د. مصطفى عمر التير

الجزء الرابع

التدخل الخارجي: ليبيا كمسرح لتجاذبات إقليمية ودولية

فور اندلاع الانتفاضة، أصبح ما يجري في ليبيا محط اهتمام الدول العربية والعاليمة. واللافت للانتباه أن تصريحات بعض رؤساء الدول حوله بدأت في وقت مبكر، منذ اليوم الثاني للانتفاضة، تعاقبت التصريحات والمواقف الرسمية بحيث انضمت إلى جانب الدول الكبرى خلال الاسبوع الاول دول عربية وأفريقية وأخرى بعيدة جغرافيا مثل استراليا وعدد من دول أمريكا اللاتينية.

وبعد التصريحات الأولية التي شارك فيها رؤساء دول ووزاء ومندوبين في هيئة الأمم، بدأ التحضير للتدخل الرسمي. كانت البداية اجتماعا للجامعة العربية، على مستوى المندوبين، تقرر فيه: تعليق مشاركة ليبيا في اجتماعات الجامعة العربية، وفي المنظمات والأجهزة التابعة لها، إلى حين استجابة النظام لمطالب حددها المجلس أهمها: الوقف الفوري لاستخدام العنف ضد المتظاهرين.

وفي 12 مارس 2011 علقت الجامعة عضوية ليبيا واعترفت بـ المجلس الانتقاليكممثل شرعي لليبيين، وطالبت المجتمع الدولي بالتدخل لحماية المواطنين، وبعد يومين فقط، قدم الإقتراح إلى مجلس الأمن، وفي العاشر من الشهر نفسه صدر القرار رقم 1973، الذي فتح الطريق أمام استخدام جميع السبل، بما فيها القوة العسكرية، لمساعة الثورة الليبية. وبدا واضحا أن الدول التي تبنت فكرة مساعدة الثورة الليبية، تحركها أهداف ومصالح خاصة، ولم تكن الأهداف المعلنة المتمثلة بحماية المدنيين من بطش الدكتاتور وحدها المحرك للإهتمام.

كما تبين، منذ الأيام الأولى لتدخل دول خارجية في الشأن الليبي، أن أهداف تلك الدول ليست واحدة، مما يعني أن البلاد أصبحت ضحية صراع إقليمي ـ دولي، يعمل على تأجيج الخلافات الداخلية بدلا من المساعدة في تخفيفها.

اهتمت كل دولة بالتدخل في الشأن الليبي، لأنها كانت ترغب في الحصول على نفوذ أكبر مما حصلت عليه في السابق. مساحة البلد كبيرة، وعدد سكانه صغير، ومخزونه المعروف من ثروات النفط والغاز، ضخم مقارنة ببقية البلدان المنتجة لهذة الثروة. وكانت لكل بلد خطته، فتوجهت أنظار بعضهم مباشرة نحو المكاسب الاقتصادية، بينما اهتم بعضهم الآخر بشكل النظام السياسي الذي سيخلف نظام العقيد، بهدف أن تصبح ليبيا تابعة لتلك الدول.

تنافست الدول لحصول شركاتها على نسبة أكبر من عقود النفط والغاز، لذلك تواجد في الفندق الذي أقام فيه أعضاء المجلس الوطني الانتقاليـ ألى جانب سياسيين وعسكريين ـ رجال أعمال لهم علاقة بالشركات العالمية للطاقة والتشييد والبناء، وتركزت أنشطتهم اليومية في التواجد في بهو الفندق، ومحاولة بناء علاقات مع المتنفذين الليبيين الجدد، والدخول في مباحثات حول تنفيذ مهام اقتصادية بعد انتهاء الانتفاضة.

اهتم بعض الكتاب والباحثين بمتابعة مظاهر التنافس بين بعض البلدان لضمان التبعية السياسية للنظام السياسي الليبي الجديد. يذكر هؤلاء دولا تتقدمها قطر والإمارات وتركيا، ثم مصر والجزائر، إلى جانب عدد من الدول الغربية كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وأيطاليا. وبرزت قطر منذ الأيام الأولى كداعم رئيس للمنتفضين، ومن دون حدود، وفي مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية. لكن توضح كتابات وتصريحات الذين كانوا في قلب الحدث، مثل محمود جبريل وعبدالرحمن شلقم، أن قطر كان لها مشروع، وكانت منحازة لدعم فصيل الإسلام السياسي الذي يطلق عليه بعضهم الإسلام المعتدل.

لم تحظ الشعارات التي رفعها شباب الانتفاضة، للمطالبة بالعدل والمساواة وتوطين حقوق الانسان وبناء الدولة المدنية ونشر الديمقراطية قيما وممارسة، بالتقدير. لذلك، لم تعط الدول التي شاركت في الحرب إلى جانب المنتفضين، عناية كافية إلى ترتيب الأوضاع بعد انتهاء الصدام المسلح. فانسحبت فجأة، واعتبرت أن مهمتها انتهت بموت القذافي، وتركت الساحة عبارة عن ركام على الارض يمثله حطام المباني والأسلحة، وركام إداري بعد اختفاء الأجهزة الإدارية للدولة، مما أدى في النهاية إلى أن تنزلق نحو حالة الفوضى المدمرة وغير الخلاقة.

وبدت الميليشيات التي ترفع شعارات دينية وتعلن عن أفكار متطرفة، أكبر المستفيدين من حال الفوضى، فتمكنت من فرض سيطرتها في البداية على مدينة واحدة، وتتمدد في ما بعد لتصل إلى جميع أطراف البلاد. ولم تخف الدول التي انحازت إلى أحد أطراف النزاع الداخلي موقفها، فواصلت دعمها المعنوي والإعلامي والمادي وتوريد السلام رغم الحظر الذي فرضه المجتمع الدولي، من خلال قرار مجلس الأمن رقم 1970 في 26 فبراير 2011.

تقدر كميات السلاح المنتشر في ليبيا، بفعل توزيعه من قبل نظام القذافي، أو من طريق استيلاء الثوار عليه، بعشرات الملايين بين ثقيل ومتوسط وخفيف. ومع ذلك، لم يتوقف النشاط الخاص باستيراد السلاح، ولا تزال دول عربية وأخرى غير عربية، تتعاون مع الميليشيات في هذا الشأن.

إن الدول التي سارعت إلى تأييد التدخل العسكري في ليبيا، وشاركت فيه، بررت موقفها حنيذاك بحماية المدنيين من بطش دكتاتور متعجرف. حدث هذا على الرغم من أن القذافي ابتعد من سياساته المعادية للغرب الذي رحب به وقبل به شريكا في مجالات متعددة. لا بل كان من بين رؤساء هذه الدول من كان على علاقة خاصة وحميمية بالقذافي. هل حركت، فعلا مشاهد المآسي ـ الذي استطاع شباب التواصل الاجتماعي ، وبعض الفضائيات تسريبها إلى خارج ليبيا ـ ضمائر هؤلاء الزعماء، فضربو عرض الحائط بالعلاقات الشخصية في سبيل الوقوف وراء هدف نبيل؟

لكن لماذا لم يتدخل هؤلاء من قبل لإنقاذ الضحايا عندما ارتكب النظام مجازر محلية، وتحدى العالم فارسل فريقا لاغتيال معارضيه في شوارع أهم عواصمه؟

ثم هل عادت الضمائر ـ بعد رحيل القذافي ـ إلى نومها؟

فالقتل وفظاعة التعذيب والخطف والتدمير، الذي حدث خلال السنتين الأخيرتين، فاق ما يقابله من تلك التي حدثت في بداية الانتفاضة. كل الذي فعله بعض هؤلاء الزعماء هو الاستمرار في ترديد الاستنكارات التي اتخذت شكل اسطوانة مشروخة.

ألا يؤدي هذا إلى إثارة سؤال حول الأهداف والأجندات غير المعلنة؟

فهل سبب التدخل هو إبعاد القذافي من السلطة والقضاء على مشروعه التوريثي؟ أم أن بعض المتدخلين لهم مصلحة خاصة في استمرار الصراع بين الأطراف الليبية المتناحرة؟

أما بالنسبة إلى الدول الغربية، فيبدو الأمر وكأن بعضها يؤيد فكرة استمرار الصراع والتدمير على الأرض، بهدف التخلص من أكبر عدد من المحاربين، الذين يشكلون خطرا على أمن أوروبا والولايات المتحدة، ولفتح مجالات أوسع للشركات الغربية التي ستتولى إعادة بناء البنية التحتية. فعلاقة السياسة بالاقتصاد علاقة قوية عند نسبة كبيرة من رجال السياسية الغربيين.

ثم يوجد مشهد التقسيم، وهو، كما يبدو، سياسة موجهة نحو المنطقة العربية كلها، فمع رعاية الأمم المتحدة الحوار الليبي ـ الذي يبدو في مظهره بهدف الخروج بحكومة توافق ـ فإن علاقات الزعماء الغربيين بالأطراف التي تعرقل هذه المسيرة لم تتوقف، وإن دأب هؤلاء، بين الحين والآخر، على أصدار تصريحات تلوح بفرض عقوبات على القيادات المعرقلة للحوار، ولتكرار هذه التصريحات وعدم ربطها بأفعال، أصبحت مجالا للضحك والاستهزاء والتندر بين المتابعين للشأن الليبي، داخلها وخارجها.

رابعا: تأملات حول المستقبل: رؤية لمشروع توحيدي وإصلاحي

لم يتوقع الذين قاموا بالانتفاضة، أو الذين أيدوها من بعيد، أن حال الفوضى التي عليها البلاد الآن، هي النتيجة التي سيصل إليها الوضع بعد أربع سنوات من رحيل القذافي، فهم، وخصوصا الشباب المتحمس والمتفائل، تصوروا أن الديمقراطية وقيام الدولة المدنية وتوطين حقوق الانسان، أهداف ستحقق فور غياب القذافي عن المسرح السياسي الليبي، لم يتمكن هؤلاء، وخصوصا أثناء تزاحم وتسارع الأحداث خلال الحرب التي طالت ودافع فيها القذافي مستميتا للمحافظة على مبدأ نحكمكم أو نقتلكمأو يروا ما كان يجري وراء الكواليس من قبل بعض قادة الميليشيات التي شاركت في الحرب على الأرض.

ولم يتوقعوا أن يكون لرؤساء الدول، الذين شاركت قواتهم الجوية في الحرب، أو قدموا المساعدات الإنسانية واعتنوا بالجرحي، غير حسن النوايا ومد يد العون، ليتمكن شعب مغلوب على أمره من التخلص من دكتاتور جثم على أنفاسه مدة تجاوزت الأربعة عقود. كما لم يكونوا على علم بترتيبات السياسة الأمريكية تجاه مع من يشار إليه بالإسلام المعتدل، وعلاقة هذه الترتيبات بالحرب التي تشنها الولايات المتحدة وآخرون على الإرهاب.

لم يقبل معظم قادة الميليشيات بفكرة العودة إلى سابق أعمالهم، أو الانضمام إلى القوات المسلحة أو الأجهزة الأمنية، وخصوصا أن أطرافا في المجلس الوطني الانتقاليشجعت بقاء الميليشيات بدعوى المحافظة على الأمن. لذلك لم تجد دعوات بعض من تولى تسيير الأمور في الحكومتين الإنتقالية والمؤقتة إلى حل الميليشيات ودمجها في الجيش والشرطة، آذانا صاغية.

إن الأغلبية العظمى من الذين تولوا قيادة الميليشيات لم تكن لهم خبرة عسكرية، كانوا من بين أفراد الشعب المدنيين، لذلك لم يكن مستغربا أن يزهو بعضهم باللقب العسكري الذي حصلوا عليه من دون الانتساب إلى كلية عسكرية، أو الخضوع لامتحانات ترقية ليتدرج ضمن سلسلة الرتب العسكرية. كما زوده المركز الجديد بعناصر قوة مادية ومعنوية، فتمسك بما حصل عليه.

كان لآخرين أهداف أبعد من هذه، فقادة بعض الجماعات الإسلامية كانوا يرغبون بالاحتفاظ بمراكزهم لتمكين جماعاتهم من التمركز في المواقع الحكومية المهمة. وهؤلاء هم جماعات الإسلام السياسي المعتدل المدعوم من الغرب. ثم هناك الجماعات الإسلامية المرتبطة بالفكر التكفيري، ويعلنون ـ بكل وضوح ـ أن الدولة المدنية دولة كافرة، ويعملون لقيام الدولة الإسلامية أي دولة الخلافة. وهؤلاء ليسوا جماعة واحدة وإن تبنوا الهدف نفسه، فمنهم أنصار الشريعة، ومجلس شورى شباب درنة، وجماعة تحكيم الدين، والقاعدة، وداعش.

إلى جانب أسباب تمسك قادة الميليشيات بمراكزهم، التي وردت آنفا، يذكر رئيس المجلس الانتقالي معارضة قطر حل الميليشيات وجمع السلاح، وكذلك الدور الذي كانت تؤديه قطر في دعم الانتفاضة.

لا بد من أن هذا الموقف القطري كان قد وصل إلى القادة الذي عارضوا حل الميليشيات، وخصوصا أن المسؤولين الذين تولو مهمة التنسيق مع المنتفضين الليبيين، كانوا يتصلون مباشرة بمختلف الأطراف من دون الحاجة إلى التنسيق مع المجلس الوطني الانتقالي، ولا عبر أجهزة الحكومة خلال مرحلة الحكومات المتعاقبة ذات التسميات المتعددة.

ولا بد من التأكيد أن قطر ليست وحدها التي كان لها اتصالات مباشرة مع الأطراف الليبية، وإنما دول أخرى قامت بالدور نفسه، ولها رجالها المحليون، ولها تأثيرها في مجريات الأحداث على الأرض. وتشمل القائمة دولا عربية وإقليمية والدول العظمى.

فهل يمكن في هذا البحر متلاطم الأمواج من تدخلات أجنبية، وأجندات داخلية، وولاءات عائلية وقبلية، اقتراح خطة طريق لتوحيد الصف الليبي ضمن دولة عصرية تهتم بتحقيق العدل والمساواة، وتعمل على نشر قيم الديمقراطية، وتضع خططا لتنمية اجتماعية واقتصادية؟

بالطبع اقتراح تصور يعكس التمنيات الطيبة، أو نموذجا مثاليا، أمر ممكن وسهل، لكن ما تحتاج إليه ليبيا هو تصور واقعي يمكن تنفيذه فعلا بعيدا من التمنيات. وفي هذه الحال، لا بد من توافر حد أدنى من مؤشرات الاستقرار التي يمكن أن ترتكز على مايلي:

1ـ وصول مشروع الحوار التي ترعاه الأمم المتحدة منذ 29 سبتمبر 2014 إلى حكومة توافق مبنية على الكفاءة وليس على سلطة الميليشيات والمساومات الجهوية.

2ـ استمرار رعاية الأمم المتحدة لمشروع حكومة التوافق، وتقديم الدعم اللوجستي الذي يمكنها من مزاولة أعمالها في مدينة ليبية قد لا تكون طرابلس.

3ـ اتفاق الميليشيات التي تؤيد قيام حكومة مدنية، وكذلك الحوار وتقبل بنتائج صندوق الانتخابات على خطة طريق توضح الكيفية التي ستزاول بها أنشطتها.

4ـ استصدار قرار من مجلس الأمن ينهي تدخل الحكومات الأجنبية في الشأن الليبي، ويتضمن بيانا واضحا بشأن العقوبات التي ستطبق على الحكومة التي تخالف القرار.

5ـ استصدار قرار من مجلس الأمن يحدد بوضوح الأفعال التي تعتبر معرقلة لعمل حكومة التوافق، وتحديد العقوبات التي ستصدر ضد مرتكب تلك الأفعال، وبيان آلية توضح الخطوات التي تتخذ لتطبيقها.

وفي حال توافر الشروط السابقة، عندئذ، يجب أن تتضمن حكومة الوفاق وزارة تختص بالمصالحة الوطنية وتنفيذ العدالة الانتقالية، وتكون وزارة سيادية، وتخصص لها أكبر الميزانيات، إذ ستتولى هذه الوزارة مسؤولية إعادة بناء لحمة وطنية مزقتها الحروب والنزاعات السياسية والتجاذبات القبلية.

ويفترض أن ينقسم جهاز الإدارة إلى قسمين: قسم إداري، وقسم فني. ويراعى في موظفي الجهاز الإداري التعليم والخبرة، ويوجه منذ البداية لتسهي عمل الجهاز الفني الذي يتألف من خبراء في مجال العلوم الاجتماعية وخصوصا المتخصصين في علوم النفس والاجتماع والأنتروبولوجيا والسياسة والاقتصاد والإدارة والقانون والتاريخ، إلى جانب فريق من رجال الدين الذين يحملون أفكارا معتدلة. ويقسم الجهاز الفني إلى فرق عمل يوكل إليها إعداد تقارير مبنية على أنشطة بحثية، تتضمن خطة عمل في مختلف المجالات التي لها علاقة بإعادة بناء اللحمة الوطنية، منها:

1ـ تنظيم العلاقة بين الشأنين الديني والمدني، بما يضمن إغلاق أبواب التسلط على الآخر باسم الدين أو باسم أيديولوجية معينة.

2ـ تنظيم العلاقة بالسلاح بحيث تنحصر في الأجهزة الرسمية، وإعادة تأهيل إعضاء الميليشيات.

3ـ معالجة قوانين الإقصاء التي وجدت قبل 17 فبراير، والتي سنّة بعد هذا التاريخ.

4ـ معالجة المظالم التي وقعت إثناء حكم القذافي، والتي وقعت بعد 17 فبراير على مستوى الأفراد، ومستوى الجماعات الكبيرة.

5ـ معالجة مشكلة مركزية الإدارة، والاهتمام بتوزيع المسؤوليات بين جميع أجزاء البلاد.

6ـ تنظيم معايير الأداء والمراقبة لضمان حسن القيام بالواجبات والتمتع بحقوق المواطنة، وتأكيد تطبيق مبدأ الشفافية على مختلف المستويات.

7ـ وضع معايير لتنظيم أنشطة المجتمع المدني بما يضمن دعمه مشروع التحول الديمقراطي، واعتماده على الموارد المحلية المالية والبشرية، وسد مصادر الاختراقات الأجنبية.

8ـ وضع معايير للنشاط الحزبي تراعي الأهداف، وعدد المنتسبين وكيفية الأداء، بحيث تُتفادى الفوضى السائدة الآن.

9ـ وضع برامج لنشر ثقافة الديمقراطية ، ومعالجة عوامل التقوقع المبنى على القبلية أو الخلفية الإثنية، وعوامل الإقصاء الاجتماعي.

وفي الختام، وفي ضوء التطورات التي حدثت خلال السنوات الماضية من عمر الانتفاضة الليبية، يمكن إثارة عدد آخر من الأسئلة تختلف من التي اعتمدت عليها الصفحات السابقة مثل:

هل ما تزال الظروف تسمح بالعودة إلى كيان سياسي إسمه ليبيا؟

أم أن المشهد الأقرب إلى الواقعية هو مشهد التقسيم؟

وهو مشهد يبدو أنه يتوافق، من ناحية، مع ما يُخطط له للنطقة العربية، ومن ناحية أخرى، يلقى هوى عند بعض القيادات الجديدة، التي ترغب المحافظة على المكاسب التي حصلت عليها بعض المدن والكيانات من دون التفكير في وطن.

وفي حال التقسيم، هل سيجري على حدود الولايات تماما كما كان، حين كان النظام السياسي فدراليا؟

أم أن 17 فبراير وتداعياتها أحدثت تغييرات مهمة على مستوى التحالفات القبلية والتوزيعات الإثنية ستفرض تصورا جديدا؟

فعلى مستوى التحالفات القبلية يبدو أن تحالفات جديدة قد تطورت بسبب الإنحياز الإيديولوجي على حساب التاريخ. أما التغيير على مستوى الخلفيات الإثنية، فقد أصبح الجنوب الليبي من حيث خصائص السكان مختلفة عما كان عليه الحل قبل انطلاق الانتفاضة.

أصبحت الحدود الجنوبية ـ منذ انتفاضة 17 فبراير ـ مفتوحة، وتحت سيطرة الميليشيات التي تخصص بعضها في أعمال التهريب على مختلف أنواعه. ما دفع إلى قيام حركة انتقال واسعة لسكان إفريقيا جنوب الصحراء، باتجاه الشمال، غير في نسب التوزيع الإثني للسكان. وقد يقود هذا الوضع، إما إلى إنسلاخ أجزاء من ليبيا وانضمامها إلى الدول جنوب الصحراء، وإما إلى التفكير في كيانات جديدة تتمتع بنوع من الاستقلال الذاتي.

ثم وعلى الجانب الآخر، ماذا عن موقع الطاقة مما يجري من تجاذبات؟ وهل ستكون عامل توحيد، بالنظر إلى الرغبة الشديدة لدى الغرب للحفاظ على مصالحه الحيوية؟

وفي هذه الحال، هل يمكن أن يتم هذا من دون تدخل عسكري؟ وهل يمكن أن يحدث بلا وفاق دولي؟

وأخيرا،

أصبحت البلاد مصدر قلق للفضاء الأوروبي بخاصة، بسبب النمو السرطاني لكل من الهجرة غير الشرعية وداعش، فالهجرة غير الشرعية ومصدرها ليبيا، أعادت إلى الأذهان تهديد القذافي الذي قال فيه: “بإمكاني أن أجعل أوروبا سوداء“.

أما داعش، فقد أصبحت قوة لا بد من أخذها في الحسبان عند التفكير في مستقبل ليبيا. وبناء على المعطيات المحلية والعربية فإن المستقبل يحمل مزيدا من القوة لداعش وليس العكس.

وإذا ما بذلت محاولة للإجابة على هذه الأسئلة، أخذة في الحسبان الظروف الحالية، سيبدو أن المشهد الأكثر احتمالا لن يكون في اتجاه إعادة كيان سياسي اسمه ليبيا، ولا أن يبقى الربيع العربيوصفا مناسبا للحراك الاجتماعي الذي بدأ في السابع عشر من فبراير 2011.

____________________

مركز دراسات الوحدة العربية

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *