سراج دغمان

إن الإستبداد في الغالب لا يصنعهُ عقل الحاكم بمفردهِ بل يصنعهُ العقل الجمعي للمجتمع وثقافة المغالبة التي يعتاش بها ويبني بها مفهوم التفوق الذي أساسه القوي هو المتحكم والمتغلب وليس مفهوم الحق ومبادئ العدل ويُستخدم في ذلك كل الموروث الديني والعقدي والثقافي وما تعارف عليه المجتمع من تقاليد وأعراف مُستفيدًا من الصراعات الطبقية الحادة والاجتماعية بين الإثنيات والهويات المختلفة ؛

وبتالي فأن معين الحاكم المُستبد الأول هو استغلاله ما يرد في المجتمع من إحتكار الحق من قبل الطبقة المتغلبة التي تمتلك مصادر القوى على حساب باقي الطبقات المغلوبة الخاضعة الضعيفة المرتهنة لطبقة القوية

يقول مونتسيكو في كتابه روح القوانين (إن المناخ العام للمجتمع هو الذي يحدد نوع الدولة أو نوع العلاقات بين الأفراد التي تحدد بالتالي شكل الدولة).

ولعلنا إذا نظرنا للحركات السياسية التي ناهضت وقاومت استبداد الإقطاع وكانت في صف البروليتاريا عندما وصلت إلى السلطة وطبقت أفكارها تحولت من حركات فكرية تقدمية ثائرة إلى طبقات ألوليغاركية أو أوليغارشية مهيمنة أنهت الإقطاع الخاص ومكنت لإقطاع الدولة وأصبحت هي المتحكمة في باقي طبقات المجتمع عبر منظومة الحكم الخاصة بها وهذه حالة من حالات التأثر بالمناخ الثقافي والفكري العام الموجود في المجتمع من قِبل حركات التغيير التي دائمًا ما تتحول في النهاية إلى حركات شبيهة بسلوك بمن ثارت عليه لأنها ليس أمامها سوى تتبع أثر طريق أسلافهم فهم ترعرعوا في نفس المناخ ..

يقول جون لوك (ليس للطغيان صورة واحدة فمتى اُستغلت السلطة لإرهاق الشعب وإفقاره تحولت الى طغيان أيًا كانت صورته) وللإستبداد جذوره المتينة في مجتمعاتنا حيثُ تختلط المفاهيم الخاصة بالعامة لتشكل موروثًا يصعب تفكيكه بحيث يُغلف هذا الموروث بصبغة دينية والدين منها براء ولكن تستغلها النُظم الحاكمة في تمرير مشاريعها من قمع الأفكار وإسكات الألسن وقتل العقول .

وللإستبداد نتائج وخيمة في هدم بنيان الدولة والمجتمع وانتشار الفوضى وسقوط العدل ومفاهيم الحق وبتالي انهيار الأمم ولو نظرنا لأسباب نجاح الثورة العباسية في إنقلاب يعتبر الأكبر عبر التاريخ على دولة بني أمية في المشرق لوجدنا أن أهم عوامل نجاح هذا الإنقلاب الأكبر عبر التاريخ هو الحكم الغير عادل عبر تبني نظام الإقطاع لدى الأمويين وكذلك تمييز العرب عن غيرهم من القوميات التي كانت تفوقهم عددًا ومعرفة من الموالي والعجم مما جعل باقي الأعراق تشارك العباسيين ثورتهم.

كذلك ممارسة الظلم والطغيان الذي مارسهُ بعض ولاة بني أمية على رعيتهم مما تسبب في خروج الرعية والعوام عن الولاء لسدَّة الحاكمة.. ومن هنا استمدت الحركة السرية العباسية مصدر قوتها بأنها ملكت العوام وملكت فكرة الحكم ( المشروع السياسي ) ومن ثم أسست قوة الجُند قبل أن تنقلب على كل مانادت بهِ وتقتل الإمام محمد نفس الزكية من آل علي بن أبي طالب لحقهِ في البيعة و الذي صار بعض ولده إلى المغرب ليؤسسوا دولة الأدارسة وقتلوا قائدهم العسكري والإستخباراتي الفذ أبو مسلم الخرساني وهذا عائد للموروث الفكري لدى العقل الجمعي للمجتمع والذي يخرج منهُ الحاكم وتخرج منهُ المعارضة ويظهر منهُ اليمين ويولدُ منهُ اليسار

فهم قاموا بنفس الأخطاء التي سلبت من بني أمية الحكم ولكن لعلنا نُلخص نتائج الثورة العباسية بأنها ثورة الأعراق الأعجمية على العرب فالحكم الفعلي لبني العباس انتهاء تقريبًا منذُ زمن هارون الرشيد وأبنائهِ ومن ثم حكم العجم المسلمين تحت غطاء الخلافة العباسية ..

يقول الشيخ عبدالرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الإستبداد ( إن فناء دولة الإستبداد لا يُصيب المستبدين وحدهم بل يشمل دمارُ الأرض والناس والدَّيار ، لأن دولة الإستبداد في مراحلها الأخيرة تضرب ضربَ عشواء كثور هائج ، أو مثل فِيلٍ ثائر في مصنع فخار ، وتُحَطم نفسها وأهلها وبلدها قبل أن تستسلم للزوال ، كأنما يُسْتَحَق على الناس أن يدفعوا في النّهاية ثمن سكوتهم الطويل عن الظلم وقبولهم القهر والذل والإستعباد )

وهنا سنجد أثر الإستبداد على أهل العلم والمعرفة والفكر فقد عاصر هذه المحنة إمامان جليلان إمام دار الهجرة مالك إبن أنس والإمام أبى حنيفة النعمان وهنا أُبتلي كلاهما بالتضيق الأمني والسجون والتعذيب لكي يقران بشرعية ولاية بني العباس وليس محمد نفس الزكية بعد خروج آل علي على أبى جعفر المنصور مطالبين بأحقيتهم في البيعة .

وهنا حسب بعض الروايات توفي أبى حنيفة في سجنهِ إثر التعذيب الذي مارستهُ أدوات القمع من السلطة الجديدة التي تدعي الثورة والتغيير والتي ماهي سوى إمتداد لأسلافهم فجميعهم أبناء لنفس البيئة فقد ترعرعوا في ثقافة تصادر الفكر والرأي الأخر وتاريخنا للأسف مليئ بالإقصاء الذي اُستخدمت فيه الفتوى والسلطة والعُصبة والغَلبة وهذهِ الثقافة الفكرية البائسة كانت سببًا خلف فقدنا لكثير من المعارف والعلوم ولفشل وموت العديد من الحركات الإصلاحية الفكرية والتجديدية الاجتماعية والسياسية ..

وقد رفض الإمام أبى حنيفة أن تصير البيعة لغير الإمام محمد نفس الزكية وقد وجد الإمام مالك أذى كثير في تأيدهِ الضمني لثورة الإمام محمد نفس الزكية وثم تراجع إثر عنف أدوات القمع وحقنًا لدماء المجتمع والمسلمين وحينها خرج مفهوم ولاية المُتغلب في ذلك الوقت والحقيقة هو مفهوم ناتج المجتمع وآفاتهِ وليس ناتج الشريعة التي نادت بنظام الشورى أي الديمقراطية وحافظت على روح التعددية السياسية والفكرية والعقائدية داخل المجتمع الواحد ..

وهنا يقول الشيخ الأستاذ أحمد الريسوني ( لئن كان لولاية المتغلب والاستيلاء مسوغات معقولة في العصور الماضية فإنها اليوم في ظل شيوع الدساتير والمؤسسات ويسر تنظيم الاستفتاءات والانتخابات قد فقدت كل مصوغ لبقائها )

والأمثلة في زماننا الحالي كثيرةٌ جدا في عالمنا العربي فأزمة الحاكم والمحكوم لم تنتهي بعد لدينا ويبدو أن مد التغيير قادمٌ لا محالة إذا توفر المناخ التجديدي في مفهوم الفكر والهوية التي تشكل ثقافة جديدة لدى العقل الجمعي .

_______________________
المغاربي للدراسات والتحاليل

مقالات

9 Commentsاترك تعليق

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *