سالم الحاسي

دخل شباب ورجال مايو على معمّر القذّافي وصدورهم معبأة إيمان وثقة فِي قول الله تعالى: (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، وقوله جلّ مَنْ قائل: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). …

دخول هؤلاء الفتية للحدود بياناً بليغاً يقول للقذّافي الدجَّال بأن هؤلاء الّذِين سميتهم (جيل الثورة) وحسبت أن دجلك وباطلك انطلى عليهم، قادمون إليك لاقتلاعك وإجثتات (ثورتك). وأنَّ مَنْ أرسلت زبانيتك لتغتالهم فِي الخارج.. هاهم قد أتوا إليك ينازلونك فِي عقر دارك مظهرين زيف شجاعتك ومدى جبنك.

هؤلاء الرجال كسروا حاجز الخوف ولبَّوا نداء الله والوطن، فلم يمنعهم أولادهم، ولا أزواجهم، ولا ظلم القذّافي مِن نصرة الدّين ونجدة الوطن، ولم يثن مِن عزائمهم علم النظام مسبقاً بموقفهم منه..

رجال منهم مَنْ جاوز الخمسين، ومنهم مَنْ كان فِي العقد الثالث مِن عمره.. منهم والد لاثنى عشر ابناً، ومنهم الأعزب، ومنهم مهندس الطيران، والأستاذ بالجامعة، والمُوظف، وإمام المسجد، ومنهم التاجر. ..

لقد قضى الفتية عدة أشهر قبل الشروع فِي تفجير الأحداث، عبروا الحدود.. استأجروا المساكن لأنفسهم، وكيّفوا لأنفسهم حيَاة طبيعة داخل المجتمع.. تنقلوا داخل الوطن مستخدمين كافة وسائل المواصلات.. اجتازوا البوابات العسكريّة قائلين بهذا للقذّافي: أن ستار الرعب الّذِي نصبته على بلادنا مَا هُو إلاّ وهم وها نحن نحطمه، وأن جميع أجهزتك المخابراتيّة هشة وسهلة الكسر، وإنّك واقف على رمال متحركة، وليس لك أصل ولا جذور فِي مجتمعنا.

والأهمّ مِن هَذا كله أن الّذِين يتجمّعون حولك جميعاً، لا يهمهم أمنك ويتمنون زوالك ومَا مسايرتهم لظلمك إلاّ بسبب خوفهم على أنفسهم بعْد تورطهم فِي مهاتراتك، فأنت لست فِي مأمن منا، فكلَّ الّذِي حولك سراب ووهم سيبدده فجر الخلاّص والإنقاذ قريباً إن شاء الله.

ويأتي يوم السّادس مِن (مايو) ليلزمنا بالوقوفِ عنده وقفة تمحص وفهم واستشعار لما فيه مِن عبر.. وقفة نرى فيه ذلك الرجل الّذِي ضرب للعالم بأسره أروع الأمثلة فِي القيادة والوفاء للعقيدة والمبادئ الرَّاسخة، والوطنيّة الصّادِقة والرّجولة النادرة. نقف لنرى الشهيد أحمَد إحواس وقد ضرب بالدنيا عرض الحائط، واشترى الآخرة بنفسه.

وهُو الّذِي كان بإمكانه أن يبني لنفسه جاهاً ومجداً زائفاً كالّذِي بناه أذناب القذّافي، ولكن تقواه منعته مِن مساندة أو مسايرة الظالمين، وكان بإمكانه أن يُعارض ويُنظر كيفما يشاء، ويخطط كمَا يحلو له بعيداً عَن ساحة الوغى، ولكن عقيدته منعته مِن أن يقول مَا لا يفعل.

فدخل على القذّافي أينما هُو، ولم ينتظره فِي الخارج، وكأنّي به يقول للقذافي الدجَّال: أنا لم أهاجر خوفاً منك، بل هاجرت استعداداً لمنازلتك. وكأنّي به يقول أيْضاً: نحن مُعارضون دفعتنا العقيدة والمبادئ ولم تدفعنا الماديات.. غايتنا إعلاء كلمة الحق وليس الاستعلاء على الخلق.

نحن فِي القيادة لأننا أوَّل مِن يعطي ويبذل ولسنا أوَّل مِن يأخذ ويجني ثمار بذل الآخرين.

وكأنّي به يقول مرَّة أخرى: هكذا يجب أن تكون القيادة، وهكذا تكون، إطاعة الله، وهكذا يكون حبّ الوطن صدقاً لا تشدقاً. لقد أخرس الشهيد أحمَد إحواس ببطولته هَذه الدجَّال القذّافي، وردّ على كلّ أباطيله واتهاماته التي يحاول أن يلصقها بالبطل الشهيد بأنه عميل أو بأنه ساع وراء كرسي الحكم، لأن القذّافي هُو مَنْ يعلم بأن العملاء اللاهثين وراء كراسي الحكم يخافون ورود المخاطر ويرهبهم الموت.

إن استشهاد أحمَد إحواس كان أبلغ رسالة وجهت إِلى معمّر القذّافي، وكانت فحواها بأن كل مَنْ استشهد فِي سبيل عقيدته ووطنه ليس بكلب ضال، وإنّما الكلب الضّال هُو أنت، وكلَّ مَنْ ولغ فِي الدماء مثلك.. وأن مَنْ استشهد وهُو فِي أعلى قمم البذل والعطاء ليس هُو بالجبان، وإنّما الجبان هُو مَنْ حرّم على جفونه النعاس مخافة أن يغتال….

وكأنّي بالشهيد إحواس قد ختم رسالته بأنه لم يُجيّف كمَا يدّعي معمّر القذّافي وأذنابه، بل القذّافي وأزلامه هم الّذِين جُيفوا يوم تسلطوا على النَّاس، وتنكروا لأمتهم وشعبهم وعقيدتهم، وكمَا يقول الشّاعر:

 لَيسَ مَن ماتَ فَاِستَراحَ بِميت … إِنَّما المَيت ميَّت الاِحياء….

والشهيد إحواس ببطولته هَذه جعل كلَّ مَنْ استهزأ به، ووصفه بأنه وطواط أو متعجرف أو دكتاتوري أو غير ذلك جعلهم جميعاً يّحنون رؤوسهم استصغاراً لأنفسهم أمام إيمانه، ورجولته وإقدامه، ووطنيته الصّادِقة.

وأنا هُنا لا أجد مَا أقول فيه إلاّ قول الشّاعر

وَكَانَتْ فِي حَيَاتِكَ لِي عِظَاتٌ … وَأَنْتَ اليومَ أَوْعَظُ مِنْكَ حَيَّـا

وأخيراً، إن إلتقصير فِي الإشارة بعمل هؤلاء البطولي لن يمحو ذكراهم، ولن ينقص مِن عظمة بطولتهم، فليتثاقل مَنْ شاء عَن ذكرهم، وليحاول مَنْ شاء التقليل مِن قيمة عملهم. فذكرهم عند الله باق: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}. (سورة يوسف، 90).

وأذكّر كلَّ المخلصين لعقيدتهم، الصّادِقين فِي وطنيتهم، بأن تكريم الشهداء لن يكون بوقفات الحداد أو الترحم عليهم فحسب، بل إن تكريمهم يكون دائماً أبداً بمواصلة مشوارهم الّذِي ساروا فيه، وبالبذل والعطاء مِن نفس جنس بذلهم وعطائهم، وصدق الحق تبارك وتعالى إذ يقول:

{مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً}.  (سورة الأحزاب، 23).

__________________________
المصدرمجلة الإنقاذ ـ العددين 18-19 بتاريخ يونيو 1986

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *