليبيا بلدٌ يمتدُ فيه التاريخ من عمق الصحراء وحتى أعماق المتوسط، فيمكنُ للوطنِ الليبي أن يعتريه بعض المرض. ولكنهُ أبدًا لا يموت وستفرزُ حركة المجتمع الطبيعية قيادات مرحلة الاستقرار والإصلاح والسلام بعد أن يفرز المجتمع مفاهيم السلام والتعايش والحفاظ على الوطن .

***

سراج دغمان : باحث في مركز ليبيا للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية

___________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *