عبدالمجيد الصغيّر
لا شك أن عملية باب العزيزية الجرئية، فضلا عن أهدافها العسكرية والسياسية، القريبة والبعيدة، قد شكلت قفزة نوعية في طبيعة ومدى وأسلوب العمل النضالي الوطني في الداخل، فقد طبعت الصراع ضد نظام القذافي بأجواء الجهاد والتضحية والفداء، وبروح الإقتحام والجرأة والإقدام، فكسرت حاجز الخوف وأوجدت، عند فئة الشباب، خاصة حالة من التفاعل النفسي الذي يدفع إلى القيام بالفعل الإيجابي والدور العظيم كي تخرج البلاد من حالة اليأس والإحباط الرهيبة التي عاشتها قبل الأحداث والتي أفرزها غياب التحدي الحقيقي للنظام لسنوات طويلة.
إن أهمية عملية معسكر باب العزيزية تكمن في قدرتها على الهدم والبناء، هدم حاجز الخوف والرهبة لدى الناس وفي نفس الوقت بناء العمل النضالي الأصيل الذي يعتمد أسلوب الفداء والتضحية والاقتحام.
لقد أثبتت تلك العملية الخالدة قدرة الطلائع المؤمنة على إنزال صربة موجعة للنظام، في عقر داره وداخل أكبر قلاعه، وأوضحت كذلك هشاشة وانحلال الروح المعنوية لأتباعه وأن أجهزة الأمن والاستخبارات القمعية، مهما توفرت لها من إمكانيات مادية وبشرية هي أعجز وأجبن من أن تتصدى لعملية فدائية جهادية تم إعدادها بدقة وعناية وبروح مسؤولة مقدامة ومتوكلة على الله سبحانه وتعالى.
لقد أفرزت جهود “مجموعة بدر” في العملية الجرئية الفكرة النضالية الصحيحة، التي تبدأ بها عادة، كل مسيرات التحرر والإنقاذ الراشدة، وهي: (أن ادخلوا عليهم الباب، فإن دخلتموه فإنكم غالبون) وتخضبت تلك الفكرة بالدماء وبالحركة والممارسة الفاعلة وبالعمل الجهادي المعطاء، وإزدادت دقة ووضوحا في التوجه من خلال ما تلاها من أعمال وبطولات وما لازمها من محن وتضحيات.
وبعد سنوات تأكد للجميع من خلال المثال والقدوة أن الأدوار العظيمة تتطلب المواقف والإعمال العظيمة، عظمة عملية معسكر باب العزيزية.
كانت العملية الخالدة تعبيرا ورمزا لظاهرة الصحوة التي شهدتها البلاد منذ أواخر السبعينيات، خاصة بعد بروز ظاهرة المحنة التي هي ملازمة دائما لظاهرة الصحوة، تحاول القضاء عليها وإيقاف مدها ومداها وتأثيرها.
لقد برزت المحنة على أشدها مباشرة عقب الأحداث تعصر المناضل والفرد العادي على حد سواء، فالمحنة لم تكن خاصة برجال “الإنقاذ“، بل لمست كل من يُشتبَه في انتمائه السياسي المعارض لنظام القذافي، بل وهددت كل إنسان وطني شريف كيفما كان اهتمامه السياسي، وعمل النظام الفاشي على اعتقال كل من يشتبه فيه إعتقادا منه أنه يكون بذلك قادرا على القضاء على نشاط المعارضة في الداخل وعزلها في الخارج، وهكذا طالت المحنة كل البيوت وكل القبائل والفتات في كل المدن والقرى والجهات.
الشرفاء في كل مكان واجهوا الإضطهاد ولوحقوا وطوردوا شر مطاردة ونُكِّل بهم شر تنكيل، وتأكد للجميع أنه لا توجد ضمانات لأي إنسان في أي وقت وفي أي ركن من البلاد مادام القذافي على رأس السلطة فيها.
حاول النظام من البداية تحميل الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا مسؤولية تلك المحنة وتصويرها على أنها بسبب تصرفات الجبهة ومحاولتها تعكير صفو الحياة الآمنة في جماهيرية القذافي!!
وربما قد انزلق ـ للأسف الشديد ـ بعض “المعارضين“، وتجاوبوا مع توجهات النظام بأن أحداث مايو أفرزت محنة شديدة من شأنها القضاء على الحركة السياسية في الخارج والعمل الشعبي النضالي في الداخل، ولكنهم تناسوا منطق التاريخ الذي يؤكد بأن قضية المحنة أمر ضروري بل حتمي في أغلب الأحيان، وبالذات عندما يتعلق الأمر بصراع وجود بين الطاغية الدكتاتور وبين قوى أصيلة حية تريد إسقاط نظامه وإحداث تغييرات جذرية ونوعية في الواقع الاجتماعي والسياسي والفكري للبلاد، ومن جهة أخرى فقد اثبتت الأحداث فيما بعد بأن هذا التيار الوطني لم توقفه المحن ولم تثنه عن عزمه، وأنه قادر على متابعة نشاطه دون الاعتماد على مجموعة من الأفراد أو حتى جيل بأكمله، لأن هذا النشاط ينبع من التناقض المبدئي بين الطاغية وما يمثله من باطل، وبين هذا التيار وما يمثله من قوى الحق والخير في المجتمع.
صحيح أن النظام حاول ـ من خلال المحنة ـ إجهاض التيار الوطني المجاهد، من خلال تصفية بعض رموزه الذين قاموا بالترتيب والإعداد لتلك العملية الجرئية.
وصحيح أنه أراد أن يحرم التيار الوطني من التحام الناس معه في الداخل ففقد بالتالي وزنه الشعبية وقوة انتشاره.
وصحيح أن المحنة كانت شديدة جدا في الأشهر التي تلك الأحداث مباشرة، وقد أخذت أشكالا عنيفة استهدفت الإنسان في عقله وبدنه وأفكاره ونفسيته وعقيدته، وفي علاقاته.
وصحيح أن المحنة أفرزت ظاهرة “جماهيرية السجون” أو “المعتقلات الجماهيرية” حيث أصبحت السجون من أهم مؤسسات النظام وأدواته لقمع الفكر وتصفية المشاعر وتحطيم النفوس، وقتل أهم مقومات حياة الإنسان وهي الحرية.
صحيح كل ذلك وأكثر .. ولكنه صحيح أيضا،
أن تلك المحنة تحولت فيما بعد إلى مجال كبير لتمحيص النفوس وتزكيتها وإلى منبّه لإيقاظ المشاعر والعقول ومنشّط للوعي والإدراك وموجّه للقدرة والإرادة، فقد فرضت أجواء المحنة على العناصر الوطنية المناضلة العمل بروح جديدة لمواجهة الظروف الصعبة والضغوط الأمنية والمشاكل التنظيمية، وجعلتهم يتعلمون الشئ الكثير عن كل أطراف الصراع بدءً من إعادة أكتشاف ذواتهم وتعميق أفكارهم وتأكيد تعلقهم بقضيتهم ومبادئهم.
لقد أثبتت الأيام للقذافي أنه لن يستطيع سحق هذا التيار وأن أكثر ما يستطيع أن يفعله هو وضع العناصر الوطنية أمام الإبتلاءات والمحن بشكل مستمر ومتواصل، وأثبتت كذلك أن تعاقب المحن على المناضلين مهما كانت شدّتها لن تؤدي إلى موت الصحوة وأن وسيلة السجن كأداة قمع وإرهاب قد فشلت في مهمتها.
وقريبا بإذن الله ..
قريبا .. تلتهم كتائب الإنقاذ الصحارى والواحات .. والشوارع المعبدة في المدن بعذاباتهم .. وبدماء إخوانهم .. وبلوعة أمهاتهم .. وبحرقة أخواتهم .. وبحسرة أسرهم ..
قريبا .. يعرف الجميع من هم شباب مايو الأمجاد .. لقد مضى من مضى منهم شهيدا .. وبقى من ورائهم .. رماة القذائف .. وكلمات الحق .. يخبئون في عيونهم كل التواريخ .. ينقشون أسماء شباب مايو .. شباب كل شهر .. على القذائف .. فلا ولن تخطئ أهدافها .. لكي تنهي حزن هذا البعد .. وعذابات المنافي .. وهموم الهجرة القاتلة ..
____________
المصدر: ملحق مجلة “الإنقاذ” ـ العدد (31) ـ مايو 1990