د. محمد نجيب بوطالب
باتت ليبيا مهددة بالتقسيم، الى ثلاثة أقاليم، طرابلس في الغرب، وبرقة في الشرق، وفزان في الجنوب، في ظل انهيار الدولة، وتوزع السلطة، والأوضاع الهشة، والتدخلات الخارجية. وتلعب النزعات القبلية والمناطقية ادوارا انقسامية عنيفة، في ظل غياب الوعي الوطني الصلب، ومقومات البناء الوطني المؤسسي.
ويكاد فهم الحالة الليبية يصبح أمرا مستعصيا على محللي السياسات وواضعي الاستراتيجيات، بسبب نقص في أدوات التحليل العلمي. فهؤلاء كانوا وما زالوا يتعاملون مع أحداث ليبيا منذ 17 فبراير 2011، بمنطق الغنيمة، وفي سياق فقر في المعرفة بخصائص المجتمع والدولة والأرض.
إن فهم بنية مجتمع ما، والنجاح في التعامل مع اشكالياتها، والنجاح في التدخل لوضع حلول تساعدها، أو تساعد بعض مكونات تلك البنية، تقتضي شروطا أساسية، هي:
• أولاً: التعرف على الجغرافيا السياسية للدولة، ومستويات تاريخ تطورها عبر مختلف انتماءاتها عبر المراحل، فضلا عن علاقتها بمحيطها.
• ثانياً: التعرف على الخريطة الاجتماعية، من حيث تركيبتها الاثنية والاجتماعية، وتوزيعها (بين الساحل والداخل)، والأخذ بعين الاعتبار تاريخ التحالفات والصراعات بينها.
• ثالثاً: التعرف على مختلف الأطراف المتداخلة في فضاء شبه مفتوح شمالا (عن طريق البحر) وجنوبا (عن طريق الصحراء الافريقية). وهذا التدخل هو الذي أوجد اصطفافا محليا لدى المجموعات السكانية في ليبيا (القبلية – المناطقية – السياسية)، وراء تحالفات مع الخارج تبنى في نطاق تبادل المصالح (الحماية والمساندة مقابل منح الأطراف الخارجية منافع يأتي البترول في مقدمتها).
من خلال العودة إلى هذه المحددات المؤثرة في بنية المجتمع الليبي اليوم، وهو يعيش حالة انهيار للدولة، وتوزع للسلطة، وتدخل اجنبي متعدد الوجود، من جهة ويشرف على حال خطيرة، تهدده بالانقسام والفوضى اللاّخلاقة من جهة ثانية، من خلال ذلك، يمكن استعراض لوحة تحليلية للخريطة الاجتماعية القبلية في ليبيا، بمختلف أبعادها الفاعلة في البلاد.
القبيلة والقبلية قبل «ثورة 2011»
يعتقد بعض الدارسين، وهو اعتقاد غير علمي، أن «ثورة القذافي» سنة 1969 هي التي ألغت الأحزاب والتنظيمات، وأحيت التحالفات القبلية، والحال أن ليبيا عرفت معاداة للأحزاب المدنية وتنظيماتها منذ فترة الملك إدريس السنوسي، أي منذ عام 1952، أي بعد الاستقلال بسنة واحدة، وحينما جاء القذافي بادر بإلغاء ما تبقى من الأحزاب السياسية، وقام باستبدالها بما يعرف بـ«مهرجانات الصوت» و«اللجان الثورية» و«المؤتمرات الشعبية» وهي تنظيمات حافظت على البنية القبلية ووظفتها لمصلحة النظام.
وإذا كان بعض الدارسين يعتبرون أن القبيلة بقيت كمظلة اجتماعية، فإنهم لا يستطيعون نفي حضورها الرمزي، من خلال التحالفات التي أقامها النظام بين أجنحته على أسس قبلية ومناطقية. كما أن التعامل الصريح والمباشر مع الزعامات التقليدية، متمثلة في شيوخ القبائل، خصوصاً خلال الأزمات الأمنية التي كان يتعرض لها النظام، كان أمراً لا يغيب عن أي متابع.
إن الشعارات التي رفعها النظام «الجماهيري» لم تستطع إخفاء مرتكزات الدولة التقليدية، وأهمها الزعامات القبلية، والثقافة القبلية، التي تحولت إلى ثقافة مسيسة وموظفة لفائدة «القائد» وخياراته.
ومن خلال متابعة مرحلة امتدت على مدى أربعة عقود، يمكننا استخلاص الاستنتاجات التالية في مستوى علاقة الدولة والنظام بالمسألة القبلية في ليبيا، على عكس ما حصل في تونس، خصوصاً في عهد بورقيبة (من 1956 إلى 1987)، حيث همشت القبيلة وحوربت وفككت أوصالها:
• اعتماد النظام على بناء تحالفات مع القبائل الكبرى، وتوزيع الثروة والسلطة عليها. وهذا ما عرف بالمراهنة على البنية القبيلة، أكثر من المراهنة على البنية الوطنية، التي لم تتجاوز الأطر الشكلية.
• لجوء النظام إلى القبيلة عندما يتعرض لبعض الأزمات، وحينما يريد امتصاص التناقضات، وخوض الصراعات، وضبط الأفراد (مثل توظيف القبيلة ضد الحركة الإسلامية المعارضة).
• شدة ارتباط أفراد المجتمع الليبي بمجموعاتهم القبلية، وولعهم بتراثها وتاريخها. وقد تم تفسير ذلك بالبحث عن الحماية مقابل عنف أجهزة الدولة وبطشها.
• في كل المراحل الثلاث (المملكة ــ الجماهيرية ــ الثورة) حاول النظام السياسي استغلال حضور البنية القبلية في المجتمع، وتوظيفها لمصلحته واستثمارها. وقد عرفت مرحلة بدايات «الثورة» انعقاد اجتماع طرابلس الحاشد لممثلي القبائل المساندة للدولة والنظام، وسرعان ما ردت عليه مجموعات أخرى مساندة لـ «الثورة»، بسلسلة من الاجتماعات واللقاءات القبلية، صدرت عنها بيانات سياسية نشرتها بعض وسائل الاعلام.
• بعيد «الثورة» ظهرت مطالب مناطقية، اتخذ أغلبها الهوية القبلية والاثنية غطاء لتلك المطالب الاقتصادية والثقافية.
• عرفت عملية سقوط النظام، وانحلال مؤسسات الجيش الوطني والأمن، ظهور الميليشيات المسلحة في المدن والقرى، والكثير منها كان يلبس جبة القبيلة. و كان أغلبها يتحرك في إطار قبلي عشائري. وقد ساهمت مأساوية الأحداث وردود الفعل المتسارعة، في انتشار ظاهرة الثأر السياسي والعنف العسكري الذي تحول إلى عملية شبيهة باستعادة للثأر القبلي القديم، بين بعض المناطق والمجموعات.
• تغلغل المشاعر والسلوكيات القبلية لدى النخب السياسية، التي تطرح نفسها وتصوغ خطابها ضمن مشروع وطني، ولكنها تعتمد على توجهات ومحركات مناطقية وقبلية، تراوح بين الظهور والكمون في نوع من التكتيك والحركة.
• التلويح بعودة التقسيم المناطقي القديم (قبل ثورة 1969) الذي يضم أقاليم طرابلس (غربا وبرقة شرقا وفزان جنوبا).
فالمطلبية المناطقية التنموية والتمثيلية السياسية للمجموعات، كانت كثيرا ما تعتمد هذا التقسيم، الذي كثيرا ما يتشكل من تحالفات تقوم على علاقات النسب والجوار القبلي. وتظهر الخارطة الاجتماعية الوطنية أن الانتماء الاجتماعي يقوم على النسبة إلى جماعة قرابية وقبلية أكثر مما يكون قائما على توجه سياسي وطني.
التوزيع المناطقي للقبائل
يمكن تقريب صورة التوزيع القبلي المعاصر للقبائل في ليبيا للقارئ العربي، باستعراض أهم ملامح التقسيم الاثني أولا، ثم القبلي والسياسي لاحقا (الاثنيات أي الأصول العرقية)، وهو توزيع تقريبي، يعتمد على ما شهده المجتمع وما عرفته المجموعات السكانية من حركية أفقية وعمودية خلال تطورها الحديث.
الخريطة السياسية وتقاطعاتها القبلية
يتكون المشهد السياسي الليبي اليوم، بعد عقد زمني من التغيير، من مجموعة من الفاعلين السياسيين المنتمين إلى مجموعات وتنظيمات، أهمها الاخوان المسلمون، وهم المتمركزون في طرابلس ويطلق على تنظيمهم العسكري «قوات فجر ليبيا»، ومنها المجالس العسكرية في عديد المدن كالمجلس العسكري بطرابلس، وغرف العمليات والميليشيات والكتائب، ومجالس الشورى المتوزعة بين الغرب والشرق، والتي عرفت تحولات كثيرة في مواقفها وتحالفاتها.
كما توجد الجماعات المتطرفة مثل أنصار الشريعة وداعش والقاعدة، وتتمركز في سرت وصبراتة ودرنة وفي بعض المناطق الجنوبية.
وثمة مجموعات موالية للنظام القديم، تأخذ تسميات غير معلنة، ويعيش جزء منها في البلدان المجاورة لليبيا، وأغلب المنتمين اليها يتحركون ضمن مجوعات قبلية ومناطقية.
ويتكون العلمانيون من بعض النخب الجامعية والمعارضين القدامى والقوميين وهم أقل حماسا لـ«الثورة».
كما توجد اليوم بليبيا وضعيات من الانقسام والتجزؤ الخطر، الذي يشمل المجال الجغرافي، وموارد الثروة، ومكونات السلطة.
وهذا الواقع أصبح يناسب ما تلوح به أطروحات التقسيم، التي تسود اليوم، في بعض أوساط التدخل الخارجي، مدعومة من بعض القوى غير الوطنية الداخلية، مرجعياته هي مشروع التقسيم الذي كان قائما خلال مرحلة الاستعمار الايطالي وقبلها، مما كان يشكل جزءا من اتفاقيات سايكس بيكو للمنطقة العربية.
فالمشروع الذي يهيأ له اليوم يسعى الى استعادة تقسيم ليبيا الى أقاليم ثلاثة، هي اقليم طرابلس في الغرب، واقليم برقة في الشرق، واقليم فزان في الجنوب.
ان الأوضاع الهشة اليوم، بملامحها السياسية والأمنية، مع التأجيج الخارجي ترشح الذهاب الى هذا المشروع بسبب عدم توافر بدائل وطنية توحيدية صلبة، وبخاصة في مستوى الممارسة، لا في مستوى الخطاب.
كما أن ما يتوافر من امكانيات لتلك البدائل الوطنية لا يرتقي الى القدرة المادية والفكرية والمؤسساتية لفرض ارادة الوحدة الوطنية، وحماية الثروات، وتجسيد الارادات، ضد التشرذم والعنف والانقسام.
ولعل مخاطر هذا التوجه ستكون شاملة لأنها لا تضر بليبيا وحدها، بل ستضر بالمنطقة كلها، لما لليبيا من موقع استراتيجي في السياسات الدولية، وما لها من ثقل جغرافي واقتصادي وحضاري في الساحة العربية، تم تهميشه لسنوات طويلة، كما تم تجاهله من قبل العرب عامة، وبخاصة من قبل الجيران الذين تعاملوا وفقا للمثل المحلي القائل «أخطى راسي وأضرب» (أي: اتركني بخير وليذهب الآخرون الى الجحيم).
كما أن هذه المشكلة تتأتى من انعدام القدرة، لدى مختلف المتدخلين في المنطقة وعلى المستوى الدولي، على اجراء وساطات بين القوى المتصارعة، التي تتحكم في جهاتها او مدنها او قبائلها، وأصابعها على الزناد.
خريطة القبائل
التوزيع الإثني
• قبائل عربية (تمثل %90 من السكان)، تتوزع على الحدود المصرية، وعلى طول الساحل الليبي بمحاذاة شواطئ المتوسط، وصولا إلى الحدود التونسية، كما توجد هذه القبائل في المناطق الصحراوية في الجنوب.
• قبائل أمازيغية تتمركز بجبل نفوسة في الغرب وبعض المناطق الساحلية الغربية (تمثل %6 من السكان).
• قبائل التبو في أقصى الجنوب بمنطقة أوزو ومنطقة غدامس والقطرون في الجنوب والجنوب الشرقي بالكفرة، وأغلبها ذات أصول افريقية (تمثل %3).
• قبائل الطوارق (تمثل %1)، وتعيش في المناطق المتاخمة للحدود مع التشاد ومع النيجر والجزائر ومالي، ويخوض العديد من هذه المجموعات القبلية صراعات الى جانب الجماعات المتطرفة ضد قبائل التبو المؤيدة للجيش الليبي.
التوزيع المناطقي
يقدر عدد القبائل في ليبيا بنحو 140 قبيلة، لكن عدد القبائل التي لها مكانة سكانية، لها تأثيرها ووزنها لا يتجاوز 30 قبيلة، وهي:
– قبائل الشرق: تتكون من العبيدات والدرسة وأولاد فايد وأولاد أحمد والبراعصة والمغاربة والعواقير والمجابرة والعريبات والخلالات والمسامير والعرفة والفرقة والجغبوب والفواخر.
– قبائل الوسط: تتكون من فرجان والمقارحة وأولاد سليمان والقذاذفة والجفرة.
– قبائل الغرب: هي ورفلة (53 فرعا) ومن بني وليد والمجابرة والزنتان ومسلاته والصيعان والحرابة وأولاد سالم والعمائم والعلاونة والأحامد وغريان وأولاد مرزوق والمحاميد والرجبان وورشفافة والسبعة وأولاد صولة وأولاد شبل وأولاد المرموري.
– قبائل الجنوب: الزوية والتبو والطوارق ومرزق والكفرة.
– قبائل المدن: ضعفت أسس الانتماء القبلي والعصبية القبلية فيها، لفائدة مكونات أخرى، ثقافية واثنية ومدنية وعائلية، مثل مدن غدامس ونالوت وطرابلس وبنغازي وبرقة وغيرها.
الخلاصــات
ان القبلية اليوم في ليبيا هي نزعة فعالة وخطرة على مصير حراك المجتمع والدولة، لأنها استطاعت عبر ثغرات، تسببت فيها أخطاء البناء الوطني لدولة الاستقلال، وطبيعة النظام السياسي الذي حكم البلاد على مدى اكثر من أربعة قرون، وزاد الطين بلة عجز البدائل بعد «الثورة» عن تحقيق الشعارات وتنفيذ الوعود. كما أنها لم تتمكن من تشكيل وعي وطني صلب، كما هو الحال في تونس المجاورة، حيث يفسر صمود التجربة بصلابة «الوحدة الوطنية» التي بناها زعماء الاستقلال وعلى رأسهم الحبيب بورقيبة.
ان التجربة الليبية لا تمتلك حتى الآن مقومات البناء الوطني مؤسساتيا، وليس لها تراث يستجيب في شكل تواصلي لطموحات الأجيال والنخب. وهذا ما يجعل الفاعلين اليوم من أفراد وجماعات يقدمون ولاءاتهم الحميمة على ولائهم للوطن، كما يجعلهم يعتمدون على آليات التضامن والتحالف والاحتماء خارج الأطر الوطنية والمدنية.
حتى رموز الدولة الوطنية تم اضعافها وتهميشها أو تهشيمها، بسبب تغليب المصالح الضيقة والارتهان في السلوك السياسي الى نزعات الثأر والانتقام والمحاسبات الفجة التي لا تترك مجالا للمصالحة والبناء الوطني.
هذا ما ساهم في القطر الليبي في ايجاد فراغ سياسي جعل المجموعات المتصارعة تكون هياكل وتنظيمات يغلب عليها طابع الميليشيات وتغيب عنها التصورات الفكرية وانعدام مشاريع التحول والتنمية والبناء الوطني.
وحتى ان وجد ذلك فهو عبارة عن تصورات سياسية وايديولوجية مثالية، أكبر من حجم تلك الجماعات الصغيرة والمشرذمة، لأنها ترتهن الى الخارج أكثر من ارتهانها الى الداخل. لذلك لا تخلو السلوكيات والمواقف من كثير من التبعية والوصولية والانقلابية، وهو ما جعل هذه التنظيمات مخترقة خارجيا وتضم في صفوفها مجموعات ليست ليبية أصلا.
ان أخطر ما يصل اليه اليوم الوضع، بعد كل التضحيات والخسائر، أن يبدأ المواطنون بالتساؤل بعد عشر سنوات من تغيير الأنظمة، عن مستقبلهم ومصيرهم، وأن يبادروا بإجراء مقارنات بين الماضي والحاضر طارحين السؤال التالي: ماذا ربحنا وماذا خسرنا وما الذي ينتظرنا، وهل هناك ربيع فعلا؟
لعلنا بحاجة الى النظر الى هذا السؤال بروح ايجابية، حيث أن الوعي الجديد يتكون عادة بالسؤال الجديد، وبالتمعن في تغيير الواقع، بعيدا عن الشعارات البراقة التي تصنع مرة من الداخل وأخرى من الخارج، كما روج لــ«الربيع العربي» وفقا لأطروحة «الفوضى الخلاقة».
***
أ. د. محمد نجيب بوطالب ـ كاتب وباحث في علم الاجتماع
___________