بقلم عبدالحميد البكوش

بالرغم من تعدد نظريات تفسير انتماء الإنسان إلى جمع من البشر، وإلى مكان وأيضا إلى نظام معين، وبالرغم من اختلاف تلك النظريات بعضها عن بعض، فإن ذلك الإنتماء يظل حقيقة حية في علاقات الناس.

وإذا كان احساس الفرد بحتمية علاقة الأخذ والعطاء بينه وبين بشر آخرين هو ما يمكن أن نسميه بالإنتماء البشري، فإن الفرد إحساس بعلاقة أخذ وعطاء أخرى تربط بينه وبين المكان الذي يعيش فيه، وهذه يمكن أن نسميها بالإنتماء المكاني أو الإنتماء إلى المكان.

ونلاحظ أن كلا الإنتمائين المكاني والبشري يتفاعلان معا داخل بُعد زماني أساسي هو عمر الفرد، وبُعد زماني مضاف وهو مزيج من تاريخ من ينتمي إليهم ذلك الفرد وتصوره، وتصورهم لما يأملونه ويتوقعونه في قادم الأيام.

وإذا ما تجاوزنا دوائر الإنتماء الإنساني الأضيق كالأسرة والقرية والمدينة، وصرفنا النظر عن دائرة الإنتماء الأوسع للإنسانية كلها، فإننا نقع على أهم دوائر الإنتماء وهي الإنتماء إلى الوطن، الذي تظهر فيه علاقات الفرد أخذا وعطاء بالبشر والمكان في أوضح صورة لها.

نعم قد تختلط هذه العلاقة التي نسميها بالإنتماء إلى وطن، بعلاقة أخرى هي الإنتماء إلى أمة عندما تشمل الأمة كما نفهم أكثر من وطن، ولكن الواقع الإنساني اليوم يجعلنا نضع علاقة الإنتماء الأولى في مقدمة كل الإنتماءات الإنسانية الأخرى.

إن الانتماء إلى الوطن هو أبرز وأهم الانتماءات سواء كانت أكثر ضيقا أو أكثر اتساعا، فالعالم منقسم اليوم إلى أوطان ترتكز كلها على علاقة الفرد بالوطن الدولة أكثر من ارتكازها على أي من علاقات الإنتماء الأخرى الأضيق والأوسع، ومن هنا فإن الشخصية الوطنية تعني نسيج إحساسات الفرد بأنه مرتبط بأرض معينة وشعب معين ارتباط أخذ وعضاء، وتظل هذه الاحساسات هي المحور المحرك لنشاط وطموحات المواطن.

وإذا كان تحقيق نهضة حضارية في أي وطن يستلزم خلق مواطنين قادرين على التقدم، فإن حمل أولئك المواطنين على الفعل يستوجب إلى جانب أشياء أخرى شحذ همة كل مواطن وكل مواطنة وذلك بإيقاظ شعور الإنتماء الوطني لدى كل منهما.

إن الدعوة إلى الشخصية الليبية تعني نسيج أحاسيس الإنتماء لدى المواطن الليبي والمواطنية الليبية، أي الإنتماء إلى ليبيا البشر والإنتماء إلى ليبيا المكان.

لقد أدرك الكثيرون من مثقفي الوطن وحملة الرأي فيه أن شعور الإنتماء لدى الفرد الليبي قد شابه الكثير من الفتور، الأمر الذي أخمد من طموحه وخفّف من إحساسه بما حوله وصرفه عن التطلع إلى مشروع وطني ينقله من دائرة التخلف إلى حضارة القرن العشرين، فقد ساد خصوصا لدى الشباب شعورا بعدم المبالاة، وعزوفا عن الإهتمام بالشئون العامة، ولم يكن لدى الأغلبية رؤية للمستقبل ولا طموح إلى اقتحام أبواب حضارة العصر.

الأمر يبدو لأول وهلة أمرا شديد الغرابة، فلشعب ليبيا العربي المسلم خصوصية يتصف بها، فهو وريث تجارب باهرة ومريرة من أجل الحرية والإستقلال والرخاء، فبالاضافة إلى أنه صاحب تاريخ حافل بالمعاناة دون هوادة، وعلى أرضه ولدت أهم حركات البعث الإسلامي في التاريخ الحديث، فقد عاصرت وحالفت الحركة السنوسية حركتي المهدية في السودان، والوهابية في الجزيرة العربية.

إنها تلك السنوسية التي خاضت بالليبيين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حروبا لا نهاية لها ضد زحف الاستعمار الفرنسي إلى الشمال، كما كانت السنوسية أبرز الكتائب في معارك الكفاح الدامي ضد الغزو الإيطالي للبلاد.

ولم يغب شعب ليبيا حتى عن المعارك الدبلوماسية الدولية، فقد ضرب في أعقاب العالمية الثانية مثلا في التكتل والإصرار أدى به إلى كسب استقلاله بقرار من هيئة الأمم المتحدة في 21 نوفمبر 1949 بسابقة ليس لها مثيل.

ولأن الليبيين قد خبروا معنى الفقر أكثر من غيرهم، فقد صنفهم تقرير البنك الدولي عام 1951م، على أنهم أفقر شعب في العالم بلا منافس، وماتوا من الجوع عام 1949 ـ 1950م، وبدأوا مسيرة الإستقلال عام 1952م، بشظايا شعب وهلاهيل دولة، ومع ذلك فإنهم وقد سنحت لهم فرصة الإنطلاق بالإستقلال، قد أنجزوا في سنوات قليلة قواعد اقتصاد مستقيم، ومشروع تعليم لم يسبق له مثيل وبنوا إدارة بالغة الكفاءة إذا ما قورنت بكل الإدارات العربية حتى التي سبقتهم بعشرات السنين، كما بنو نظاما سياسيا جيدا كان يمكن أن يتطور إلى نظام ديمقراطي أكثر اكتمالا حتى وإن واجهوا في تطبيقه بعض العثرات.

في سنوات الخمسينيات والستينيات من هذا القرن كان الليبيون يملكون تجربة المحنة وخبرة المأساة، وهم يعيشون أحرارا في نظام متحضر كان قبل أن يجهضه إنقلاب عام 1969 العسكري، يسير نحو النمو والتطور مضيفا إلى نضجه كل يوم، وكانت أمام الليبيين كل فرص القفز إلى حضارة القرن العشرين وما بعده وإنجاز مكانة أفضل دولة في العالم الثالث، كانت لديهم حصيلة التجربة وفرصة الفعل وقد بدأت عوائد النفط المكتشف حديثا تنساب في جيوب الجميع، نراهم لا يعيرون سلامة الوطن وسلامتهم أي اهتمام، نراهم وقد اندفعوا للإهتمام بما يخصهم من هموم وطموحات شخصية ومادية، دون حرص على الوطن الذي بدون سلامته لا رفاهية ولا حياة لأي فرد، وانصرفوا إلى الانشغال بكل ما هو مثير خارج الحدود متنافسين فيما بينهم من أجل حياة مادية أفضل بعيدا عن سلامة وطنهم وأسلوب حياتهم الذين بدونهما أيضا لا رفاهية ولا حياة.

لقد كانت غالبية الليبيين وخصوصا المثقفين منهم تشعر بأن من حقها أن تشبع بعد جوع، فانصرفت عن التفكير في مستقبل الوطن ككل، وشغلتها مسائل الحياة اليومية عن التمسك بوجودها والإيمان بواجبها في الاندفاع بكل قوة نحو الإلتحاق بحضارة العصر والمشاركة فيها.

وإحساسا بكل هذا فإن الدعوة إلى الشخصية الليبية تعني بعث إحساس المواطن والمواطنة بالإنتماء إلى ليبيا بما يوقظ علاقة الليبي بشعبه وبأرضه، تلك العلاقة التي تدفع دماء الفعل في عروق الفرد وتحفزه للعمل من أجل أهله ووطنه فيصبح لديه شعور بواجب الفعل وتصور لمشروع وطني ينقل الشعب الليبي كله إلى مرحلة حضارية أفضل.

إن إيقاظ روح الإنتماء الوطني هي الشرارة التي تشعل إرادة الفرد وتبعث فيه الإحساس بواجب الفعل والإدراك بأن الحياة أخذ من الوطن وعطاء له.

إن قصر الشخصية الليبية على الإنتماء إلى الوطن الليبي لا يلحق بفكرة الإنتماء إلى الأمة العربية كلها شيئا من الفساد، بل إن الإنتماء إلى الأمة أمر أوسع من أن تتحرك فيه إرادات الأفراد، بل الطريق إلى الأمة يمر بالوطن فلن تقدر على فعل شيء للأمة العربية إذا لم تفعل كل شيء من أجل أجزائها، تلك الأجزاء التي كانت ولا تزال لها ملامح مختلفة وخصائص متباينة لا تفرقها ولكنها لا يمكن أن تمحو شخصياتها و خصوصياتها“.

إن حصر التفكير في الإنتماء إلى الأمة وإنكار الشخصية الوطنية هو تشتيت لفكرة الإنتماء ذاتها، وهو يشبه التركيز على الإهتمام بشأن الوطن الدولة وإغفال شأن المنطقة والمدينة والأسرة.

إن الدعوة إلى الشخصية الليبية هي لإيقاظ إنتماء الليبي إلى الوطن ولا تلغي بحال من الأحوال مشاعر الإهتمام بقضايا العرب والعروبة عند الليبيين، وإنما هو محاولة لوضع كل شيء في مكانه من قائمة الأولويات.

فقد كان غريبا أن تظهر على ملامح الوجه الليبي أحاسيس الفرحة أو الإكتئاب من أجل أحداث تقع خارج وطنه، وقدرته على الفعل بشأنها محدود، ولا يطرأ على تلك الملامح أي تغيير إذا ما تعلّق الأمر بما يحدث في وطنه أو يجري على مستقبل شعبه من أمور.

إن مغامرا عسكريا ما كان لينجح في السطو على الشعب الليبي لو لم يكن غالبية هذا الشعب مستسلما للفراغ، غير منشغلا بمستقبله وغير حريص على ما لديه ولا يملك إلا شعورا باهتا بالإنتماء.

إن الدعوة إلى الشخصية الليبية لا تعني سوى إيقاظ لشعور الإنتماء إلى ليبيا، أي لدي الليبي والليبية بكل ما يحمله هذا الإنتماء من إرتباط فعّال بين الليبي البشر والمكان، وما يدفعه إليه من فعل من أجل الوطن وما يكشفه من إدراك بأن لا سعادة لفرد في وطن من الأشقياء، ولا تقدم لمواطن في شعب من المتخلفين، وكذلك ما يرسخه من إقتناع بأن لا طريق إلى حياة أفضل غير العمل من أجل الوطن والحرص عليه والدفع بشعبه إلى الأمام.

فالمطلوب هو إيقاظ الشعور الوطني لدى الفرد الليبي بإرادة ورثت تجارب المحن التي تشحذ لديه الرغبة في الحفاظ على حاضر معقول وليس للإبقاء عليه للأبد، وإنما لتطويره إلى مستقبل حافل بالتقدم والعدالة والرخاء، إن الليبي لن يستطيع المساهمة في بناء أمة عربية أفضل، إلا بعد أن يفرغ من إنجاز وطن ليبي أفضل وأقدر، وهو بدون هذه الرؤية سوف لن يكون له مكان في صفوف الذين لا يفعلون شيئا ولكنهم يهتفون فقط.

إن إحساس الليبي بشخصيته وثقته بها، هو إحياء لما ورثه من خبرات وبعث لإرادة الفعل لديه مؤمنا بأن عطاءه للوطن هو الوسيلة الوحيدة ليعطيه الوطن، ومدركا أن تعميم العطاء على دوائر أوسع من ليبيا هو تشتيت للجهد.

ليس في الدعوة للشخصية الليبية أي معنى للإحساس بالتمييز عن الآخرين، وإنما هي دعوى إلى أن يفخر الليبي بوجوده وبشخصيته وأن يضيف إليها من المعالم والقسمات ما يجعلها أجمل وأجدى وأقدر بحيث لا تتوقف الشخصية لدى المواطن على إحساس بالوجود وإنما إلى إرادة فعل من أجل أن تصبح حريته في الاختيار من قواعد الحياة، فلا يفرض عليه نظام حكم أو أسلوب عيش، ولا يقدر أحد على خداعه فيسلب منه حريته مقابل الوعود الشعارات“.

فالشخصية الوطنية هو موقف من أجل الصواب والحق والحرية والتقدم وضد كل ما عدا ذلك من الممكنات.

إن أشد ما يحزنني أن أرى صورة التاريخ الليبي الحافل بالمآسي والكفاح والألام تبهت في خواطر الليبيين، وأن أراهم غير منشغلين بوطنهم إلا قليلا، وغير حريصين على ما كانوا فيه حرص الذي يصر على الإحتفاظ بما لديه حتى يطوره على مهل وكيفما يشاء.

لقد كنت أحزن كثيرا وأنا أرى الليبي هائما في وطنه بلا شخصية، ولعلها من صروف القدر أن أجد إني لا أزال حتى اليوم حزينا بل وأكثر حزنا عما مضى على أهلي من الليبيين والليبيات لا لأنهم قد وقعوا في الأول من سبتمبر 1969م، في قبضة المجهول فقط، بل لأنهم ما زالوا بلا شخصية يعانون شرودا في إحساسهم بالإنتماء، فهم يتصرفون اتجاه ما حل بهم فككا، من كل موصول بينهم وكأنهم لم يكن لهم ماضي ولن يكون لهم مستقبل.

إنهم يتصرفون بلا شخصية، بل إنهم في الواقع يستسلمون (للظلم) ولا يتصرفون على الإطلاق.

لذلك فإنني اعتقد أن الدعوة إلى إعادة بناء الشخصية الليبية لا تزال ضرورة ويجب علينا نحن كل الليبيين أن نعيد طرحها من جديد.

إن علينا أن ندعوا بأن يستيقظ الليبي والليبية على الشخصية الوطنية بمعالمها التي تحمل التاريخ المر المشرّف، وملامحها التي تحمل الفعل للخلاص، والإصرار على إنجاز مستقبل ينقلنا هذه المرة إلى حضارة القرن الواحد والعشرين.

إن الدعوة إلى الشخصية الليبية هي دعوة إلى ري جذور المواطن، ونفض غبار الاستسلام لأي واقع عن أكتافه المجهدة، ودعوة إلى بعث شعور الإنتماء الوطني في كيان الليبي حتى يرى حقائق واقعه بوضوح ويشحذ إرادته للفعل من أجل المشروع الذي يقوم على بناء الوطن وتحريره وتحقيق حرية الفرد الكاملة المصونة فيها وإرادته بإسلوب علمي متحضر يدفع به إلى الأمام، ويجعله قادرا على اقتحام أبواب حضارة العصر.

إنها دعوة إلى المستقبل، وهي في قلبي كما أثق في قلب كل ليبية وكل ليبي، فمستقبل أي وطن لا يبدأ إلا في أحد المواطنين.

______________

المصدر: مجلة شؤون ليبية (1996)

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *