د. مصطفى عمر التير

الجزء الثالث

ـ من أداء المجلس الوطني الانتقالية

ليس الهدف هو تقييم أداء المجلس الوطني الانتقالي خلال توليه إدارة الصراع مع القذافي، وإنما سنهتم ببعض القرارات التي أدت إلى تداعيات، ساهمت في انتشار حالة الفوضى العارمة.

لا شك في أن المجلس الانتقالي نجح في الحصول على ثقة أغلبية الليبيين الذين انضموا إلى النشاط المتعلق بتغيير النظام. كما نجح في الحصول على دعم عربي ودولي بحيث اعترف به كممثل شرعي لنظام حكم جديد في ليبيا. كذلك لا يمكن التشكيك في وطنية أعضائه، ولا في اجتهادهم لتولي المهمة الصعبة في ظروف تحيط بها المخاطر من كل جانب، ويحسب للمجلس أنه وفق في إصدار قرارات كثيرة كان لها الأثر المهم في توجيه دفة النشاط خلال الحرب التي دارت قبل سقوط القذافي.

لكن لا يمنع هذا من إبداء الرأي حول بعض القرارات التي قد تكون فرضتها الظروف الحرجة التي كانت تحيط بالنشاط الحربي، وساهمت تاليا، في تطور حالة الفوضى التي ما زالت تسيطر على المشهد العام في البلد، ويمكن رصد بعضها في ما يلي:

ـ ضعف المهنية والتخبط في الأداء

الكيفية التي تكوّن بها المجلس لها دور كبير في بعض مظاهر التخبط في الأداء. إذ جاءت بطريقة عفوية وبناء على القرار الفردي للشخص، وهو قرار يعكس درجة عالية من الشجاعة لعدم وضوح الرؤية خلال الأسابيع الأولى، لذلك لم يعلن المجلس عن قائمة أعضائه، واكتفى بعدد محدود ظهر بوضوح في وسائل الإعلام.

وضع المجلس لنفسه نظاما أساسيا ولائحة داخلية، كما تم توزيع عدد من المهام على الأعضاء البارزين إعلاميا. لكن هذا لم يمنع من أن بعض الأعضاء فضل نوعا من الاستقلال في الحركة، وخصوصا في مجال الاتصال بالمسؤولين أقطار عربية وغير عربية، وفي الظهور في وسائل الإعلام. ويمكن النظر إلى هذا الأسلوب خلال الأيام الأولى من باب ما يسمى محليا الرغّاطة“. فالذين تسابقوا غلى العمل، وخصوصا في الخارج، لتأييد الحراك الشعبي في الداخل، كان لهم العذر في طلب الدعم من أي جهة.

لكن بعد أن قام المجلس بتوزيع المهام على بعض أعضائه، وتعيين مجلس تنفيذي يقوم بمهام مجلس وزراء، أصبحت حرية الاتصالات بالخارج في باب الفوضى وليس في صالح مسيرة الانتفاضة.

وقد لاحظت بعض الدول هذه الرغبة عند أعضاء المجلس، وعند الذين تولوا مسؤوليات إدارة الأزمة في مدنهم، فوجهت الدعوة إلى الكثيرين لزيارة عواصمها. وثقت معلومات عن أن مبالغ مالية قدمت للمدعوين على أساس مصروف جيب، ولكنها رشى، ويتوقع أن ينفذ هؤلاء أوامر صاحب الدعوة وصاحب الرشوة. صرح رئيس المجلس بهذا بكل وضوح عندما قال:” لم يذهب أي شخص إلى قطر، إلا وقاموا بإعطائه مبلغا من المال، منهم من سلمه للدولة ومنهم من أخذه لنفسه“.

وقد تجلت الرغبة في استقلالية الحركة في التهافت على الظهور في الفضائيات والإدلاء بتصريحات مع أن للمجلس ناطقا رسميا. وقد أدى هذا إلى ظهور إشارات متعارضة حول بعض القضايا المهمة، فمثلا انتهت القمة الأفريقية السابعة عشرة في 3 يوليو 2011 بمقترحات لحل الأزمة الليبية قدمت لطرفي النزاع. قبل القذافي بالمقترحات بينما عبر المجلس، عن طريق عدد من أعضائه، بردود فعل متناقضة ومتعارضة، مما عكس حالة من التخبط، التي أدى بها المجلس بعض مهامه.

وقد برزت عدم المهنية في ما سمي خطاب التحرير الذي القاه رئيس المجلس، الذي يفترض أن يكون بمثابة الإعلان الرسمي عن بداية الدولة الجديدة. لم يكن مكتوبا ولا متفقا عليه من قبل أعضاء المجلس، الذي حدث أنه ارجل الكلمة، فوردت فيه الأفكار كما اتفق، فظهر في هذا الشأن مقلدا للقذافي، كما شدد على أسلوب التقليد من طريق إصدار أحكام فورية كقوله: “أي قانون مخالف للشريعة الاسلامية هو موقوف فورا ومنها القانون الذي يحد من تعدد الزوجات“.

وقد حظيت هذه العبارة بكم كبير من التعليقات التي اتجه أغلبها نحو توجيه النقد للرئيس: فهل مشكلة ليبيا، في ذلك اليوم، هي الحد من تعدد الزوجات؟ ثم قال أيضا: “وها نحن نعلن اليوم أن هناك ترقية استثنائية لكل العسكريين والمدنيين الذين شاركوا في القتال ضد القذافي“. هل ناقش المجلس مثل هذه الأمور واتخذ بشأنها قرارات؟ وفي هذه الحالة تعلن بالوسائل الرسمية، أي أن الرئيس ظهر ـ مرة ثانية ـ مقلدا أسلوب القذافي في إدارة الدولة، حيث يصبح ما كان يقوله في خطاب جماهيري قانونا نافذا حتى ولو تعارض مع قوانين أخرى.

ـ عدم وضع ضوابط لمراقبة أداء الميليشيات

لم يكن بالإمكان تنظيم بدء عمل الميليشيات، بما فيها بداية تكوّن كل واحدة، وأسلوب القيام بمهامها. لقد كان هذا النشاط عفويا وبناء على اجتهادات فردية. ومع أن المدن حاولت تنظيم عمل الميليشيات المنتسبة إليها، إلا أن قادة الميليشيات احتفظوا لأنفسهم بكم كبير من حرية التصرف. لم يتلفت المسؤولون إلى الجوانب السلبية التي قد تنتج من استمرار هذا الوضع، حيث تركز الاهتمام ـ أثناء المعارك مع الكتائب الأمنية ـ على النشاط الحربي، على الرغم من حدوث أفعال أكدت مقدار الخطر الذي يمكن أن يحدث من جرّاء هذه الحرية.

ولعل الطريقة التي قتل بها من كان يتولى رئيس جيش التحرير الوطني للثوار في 28 يوليو 2011 ومرافقوه، واحدة من أهم عثرات هذه الحرية. وقد فشل المجلس في بيان تفاصيل ما أحاط بهذه العملية، مما تسبب في الكثير من اللغط، وتوجيه التهم نحو كل اتجاه، ولم يسلم في هذا الشأن رئيس المجلس الانتقالي نفسه.

كان واضحا، منذ الأيام الأولى، أن بعض من شارك في الحرب ضد القذافي كانت له أجنداته الخاصة، حيث أعلن عنها بصراحة. الشعارات التي رفعها الثوار كان من بينها بناء الدولة المدنية والتحول الديمقراطي. لكن بعض الجماعات ذات التوجهات الدينية المتطرفة، التي لا تؤمن بهذه الشعارات، أعلنت أنها تهدف إلى بعث دولة الخلافة الإسلامية من جديد. ظهر هذا الإعلان في مدينة درنة خلال الأسبوع الثاني من عمر الثورة. وبعد شهرين كان اسم أمير إمارة درنة الإسلامية معروفا ومتداولا على مواقع التواصل الاجتماعي، ومع ذلك، لم ينتبه المجلس للخطر الذي يكمن وراء هذا الإعلان.

ـ التباطؤ في تفعيل القضاء والنيابة

تعرض الكثير من مراكز الشرطة للتخريب ممن قاموا بالانتفاضة باعتبارها من رموز السلطة التي تمارس القمع. إلى جانب أماكن تتوافر فيها الأسلحة التي ستستخدم في الدفاع، إذا ما تعرضوا للهجوم لكن المحاكم، وما يتعلق بها من مكونات، لم تستهدف، كما تمكن عدد كبير من المساجين العاديين من الهرب.

ونظرا إلى عدم توقف النشاط الخاص بتكوين الميليشيات، نجح بعضهم في تكوين ميليشيات تحت غطاء ثوار 17 فبراير. تخصصت هذه الميليشيات ـ في ما بعد ـ بأعمال السطو والخطف بهدف المطالبة بفدية/ وكذلك القتل.

لم تستدع الشرطة ـ فوز انتهاء الصدام المسلح ـ لتولي مهمة حفظ الأمن، بل أوكل المجلس الانتقاليهذه المهمة للميليشيات. وهذه غير مؤهلة للقيام بهذه المهمة، فتصرفت كل واحدة منها بما تبين لها أنه الطريق السليم للتعامل مع المخالفين للقوانين. احتلت الميليشيات أماكن عامة وخاصة، وجعلتها مقارا تزاول فيها هذه المهام الجديدة، بما في ذلك حجرات للتوقيف والتحقيق والسجن.

ارتكب بعضهم جرائم يعاقب عليها القانون مثل الاستيلاء على املاك المواطنين وخصوصا السيارات، وأعمال التعذيب بما فيها الوحشي الذي أفضى بكثيرين إلى الموت. كما قامت بعض المدن بتنظيم هذا الجانب بطريقتها الخاصة، بحيث أصبح لها قضاء ونيابة ومحامون، وتجري المحاكمات فتصدر الأحكام ثم تنفذ ولا تخضع هذه الأنشطة لسلطة مركزية، وإن كان العاملون ـ في الأغلب ـ من الموظفين المتواجدين في المدينة ويتبعون النظام السابق.

جرت محاولات تنظيم جهاز الشرطة، وإعادة العمل بجهازي النيابة والقضاء، وجعل العمل في هذه الأجهزة مركزيا يتبع وزارة الداخلية ووزارة العدل. لم يرق هذا الأمر لرجال الميليشيات القوية فاستمرت في التدخل في مجال حفظ الأمن، مما جعل بسط القانون بالوسائل العادية أمرا مستحيلا. بل أن بعض الميليشيات أصرت على إزالة جميع معالم السلطة الأمنية، فقامت بتفجير مبان سليمة لمراكز شرطة ونيابة ومحاكم.

ـ من أداء الحكومات المتعاقبة

تمكن المجلس الانتقاليالمؤقت من تشكيل حكومة انتقالية حددت مهمتها بسنة، وأوكلت إليها مهام تسيير شؤون الدولة، وإجراء انتخابات لتشكيل هيئة تشريعية تحل محل المجلس، وقد تم هذا. ضمت الحكومة وزيرا للدفاع ووزيرا للداخلية ولم يتمكن كلاهما من تنظيم جيش متماسك، ولا جهاز داخلية يمكنه حفظ الأمن الداخلي، واستمر الميليشيات المسلحة هي القوة الفعلية على الأرض، ولم تجد السلطتان بداً من الاستجابة لمختلف الأوامر التي تتقدم بها الميليشيات، إضافة إلى استرضائها بالمال الذي كان متوافرا.

وقد ساهم هذا الإجراء في فتح باب الفساد على مصراعيه، فقائد الميليشيا يقدم قائمة بأسماء أعضاء ميليشياه التي غالبا ما تضم أسماء وهمية ليستلم المكافأة الشهرية، وهكذا أصبح بعض قادة الميليشيات من أصحاب الثروات. النسق نفسه أتبعه المسؤولين في قطاعات أخرى ، لعل أهمها القطاع الذي تولى علاج الجرحى خارج البلاد، وهو ملف أصبح فيما بعد من أضخم ملفات الفساد.

عرفت البلاد بعد ذلك حكومة جديدة باسم الحكومة المؤقتة، أجريت خلال مدتها انتخابات لاختيار أعضاء البرلمان، وهو الجهاز التشريعي الذي يفترض أنه سيحل محل الجهاز السابق المؤتمر الوطني“. وقد حدثت انقسامات بين أعضائه تتعلق بمكان انعقاده. يفترض أن مدينة بنغازي هي التي ستكون مكان البرلمان، ولكن نظرا إلى الحرب الدائرة في وسط المدينة، فضلت الأغلبية الانتقال إلى مدينة طبرق في أقصى الشرق الليبي كونها مدينة آمنة. اعترض فريق على هذا القرار، وسمي في ما بعد الفريق المقاطع جلسات البرلمان. وتبين أن أعضاءه من ممثلي التيار الإسلامي الذي لم يحصل على الأغلبية التي كان يتمناها.

تسبب هذا الوضع في ارتفاع حدة الفوضى، وهروب رئيس الوزراء، وتولي وزير الدفاع الرئاسة مؤقتا، وحرب شعواء مدمرة جرت في طرابلس دامت 42 يوما انتهت بهروب الحكومة المؤقتة إلى الجزء الشرقي من البلاد. أعطت الميليشيات التي انتصرت في حرب طرابلس الأمر إلى إعضاء المجلس الوطني المنتهية ولايته باستئناف العمل، وتعيين حكومة في مدينة طرابلس.

استجاب بعض أعضائه واستأنفوا عقد الجلسات لانتخاب حكومة يكون مركزها مدينة طرابلس، سميت حكومة الوفاق الوطني وتغيرت رئاستها ثلاث مرات خلال عام واحد، والسبب الرئيس هو تدخل الميليشيات.

لم تتمكن جميع الحكومات المتعاقبة من معالجة جوانب الضعف في أداء المجلس الوطني، التي أشير إليها آنفا، واستمر تحكم الميليشيات المسلحة في المسرح السياسي، كما سمح بعضهم لنفسه بارتكاب ما يعادل جرائم حرب، ومع ذلك لم تستطع السلطة التنفيذية أن تحرك ساكنا. ارتكبت هذه الأفعال خلال جميع المراحل التي مرت بها البلاد منذ انطلاق الانتفاضة، ولا يوجد ما يشير إلى أنه ستتوقف في المستقبل القريب.

حصل بعضها على اهتمام كبير في وسائل الإعلام المحلية والدولية، منها على سبيل المثال لا الحصر، التهجير القسري لسكان المدينة، الذين أجبروا على ترك منازلهم وأمتعتهم لينجوا بأرواحهم. وأصبحت في الجزء الغربي من البلاد أربع مدن صغيرة خالية من السكان، ثلاث منها في الجبل الغربي، والرابعة إلى الشرق من مدينة مصراتة، وهي بنيت بالوسائل والمواد الحديثة، فيها عمارات سكنية ومبان من طابقين، وأخرى أرضية، وتتوافر فيها مؤسسات الخدمات العامة، كالمدارس والمستوصفات والمتاجر والورش، يشاهد المتجول في هذه المدن، أن جميع الأبواب إما خلعت من أماكنها وإما فتحت وبقيت مشرعة. وهكذا تحولت مدن كانت يوما عامرة بالحياة إلى مدن أشباح.

وشهدت البلاد أيضا، عمليات الاختطاف والتعذيب ثم إلقاء الضحية على قارعة الطريق، وعدد كبير من هذه الحالات موثق. شملت ضحايا هذا النوع من الجرائم عسكريين سابقين، ورجال أمن، وقضاة، ودبلوماسيين، وأيضا، ذلك الشاب الذي اشتهر خلال ألايام الأولى للإنتفاضة بأنه أول من رفع الصوت عاليا بشعار: “الشعب يريد إسقاط النظام“. وقد اختطف في مدينة بنغازي، وبعد يومين عثر على جثته، وعليها آثار التعذيب، في ضاحية خارج المدينة, وكما حدث في كل حالة، فالمتهم بارتكاب هذه الجريمة مجهولون“.

يتبع في الجزء الرابع بدءاً بـ التدخل الخارجي: ليبيا كمسرح لتجاذبات إقليمية ودولية

***

د. مصطفى عمر التير ـ باحث ليبي في علم الاجتماع، نال شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة مينيسوتا الأميركية (1971). درّس في جامعات ليبية وأميركية مختلفة، وكان مديرًا لمعهد الإنماء العربي، وعضوًا في اللجنة الاستشارية بالهيئة القومية الليبية للبحث العلمي، وعضوًا في منتدى التعليم العالي بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو).

_______________

مركز دراسات الوحدة العربية

مقالات

1 Commentاترك تعليق

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *