المحرر
لم يَدُرْ في خَلَدِ أحدٍ قطّ بأنّ النار التي أضرمها الشاب التونسي الجامعي محمد البوعزيزي في نفسه، بمدينة سيدي بوزيد النائية يوم الجمعة 17 ديسمبر/ كانون الأول عام 2010 م، وذلك تعبيراً عن غضبه على بطالته ومصادرة عربته التي كان يتجوّل بها لبيع الخضار، ستخلّف من ورائها في اليوم التالي زلزالاً لم يهزّ العالم العربي فحسب، وإنما هزّ العالم بأسره، من أقصاه إلى أقصاه.
حدث البوعزيزي الصغير في حجمه والكبير في معانيه وتداعياته، الذي كان كالصاعق الذي يختزل كلّ آلام الشارع العربي ومحنه وآهاته، فجرّ ما بات يعرف بـ «ثورة الياسمين» في تونس، والأخيرة ولّدت بدورها احتجاجات وانتفاضات وثورات شعبية عارمة اجتاحت العديد من أقطار العالم العربي.
أقطار عربية كثيرة مازالت تنتظر وصول هذه الظاهرة إليها
لقد أجبرت الثورة التونسية الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، الذي حكم البلاد بقبضةٍ حديدية طيلة 23 سنة، على التنحّي عن السلطة والهروب من البلاد خلسةً, فقد توجّه أولاً إلى فرنسا التي رفضت استقباله خشية حدوث مظاهرات للتونسيين فيها, فلجأ إلى السعودية، وذلك يوم الجمعة الموافق للرابع عشر من كانون الثاني/ يناير 2011 م.
وكذلك دفعت الثورة المصرية بالرئيس محمد حسني مبارك الذي حكم البلاد أكثر من ثلاثة عقود للتخلّي عن الحكم في 11 فبراير 2011 (الموافق 8 ربيع الأول 1432 هـ)، حيث أعلن نائبه عمر سليمان في السادسة من مساء الجمعة 11 فبراير2011 م في بيان قصير عن تخلّي الرئيس عن منصبه، وأنه كلّف المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شؤون البلاد.
أطاحت الثورة الليبية بالقذافي الذي حكم البلاد بالحديد والنار أكثر من أربعة عقود، وأدّت إلى مقتله على يد الثّوار في سرت يوم 20 أكتوبر2011 م
كما أجبرت الثورة اليمنية الرئيس اليمني علي عبد الله صالح الذي حكم البلاد أكثر من ثلاثة عقود للتخلّي عن السلطة، حيث انتهت رئاسته للجمهورية دستوريًّا وقانونيًّا في يوم السبت 25 فبراير من عام 2012م، بعد انتخاب عبد ربه منصور هادي، رئيساً للجمهورية اليمنية، وبعد أداء عبد ربه منصور هادي القَسَم أمام مجلس النّواب، طاوية صفحة (علي عبد الله صالح) في رئاسته لليمن.
اللافت في تلك الثورات والاحتجاجات الشعبية، إنها أطاحت بالعديد من الأنظمة السّياسية في المنطقة العربية، التي كان ينظر لها دائماً على أنها أنظمة بوليسية قويّة راسخة، وفي فترة وجيزة جدًّا، ولا زالت هذه الثورات مستمرّة ومتنقّلة من قطر إلى آخر.
لقد امتدّت شرارة الثورة التي حدثت في تونس إلى البحرين وسورية والسعودية والسودان ومسقط والأردن والمغرب والجزائر ولكنها لم تنفجر، ولا تزال العديدة من الدول، بحسب المحلّلين والمراقبين، مرشّحة لاستقبال هذه الظاهرة، مما يعني أن هناك جولة قادمة من الثورات في أنظمة عربية أخرى مرشّحة للانهيار والتهاوي في المستقبل.
ولم ينحصر تأثير الثورات والاحتجاجات العربية على النظم السّياسية في المنطقة، وإنما أحدثت أيضاً متغيّرات على صعيد المعادلات والحسابات السّياسية على الصعيد العالمي، كما أفرزت أحلافاً جديدة لم تكن قائمة، وأجبرت العديد من دول العالم، ومن بينها الدول العظمى، إلى إعادة النظر والحسابات في سياساتها وبرامجها وتحالفاتها الخارجية، خصوصاً المرتبطة بالمنطقة العربية.
وتعتبر الثورات والاحتجاجات العربية، بخصائصها وشعاراتها ومطالبها وأساليبها وشكلها التي برزت به، ظاهرة فريدة من نوعها، ليس على مستوى العالم العربي فحسب، وإنما على مستوى العالم كلّه، وبما أنها ظاهرة سياسية لا زالت حديثة التكوين، أي لم يمضِ على اندلاعها حتى اللحظة، إلا عقد واحد، وهي– بالمناسبة– فترة لا تعتبر طويلة وفق حسابات التاريخ وعمر الشعوب، فإنه من المرجح انفجارها في أقطار جديدة أخرى، كما أن تداعياتها المحتملة ستمتدّ إلى عقود قادمة.
هذه الظاهرة الجديدة، شكلاً ومضموناً، شكّلت انعطافة كبيرة في التاريخ السياسي للشعوب العربية والإسلامية
لقد كان لمشهد النار التي التهمت جسد الشّاب التونسي الجامعي بائع الخضار، محمد البوعزيزي، تداعيات واسعة في العالم العربي تمثّلت في إشعال موجة واسعة من الاحتجاجات والثورات الفريدة من نوعها في العديد من الأقطار العربية، مما أثار في ذهن البحاث العديد من التساؤلات:
- ، بعضها يتعلّق بماهيّة ودوافع الثورات والجهات التي تقف خلفها،
- وبعضها مرتبط بإمكانيّتها في إحداث إصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية في العالم العربي عامة، أو تحوّل ديمقراطي في دول الربيع العربي خاصة،
- وبعضها ارتبط بتأثير الثورات على عمليات الإصلاح، وحركات الإسلام السّياسي في العالم العربي
كلها تساؤلات لا زالت تؤرّق وتشغل بال الكثير وتحتلّ مساحة واسعة من تفكيرهم وأذهانهم.
_______________