علي الريشي
أريد أن أحدثكم عن إبنٍ آخرْ من أبناء بنغازي، إبن من أبنائها بالرغم من أنه ولد في مكانٍ آخرْ ونشأ في مكانٍ آخرْ .. ولد في نالوت بالجبل الغربي، جبل نفوسه، وقضى دراسته الأولية في غريان، ولم يقضِ في بنغازي سوى ست سنوات متناثرة.
الدكتور عمرو النامى — صديقي الراحل — كان أستاذاً في جامعة بنغازي عندما كنت طالباً فيها، وبالرغم من إهتماماتنا المعرفية التي كانت تختلف، كنا، من وقتٍ لآخر، نتبادل الحديث عن هذه الإهتمامات وعن غيرها .. نتبادله وكلنا إحترام ومودة .. ولقد عرفت عنه، كما عرف عنه غيري من أصدقائه ومعارفه، أنه بالرغم من إهتمامه بأصول الفقه وقواعد اللغة العربية وأدابها، وبالرغم من أنه كان شاعراً مرهف الإحساس، وبالرغم من إهتمامه بقضايا الشأن العام، إلا أن إرتباطه بالوطن كان إرتباطاً عفوياً. فعمرو في رأيي يمثل أسمى درجات المواطنة.
ولو كان للتمييز العِرقي أي أهمية عندي — أو عنده — لقلت أن صديقي كان أمازيغياً .. غير أنني، وأنا مالكي المذهب، لا أجد حرجاً في أن أقول أن عمرو كان — ولا يزال، رحمه الله — من أبرز علماء الأباضية، وهو مذهب متجدد يتمتع أصحابه باللين وبالتسامح .. ومن يعرف شيئاً عن عمرو يعرف أنه بالرغم من أنه كان إسلامياً في رؤيته الروحية والأخلاقية، إلا أنه كان، في نفس الوقت، شديد الإرتباط بوطنه، وكان دائماً، كجميع العشاق، يتجاوز في عشقه هذا جدليات العِرق والمذهب .. وجدليات الإختيار السياسي.
لقد كان عمرو — رحمه الله — أنيق السلوك، كله تسامح وتواضع ومودة، وكان أيضاً بنغازيّ الهوى، فبنغازي — زهرة المدائن وأم القرى الثانية — وإن لم تكن مدينته، فهي مدينته .. يقول في قصديته الرائعة عن بنغازي (“سيدي إعبيد” — لمن ليس له علم — هي مقبرة بنغازي القديمة) .. يقول:
يا (سيدي عبيد) أحيّيك
وأدعو وأُحيّ الأموات ببنغازي وأُصلّي
فلقد قاد خطايَ الموت إليك..
هل تقبل جثماناً أحمق .. ؟
هل تقبل (جيفة).. ؟
يا (سيدي عبيد)! ..
الموت هدية بنغازي ..
تهديك رجالاً وجبالاً ..!
تهديك معالم لا تنسى ..
تهديك أعزَّ الأحباب
قصدتكَ مواكبُ لا تُحصىَ
ورعتكَ عيونٌ لا تُحصىَ
تغدوكَ بحزنٍ لا يَخجل
ترويكَ بدمعٍ لا يَنفذ
يغسلُ (سبختك) الحرة
فالموتُ بأرضِك ذو معنى وكذا الأموات ..
قد جئتُ إليك بجثمانٍ أحمق
وأتيتك أَسألُ قبرًا في أرضك هل تسمحُ ..
حيّاك الله .. وحيّا أهلُ الدارِ المعمورة ..
هل تسمحُ يا (سيدي عبيد) ..؟
حُيّيت ربوعك بنغازي ..
حُيّيت أياديك الحلوة ..
حُيّيت (السبخة) والبحر ..
وأحلام الآلاف المزروعة حُيّيت (السيلس) و (البركة)
وجناة (القعمول) بأرضك وشفاه الأطفال المسودة ..
حُيّيت (السلماني) و (الفندق) وشواطئ (جليانة) و (المينا).
حُيّيتك بنغازي بلدي، بلدي، يا بلدى الحرة ..
حُيّيتك حُيّيتك يا بلدي بالقبلة والدمعة والحسرة ..
فـأنا لم أحضر سيفاً .. لم أحضر قنبلة أخرى
لم أحضر آلة قتل، حبلا، أو (فلقة) ..
قد جئت حزينًا كي أُدفن ..
وأتيت المقبرة الحرة أستأذن ..
القبر الدائم في جالو أو في غات .. أو سبها ..
القبر الدائم في مصراتة .. أو في هونٍ .. أو زلة ..
القبر الدائم في غريان، وفي الجوش .. وجادوا ..
القبر الدائم في الواحات .. وفي تاورغاء ..
القبر الدائم في الخمس، وصبراتة،
في المرج وتاجوراء
القبر الدائم في كل تراب الوطن الأكبر ..
لكن ترابك بنغازي غذّي أحلامي ورعاها
وسماؤك قد نثرت في الأفق نجوم المجد المجلوة .. لأراها ..
وأرى فيها أملى ومناي ..
فعلى أرضك من خطوى ومع الكتب الحلوة ..
والكراسات المحشورة ..
قد خطت قدمي قصة آمالي المهدورة ..
وأتيتك كي أدفِن في أرضك أشلاء النفس المقهورة
هل تأذن بنغازي الحرة ..؟
هل تقبل جثمانا مهدورا أحمق ..؟
هل تقبل (جيفة) ..؟
بنغازي تبقى لا تقهر..
بنغازي تعشق أنفاس الليل المخمور ..
وتحب أحاديث اللهو المكرور ..
لكن تبقى لا تقهر ..
ولترغم آناف العسكر ..
بنغازي أحيِّيك وأبكي ..
وأجرّ بتربك جثماني .. فأنا لم أحضر سيفاً ..
لم أحضر قنبلةً أخرى
لم أحضر آلة قتل، (حبلاً) أو (فلقة)..
قد جئت حزيناً كي أدفن..
وأتيت المقبرة الحرة استأذن..!
هذه العلاقة الروحية التي تربط أبناء وبنات بنغازي بمدينتهم هي التي جعلت جميع ابناء وبنات بنغازي يدافعون عن روح مدينتهم ضد الثقافة العدمية الفجة .. ثقافة العنف والكراهية والقمع والعسف والإستبداد .. ثقافة السيف والقنبلة وغيرها من آلات القتل .. ثقافة الحبل، حبل المشانق، والفلقة وآلات التعذيب الأخرى .. ثقافة أمراء الإقتصاد الغنيمي .. أمراء الجريمة المنظمة .. أعداء الله .. وأعداء الناس .. وأعداء المودة والرحمة وأعداء الحكمة والجمال .. وأعداء الدفع بالتي هي أحسن.
ومهما يكن من أمر أعداء الله وأعداء الناس، فإن التجربة قد أثبتت — بدون أن تترك مجالاً للغو — بأن دفاع بنات وأبناء بنغازي عن روح مدينتهم هو دفاع عن روح الوطن الحضارية، فبنغازي — التي قال عنها إبنها، إبن الجبل الغربي، جبل نفوسه، أنها “تبقي لا تقهر” — سوف تبقى، وسوف تبقى دائماً، روح الوطن المبتهج وضميره الحر الذي يسعى للحب والعدل وللحكمة والجمال.
أتمنى، إذاً، أن يحمل أحد شوارع بنغازي أو أحد ميادينها إسم عمرو النامي .. إبنٌ فذْ من ابناءِ مدينتهِ الفذةْ.
_______________
المصدر: صفحات التواصل الاجتماعي