د. مصطفى عمر التير
الجزء الأول
مقدمة:
أصبحت ليبيا ـ عندما استقلت في نهاية عام 1951 ـ الدولة العربية الثامنة. أُعلن الاستقلال بناء على قرار من الأمم المتحدة ضمن برنامج معالجة حالة البلدان الي كانت مستعمرة من قبل دول المحور قبل الحرب العالمية الثانية.
وكبلد لا يملك لا يملك ثروات طبيعية معروفة، لم يثر الإعلان عن استقلالها حينذاك اهتماما عالميا. تغير هذا الوضع حين تبين أن البلاد ترقد على مخزون ضخم من النفط والغاز. ومع ذلك، ظلت بعيدة مما كان يجري في المنطقة من نشاط سياسي تمحور حول حركات التحرر، والقومية العربية، والوحدة الوطنية.
تغير هذا الوضع في اليوم الأول من شهر سبتمبر 1969 عندما تسلم السلطة حفنة من صغار ضباط الجيش بقيادة معمر القذافي. بدا واضحا، منذ الساعات الأولى، أن الانقلاب سيدخل ليبيا ضمن النشاط السياسي العربي، وبعد رحيل عبد الناصر رأي القذافي أنه أحق بقيادة ما عرف بالمشروع الناصري.
ومنذ ذلك التاريخ، دخلت البلاد في صدامات مع دول الجوار، وما يعرف بالدول العظمى أيضا. نجح القذافي في أن يكون، باستمرار، في قلب الأخبار العالمية بما دخل فيها من أنشطة ومشاريع تحالف النمط السائد في العلاقات الدولية. وقد تسببت هذه السياسية في تصنيف ليبيا كدولة مارقة، وراعية للإرهاب، ومصدر رئيس لزعزعة الأمن ليس في محيطها العربي والافريقي فقط، بل في العالم أيضا.
لم يتوقع بعض المراقبين أن تستمر سيطرة القذافي على البلد كثيرا، وخصوصا أن المحاولات بدأت في الشهور الأولى من تاريخ الانقلاب. لكن القذافي، وعلى العكس من ذلك، استمر في الحكم بحيث حصد ألقابا أصبح يفاخر بها: أقدم الحكام العرب، ثم أقدم حكام أفريقيا. لا يعني هذا أن جميع الليبيين كانوا راضين عن إدارته، وسعداء بوجوده، أو أن جميعهم صدّق مقولاته: ليبيا هي النعيم الأرضي، وهي البلد الوحيد الحر في العالم، وكذلك الديمقراطية المطبقة في ليبيا هي الديمقراطية الحقيقية الوحيدة في العالم.
ومع ذلك ليس فيها مكان للرأي الآخر، ولا تسمح بوجود معارضة معلنة، وعلى من يهاجر بمعارضته النظام إما مواجهة السجن، وإما العيش بعيدا من الوطن. وعلى الرغم من ارتفاع دخل الدولة من بيع النفط الخام، جرب الليبيون الذين عاشوا في الداخل شظف الحياة، وخصوصا بعد فرض سياسة الاشتراكية المبنية على تأميم جميع أنواع الأنشطة الاقتصادية.
كما تعود الليبيون الوقوف في طوابير طويلة، للحصول على أبسط متطلبات الحياة اليومية، وبسبب سياسة القذافي المتهورة، عومل الليبيون في أغلب بلدان العالم كما لو أنهم يحملون فيروسا خبيثا، وحرموا من السفر الى الخارج عبر الجو مدة من الزمن.
ومع ذلك، وُجدت فئة متميزة عاشت في مستوى حياة أرفع، انتمى أعضاؤها إلى الدوائر المقربة من القذافي.
اضطر القذافي إلى تغيير بعض سياساته، فهادن الغرب، وألغى النظام الاشتراكي، وانظم إلى مسلسل التوريث العربي بعد أن تبين أن بإمكانه وضع حجر الأساس لبناء أسرة حاكمة. ونظرا إلى خبرة الأبن المرشح لتولي منصب أبيه بالثقافة الغربية، فقد بدأ العمل على وضع برنامج (ليبيا الغد) لإحداث إصلاحات تستجيب لبعض طموحات الجيل الجديد، وتدخل بعض التحسينات على الصورة القاتمة التي ارتبطت بالنظام الليبي.
أحاط سيف نفسه بكفاءات ليبية متميزة في الاقتصاد والتخطيط والقانون والسياسة، وتقرب من الشباب ضمن لقاءات جماهيرية، ثم دخل في حوار مع أعضاء الجماعات الاسلامية بمن فيهم الموجودين داخل السجون. وبدا المشهد، عشية انطلاق انتفاضة 17 فبراير 2011، وكأن الأمور جميعها تحت السيطرة، وتسير في الاتجاه المرسوم مسبقا.
لذلك جاء التحرك الشعبي على نطاق واسع كحدث فاجأ الجميع: النظام، والشعب، والمراقبين في الداخل والخارج. كان الموعد متفقا عليه من قبل شباب الفيسبوك للتظاهر إحياءً لذكرى أليمة، كما كانت المطالب متواضعة لا تتجاوز الإصلاحات التي كان النظام يخطط لمعظمها. وتوقع الجميع أن المظاهرة ستكون مقتصرة على مدينتي بنغازي وطرابلس، وأن لا يتجاوز حجم المتظاهرين بضعة مئات من الشباب. وأكد هذا التوقع أن ما حدث في تونس تجاوز الجارة لتظهر بداعياته في مصر واليمن والبحرين.
حدث ما لم يكن متوقعا، وخرج الليبيون في حراك شعبي واسع شاركت فيه جميع فئات الشعب، وعمت البلاد من أقصاها إلى أقصاها، ورفعت شعارات بدت غريبة على الشارع الليبي تضمنت الحرية والديمقراطية وبناء الدولة المدنية. وحتى: الشعب يريد إسقاط النظام.
لم يقبل النظام بحراك من هذا النوع، واعتبره كفرا يعاقب مرتكبه بأقسى أنواع العقاب، وحدثت حرب أهلية دامت زهاء الثمانية أشهر، تدخلت فيها دول عربية وغير عربية بما في ذلك حلف الناتو، قتل الآلاف، وجرح أضعافهم، وهجّر مئات الألاف، وهرب أخرون إلى دول الجوار، وحتى إلى بلدان أبعد من ذلك.
وأخيرا انتهت الحرب بين كتائب النظام الأمنية وما عرف بميليشيات ثورة 17 فبراير. وتوقع السكان، وكذلك المراقبون في الخارج بمن فيهم رؤساء الحكومات الغربية، الذين بادر بعضهم إلى زيارة بنغازي لمشاركة الليبيين فرحتهم في احتفالات النصر، بأن السلام سيعدم، وستنطلق أعمال البناء والتعمير.
جرت الاحتفالات في المدن وفي القرى، وبدت صور البهجة والفرحة العارمة في الساحات وفي الشوارع التي ازدانت بالأعلام، علم الاستقلال الذي غيبه القذافي منذ اليوم الأول للإنقلاب. لكن الفرحة لم تدم طويلا، إذ دبت الخلافات بين حلفاء الأمس، وبرزت تناقضات بين الفصائل المختلفة تشير إلى تداعيات لا تصب في اتجاه بناء الدولة المدنية، ومع ذلك، فقد نجح المجلس الوطني في تنفيذ المراحل الأولى من خريطة طريق وضعها بهدف بناء الدولة المدنية.
إن المظهر الذي سبب أرقا لمن حاول إدارة الشأن العام هو رفض الميليشيات المسلحة ونفوذها، وتحولت بذلك إلى سلطة عليا. وعندما تحول أصدقاء الأمس إلى قوى متصارعة. ظهرت على السطح صورة تختلف عن التي سادت أثناء الحرب الأهلية. اشتدت حدة التنازع على السلطة.
وحاول كل فريق الحصول على أكبر قدر من الغنائم التي اتخذت أوجها متعددة، وأموالا ومباني، وحقائب وزارية ومراكز عالية في الكادر الحكومي، وعلاقات مع الدول الأخرى، وغابت قيم كانت موجودة أثناء الحرب مثل: الإيثار، والتعاون، والكرم، والاحترام، والرحمة، والإحسان. وحلت محلها قيم تعارضها، فكثرت الصدامات المسلحة، وأعمال السلب والنهب، والاختطاف والتعذيب والقتل والتخريب، وسادت حال من الفوضى العارمة.
- أين ذهبت تلك الشعارات التي رفعت أثناء الانتفاضة؟
- لماذا فشل الليبيون في ترجمتها إلى أفعال وأنماط سلوك؟
- ما هي الأخطاء التي ارتكبت من قبل من أولكت إليهم مهمة بناء الدولة الجديدة، المجلس الوطني الانتقالي المؤقت، والحكومات المتعاقبة؟
- وهل ساهم التدخل الخارجي بنصيب في هذه النتيجة؟
- وإلى متى ستظل الميليشيات تتصرف خارج سلطة مركزية؟
- وهل سيتمكن الليبيون من الاتفاق على مستقبل واحد، أم أن التقسيم هو المشهد المرشح للاستمرار؟
هذه عينة من الأسئلة التي ستحاول هذه الورقة الإجابة عنها.
***
أولا: ليبيا أثناء حكم القذافي: بَدْوَنَة الدَّولَة
لا شك في أن سكنى البادية نمط من أنماط الاستقرار البشري له خصائصه وظروفه، وهو نمط عرفته مختلف المجتمعات البشرية خلال مراحل من تاريخها. وكان البدو، باستمرار أحد أهم مكونات ليبيا السكانية. ومع أن سكنى المدينة هو نمط الاستقرار السائد الآن، إلا أن نسبة كبير من الليبيين لا يزالون يحملون بعض خصائص حياة البادية أو الريف، وتنعكس هذه في مظاهر سلوكية كثيرة: لن نستعرضها، بل سنسلط الضوء على صفة واحدة وهي المرتبطة بالتنقل وتغيير المكان.
لا تسبب هذه الصفة مشكلة للفرد الذي يعيش في الصحراء سواء على مستوى تغيير المكان، فالصحراء فضاء مفتوح ومتسع، أو على مستوى السلوك، فالأنماط السلوكية المتاحة محدودة، والعلاقات مع الآخر هي الأخرى محدودة إذا قورنت بتلك التي يتيحها فضاء المدينة.
أمضى القذافي جزءاً من طفولته في البادية، فتأثرت شخصيته بخصائص وصفات تلك البيئة، وعندما انتقل إلى الإقامة في المدينة ليكمل تعليمه، وينتسب إلى الكلية العسكرية، تمسك ببعض تلك الصفات التي ظهرت واضحة بعد أن نجح في انقلابه العسكري، إذ رفع شعار “انتصرت الخيمة على القصر“، وحافظ على أن تكون له خيمة باستمرار.
أصر على نصب خيمته بجوار المنزل الحديث، وأن تكون الخيمة منصوبة في أي موقع يريد أن يمضي فيه بعض الوقت. كما أصر على اصطحابها في رحلاته الخارجية غير مبال بالمتاعب التي يتسبب فيها هذا السلوك للآخرين، ويُفترض أن الذي يتجه إلى الإقامة في المدينة أن يترك نمط الإقامة وراءه. لكن القذافي اصطحب خيمته كما أخذ معها ما يتصل بها من طرائق تفكير وأنماط سلوك.
ذكرنا أن خصائص الثقافة البدوية تتطلب فراغا مفتوحا، بينما الفراغ الذي توفره المدينة للفرد محدود. فخاصية التنقل بحرية، في فراغ البادية الواسع، لا تتعارض موجودات الصحراء. لكن عندما يحمل الفرد هذه الخاصية معه إلى المدينة، ستقود تصرفاته إلى أشياء تتعارض وطبيعة حياة الاستقرار الحضري.
ستظهر صفة التغيير في مختلف المناسبات والمواقف، وعليه إذا مادعت الظروف ليغير طبيعة إقامته،
فانتقل إلى الإقامة في المدينة، ستظهر خاصية التغيير في مجالات كثيرة كتغيير طبيعة العمل، وعدم الالتزام بالقواعد التي تتطلبها حياة الاستقرار، وعليه إذا تولى تسيير إدارة مكتب أو مؤسسة سيعمل في اتجاه كثرة المقترحات المؤدية إلى التغيير في التعليمات الإدارية والقواعد وحتى القوانين. وهو أمر يهدد استمرارية المؤسسة التي هي عصب النظام في المجتمع الحديث.
ثم أنه أمر يهدد استمرارية مأسسة العلاقات الاجتماعية التي تتصدر خصائص المجتمع الحديث. فمن شروط استمرار الحياة في المجتمع الحديث أن تمر المهام والعلاقات ومختلف أشكال التفاعل الاجتماعي عبر مؤسسات لها قواعد وقوانين وترتيبات، يلتزم بها جميع من لهم علاقة بكل مؤسسة خلال مرحلة زمنية أو تاريخية معينة. وبالطبع يزداد الأمر تعقيدا إذا تولى من أراد الاحتفاظ بنمط البدونة تسيير شؤون دولة، وكان في نفس الوقت دكتاتورا، لا يقبل الاعتراض على آرائه، لا بل حتى مناقشتها وهذا هو الذي حدث في حالة المجتمع الليبي.
كان سلوك القذافي، خلال طوال حكمه، مثالا جيدا لحالة البدونة هذه. ظهر بوضوح بعد خطاب زوارة عندما قرر إلغاء القوانين، وإلغاء الإدارة التقليدية واستبدالها بلجان شعبية تتولى تسيير الأمور من دون علامات واضحة.
اتخذ ذلك القرار من دون أن يستشير أحدا، حتى زملاءه أعضاء “مجلس قيادة الثورة“. ودخلت البلاد، منذ ذلك التاريخ، في فوضى إدارية وفوضى سياسية. عندما قام بانقلابه كانت ليبيا مقسمة إداريا إلى 10 محافظات يتبعها عدد من البلديات، استمر هذا الوضع حتى سنة 1975 عندما أجرى تعديل على النظام الإداري ألغى بموجبه نظام المحافظات، وانقسمت ليبيا إلى 46 بلدية، وبعد خمس سنوات تقلصت إلى 25، ثم بعد ست سنوات انخفظت إلى 13 بلدية، وبعد أربع سنوات إلى 7 بلديات فقط.
ثم اقترح نظاما جديدا سماه الشعبيات التي تعرضت هي الأخرى، من حيث العدد، للتمدد والتقلص، واستمرت سياسة التغيير الإدراي من دون التفكير في حالة الفوضى التي تسببت فيها هذه السياسة. الشئء نفسه حدث في السياسة الخارجية، فمن إلغاء النظام الدولى للتبادل الدبلوماسي، الذي أربك العلاقات مع بقية دول العالم، إلى برنامج الاتحاد مع دول أخرى، الذي بدأ بالبلدان العربية ثم تمدد بحيث شمل القارة الأفريقية بأكملها، وهو برنامج لم ينجح إلا في فتح أبواب واسعة أمام تبديد الثروة الليبية.
…
يتبع في الجزء الثاني بدءاً بـ “ثانيا: انتفاضة 17 فبراير: الأسباب، المسيرة، والتداعيات“
***
د. مصطفى عمر التير ـ باحث ليبي في علم الاجتماع، نال شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة مينيسوتا الأميركية (1971). درّس في جامعات ليبية وأميركية مختلفة، وكان مديرًا لمعهد الإنماء العربي، وعضوًا في اللجنة الاستشارية بالهيئة القومية الليبية للبحث العلمي، وعضوًا في منتدى التعليم العالي بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو).
_______________
مركز دراسات الوحدة العربية