بقلم عزة كامل المقهور
علي سعيد قانة .. فنان التشكيل، نحات، خزاف، ومعلم لمئات الطلبة في كلية الهندسة قسم العمارة.
أمازيغي الأصل ..طرابلسي الهوى.. ولد وترعرع بـ زقاق سيدي سالم بالمدينة القديمة. تشرب من حوائطها البيضاء الملساء.. من هواها الآتي مع زنقة الريح و الباب الجديد.. من تقاطع شوارعها في الأربع عرصات، بقايا أعمدة الرومان التي تشد سكانها إلى ماقبل ولادة المسيح عليه السلام.. من أقواس حومة غريان البديعة المتجانسة، ومن الحارتين الكبيرة والصغيرة، و زنقة الفرنسيس و زنقة الاسبانيول و زنقة الاكواش حيث عبق الياسمين والفل.
***
ولابد وأنت من قاطني هذه المدينة البيضاء بنقاء نفوس سكانها، أن تتوقف عند مقهى سعيد.. وسعيد قانة هو أب الفنان علي قانة..
مقهى سعيد يقع إلى جوار مبنى الساعة، خلف مبنى مصرف ليبيا المركزي.. يقف فيه عمي سعيد بنفسه، يحضر القهوة والشاي على “البياض” ويوزع “البريوش” على زبائنه.. لكن مقهى سعيد لم يكن مقهى وحسب…
كانت شخصية عمي سعيد المثابرة والنشطة التي تدور كالنحلة بين عبق القهوة المطحونة ذات الجودة العالية والمذاق المتميز ذات مكانة خاصة..
كان يعشق كرة القدم ويوثق الفرق الليبية والكرويين الليبيين على جدران مقهاه: “الأهلي” و“الإتحاد” و“المدينة“.. الزنتوتي و قشاش و البولاقي و الزقوزي و بوهديمة و كفالة .. كان متحفا لرياضة كرة القدم التي عشقها.
***
علي قانة.. وهو يلعب في أزقة وحواري تلك المدينة العتيقة، تشّرب الفن الطرابلسي الاصيل رغم أمازيغيته الضاربة في مجاهل التاريخ… رأى النحاس وفنونه في سوق القزدارة، والفضة والذهب في سوق المشير، والنوالة يحيكون الحوالي من التل والفضة في سوق الحرير، وصانعي الفرامل وطراز “الخرج” في سوق الربع، وصانعي “السوابيت” وصناديق “الصدف“..
كان لابد لعلي قانة أن يكون فنانا وسط فن أصيل.
كان لابد لعلي قانة المنحدر من مدينة نالوت الجبلية المنحوتة وسط الجبل أن يكون نحاتا..
بعد أن نال الثانوية العامة، إتجه شمالا.. إلى مدينة ترتبط بليبيا ومدرسة للفن الحديث ألا وهي روما.. ودرس بكلية الفنون الجميلة، وتخصص في فن النحت ودرس الفن الحر على يد فنان صيني، وقابل الفرنسية الشقراء جينين. إقترن بها واقتفت اثره إلى مدينته العتيقة وسكنت مع أسرته في حجرة ببيتهم.. جنين انجبت له: زازية، المهدي، أمين، وهادية…
من خلال هؤلاء الاربعة، تعرفت على عالم علي قانة، لكنني لم أتعرف عليه شخصيا إلا في فترة لاحقة.. كانت العلاقة عائلية، بدأت بين أخي مروان وإبنه المهدي، وكانت زازية تدرس معي بمدرسة قرطبة الثانوية للبنات.
عند عودتي من باريس، اقتربت من زوجته جينين وزرت بيته (المتحف) الذي يشبه في تصميمه بيوت المدينة القديمة، بل وأحيانا يبدو على الطراز الغدامسي.. كانت اللغة الفرنسية عاملا مشتركا بيني وبين أسرته.
عملت جينين منذ الستينيات بالمدرسة الفرنسية بطرابلس، مدرسة للأطفال في السنوات الأولى، وتخرج على يديها مئات الطلبة الليبيين من القلة الذين يتحدثون الفرنسية.
تعرفت على عمي علي قانة في مكتب والدي رحمه الله…حضر إليه مهموما.. مقهى سعيد منبع الذكريات تم دخوله عنوة والاستيلاء عليه..
جاء وكأن ذكرياته كحوائط المدينة القديمة، يلطخون عليها طبقات من الالوان غير المتجانسة، ليمحوا ماتحتها، يحورون في هندستها ويهدمون أطرافها ويزحفون بالإسمنت، وحجر البناء الحديث ليجعلوا منها امرأة على غير عمرها فتفقد نظارتها ومكانتها…
كان مهموما.. استقبله والدي بكل الود وتفاعل معه …وبدأ يحكيان عن المدينة القديمة وكتاتيبها وجوامعها وحوماتها وسكانها وأزقتها… وأسواقها وصنايعييها.. و.. و.. ومقهى سعيد.
لم يتملك عمي سعيد الرجل العفيف المقهى رغم أن الثمانينات كانت سنوات زحف واستيلاء على أملاك الناس.. كان المقهى ملك لايطالي غادر البلاد إلى غير رجعة، إلا أن أخلاق عمي سعيد وقفت حائلا بينه وبين تملكه.. فجاء من فعل ذلك، أخذه عنوة، واستصدر اوراقا بتخصيصه له… كان عمي علي مستاءً.. لا حبا في المقهى ذاته لكنه يحاول أن يبقى على المدينة كما هي، وكان العابثون ينهشونها دكانا دكانا.. وزقاقا زقاقا.. حتى اصبحت ملاذا لأجانب لايعرفون قيمتها.
لم يسترجع عمي علي مقهى سعيد رغم المذكرات القانونية التي سطرها أبي، كما لم تسترجع المدينة القديمة بياضها ولا بريقها.
مارس علي قانة فن النحت فنحت تمثالين للشاعرين الأحمدين الشارف ورفيق.. لكنهما ضاعا وسط ضياع أكبر للهوية الثقافية الليبية.
وفي احدى زياراته لنا.. فوجئت بوالدي يخرج مع عمي علي قانة، صحبة عمي عبد الله بورقيبة الظهراوي العتيد، كانت الوجهة زيارة للفنان التشكيلي الشهير الامازيغي الأصل الطرابلسي الهوى ايضا.. محمد البارودي في بيته بزاوية الدهماني.. كان البارودي رحمه الله قد اقعده المرض.. التقطوا صورا، وكانت آخر صورة آراها لثلاثتهم: كامل المقهور، محمد البارودي، وعلي قانة…
انغمس على قانة حتى الثمالة في التدريس، وجد فيه ضآلته الضائعة وفرصة تحقيق ذاته المعطائة، فأين بلادنا من فن النحت.. بعيدة، وتزداد بعدا كل يوم.. وأين الفن و قد احكمت حبال الطبقة الحاكمة أنذاك كل ابداع؟
درس الفن الحر، وأسس التصميم، والظل والمنظور.. أطعم طلبة العمارة فنا راقيا، فقربت المسافات، وازدانت المجسمات، واتخذت الخرائط أشكالا امتدت لأبعد من الورق وامتزجت بالخيال.
لكن علي قانة لم يغب عن حيطان المدينة القديمة… يلج اليها، يمر بين ازقتها كشبح يفتش عن مايحفظ به ذاكرتها.. أواني، أباريق، صناديق، خزفيات، بل قطع من حيطانها، يحملها ويحاول سبر اغوار مكوناتها والوانها الأصلية.. وكأن علي قانة حمل المدينة القديمة إليه.. ولم يكن يعي أنها تسكن قلبه..
ضمور العضلات اقعد علي قانة.. سلم مرسمه واوراقه والوانه واسكتشاته لإبنته الصغرى هادية.. التي تميزت في فن الخزف كما مارست تدريس الفنون، وتعمل حاليا على تحويل جزء من بيت والدها الى متحف بإسمه بمعاولها وأدواتها وعلب طلائها.
غادر على قانة الدنيا ولم يدفن لا في مقابر اهله ولا اهل المدينة القديمة ولكن في مقبرة الزغواني القريبة من بيته في جنزور.
رحم الله علي قانة نحات ليبيا الامازيغي ابن المدينة القديمة البار…
************
الفنان المعلم على سعيد قانه
بقلم محمد عقيلة العمامي
عندما كتب الباحث والمصمم المعماري، الأستاذ جمال اللافي عن الفنان المُـعلم علي قانة، فقال: «إنه صاحب رسالة واكبت مسيرة حياته، ورؤية واضحة لكل إشكاليات العصر تميزت بالنضج والعمق.
وهذا ما ميز تجربته التعليمية والمهنية والشخصية على حد سواء، ولهذا استحق لقب المُـعلم عن جدارة واستحقاق.. »، ثم لقبه المخرج السينمائي الليبي محمد المسماري بـ«موسوعة الفن التشكيلي في ليبيا»، وذلك عندما قام بتصوير سيرة هذا الفنان واطلع من خلالها على تبحره في كل مجالات الفنون التشكيلية من خلال مجموعة من الأعمال والمساهمات الإبداعية.ويعد من أبرز الفنانين التشكيليين الليبيين، فهو فنان ومُـعلم، جمع بين الممارسة والدراسة، والتدريس.
باب بحر
وُلد علي سعيد قانة، بمدينة طرابلس، يوم 6 يونيو 1936، في «باب بحر» بالمدينة القديمة، لأسرة أصولها من مدينة «نالوت» بالجبل الغربي. بعد استقلال ليبيا بخمس سنوات وبضعة أيام، التحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما، وهناك درس النحت بمدرسة «سان جاكومو للفنون الزخرفية»، وبتواصل دراسته في إيطاليا دعم قدراته الفنية من خلال دورات تخصصية في مجالي الرسم الحر والنحت، فبرز في هذه المجالات كافة، وعلى أر عودته إلى ليبيا.
التحق سنة 1964 بالتدريس بمعهد «ابن منظور». وفي سنة 1973 باشر التدريس بكلية التربية بجامعة طرابلس، التي كان اسمها في ذلك الوقت «جامعة الفاتح».
بعد ذلك انضم إلى كلية الهندسة، بالجامعة، بقسم العمارة والتخطيط العمراني، ثم تولى في سنة 1974، تدريس أسس التصميم والرسم الحر، فيما كان يعمل مستشارًا للشؤون الفنية بمشروع تنظيم إدارة المدينة القديمة، مسقط رأسه حتى تقاعده في 2001، محققًا رصيدًا هائلًا من الأعمال التوثيقية للمعالم المعمارية الإسلامية، لمختلف المدن الليبية القديمة، الأمر الذي جعله موسوعة، ومرجعًا لعديد الدارسين والمهتمين بالجانب المعماري تاريخيًا.
معارض ومحافل دولية
أقام وشارك في عديد المعارض التشكيلية محليًا ودوليًا، واقتنى متحف مدينة باري للفنون بإيطاليا لوحتين من أعماله الفنية، كما كلف عند عودته إلى ليبيا إعداد تمثالين لرأسي الشاعرين أحمد الشارف وأحمد رفيق المهدوي، وكلف أيضًا التصميم والإشراف على تنفيذ هدية الفارس الليبي في العام 1979.
يوم 22 أبريل 2006م رحل عنا، إلى رحمة الله، المُـعلم والفنان التشكيلي علي سعيد قانة عن عمر ناهز السبعين عامًا.
______________
المصدر: صفحات التواصل الإجتماعي