حسان الزين
بعد ربع قرن من الشراكة في الحكم لا يقرأ “الرجل الثاني” تجربته نقدياً بل يغسل يديه من الأخطاء كلها.
لم يُعرف أن “الرجل الثاني” في ليبيا، عبد السلام جلود، انقلب على “الرجل الأول“، رفيقه في “الثورة” والحكم، معمر القذافي.
الأخبار المتواترة عن علاقة الرجلين لم تتجاوز قصص التباين في الرأي والموقف ثم المعارضة الصامتة ومحاولات الإصلاح تحت قيادة القذافي في النصف الأول من التسعينيات. فما قصة الانقلاب التي توثقها “مذكرات عبد السلام أحمد جلود“؟
تحطيم صورة القذافي
تبدأ قصة الانقلاب بشكل خفي من الكلمة الأولى في المذكرات، إلا أن انكشافها حصل خلال ما يسميه جلود، والقذافي طبعاً، “الثورة“.
يروي جلود: “في هذه الليلة حدث أمر غريب ومثير، فحين كان الضباط والجنود يغادرون معسكر قاريونس في بنغازي متجهين إلى الأهداف التي حددناها في الخطة، علمت أن الأخ معمر تخاذل في هذه اللحظة وترك ضباطه وجنوده وذهب لينام في غرفته بالمعسكر“.
ويتابع: “في ما بعد – في أواخر الثمانينيات – أدلى الأخ عبد المنعم الهوني بتصريح، من القاهرة حيث كان يعيش، مذكراً بهذه الحادثة. وحين استمع الأخ معمر إلى تصريحه، لم ينكر، وقال: فعلاً ذهبت إلى غرفتي ونمت، وقال في معرض تبرير هذا التخاذل: أنا قائد الأوركسترا، ومهمتي هي ضبط الإيقاع وتنظيم الفرقة، وبعد ذلك تنتهي مهمتي” .
ويضيف: “قبل أيام قليلة من الثورة، كنت قد ذهبت صحبة الأخ إبراهيم أبجاد لاستطلاع منزل مذيع متميز في الإذاعة اسمه محمد المطاطي، لذلك ذهبت صباح يوم الثورة إلى منزله ومعي قوة عسكرية وقمنا بإحضاره إلى دار الإذاعة، ثم ربطنا الاتصال مع بنغازي لتمكين القذافي من إذاعة البيان الأول للثورة. بيد أن إذاعة البيان تأخرت، ولذا سيطر علينا الخوف، وبعد ذلك علمنا أن معمر ظل في غرفته ولم يتوجه إلى دار الإذاعة من أجل إذاعة البيان الأول، لأنه كان يريد التأكد من أن الثورة انتصرت وسيطرت سيطرة تامة. في هذا الوقت.
كنا نعتقد أن الإخوة لم يتمكنوا من السيطرة على مدينة بنغازي والبيضاء وعلى محطة الإذاعة، فانتابنا القلق الشديد. وبعد ذلك علمنا أن القوات، التي تحركت من مدينة درنة إلى مدينة البيضاء قد طلبت من الجنود بقيادة أحد الضباط تنفيذ مهمة الاستيلاء على الإذاعة في البيضاء.
ولكن المجموعة المكلفة ضلت الطريق في البداية، بينما كانت بنغازي تنتظر الربط الإذاعي ليذاع البيان في آن واحد من طرابلس وبنغازي والبيضاء. وقد صاغ البيان معمر، الذي كان موجوداً في بنغازي، وجعله عاماً، وهدف إلى إعلام الشعب الليبي بقيام الثورة وانتصارها للشعب والعالم، وليطمئن العالم بأن الثورة عمل داخلي يخص ليبيا والليبيين، وأن الثورة تحترم الاتفاقيات الدولية” .
هكذا، لا يتردد جلود في تحطيم صورة القذافي بوصفه قائداً لـ“الثورة“. فـ“الطاغية” من البداية مخادع، وليس ثورياً صادقاً.
ما أخفاه القذافي وتجاهله جلود
لكن هذا الوضوح في الرؤية متأخر. ففي تلك الأثناء، أيام الشراكة في الثورة والحكم، لم يتوقف جلود عند تلك الأعمال “المريبة“، بل أهملها ولم يأخذها على محمل الجد أو يفسرها. فلم يرتَب، هو ورفاقه، من القذافي. وها هو جلود بعد نحو خمسة عقود يتذكر: “رفض معمر القذافي تعيينه على رأس مجلس قيادة الثورة، كما رفض قرار ترقيته إلى رتبة عقيد. وهكذا بدأ معمر في وقت مبكر رحلة الخبث والخداع، فقد كان يتقمص شخصية الزاهد والملاك لإخفاء شخصيته الحقيقية بوصفه شيخ قبيلة، ورجلاً سلطوياً من طراز الشخصيات المتعطشة للمال والسلطة“.
ولعل ما جعل جلود يسهو عن تلك الأعمال الخطيرة للقذافي، أن جمال عبد الناصر “كان يتصل بنا في مجلس قيادة الثورة، ويطالبنا بإعلان معمر القذافي رئيساً للمجلس، وكان يقول لنا صراحة: إذا لم تعلنوا هذا، فسوف يكون هناك خطر على الثورة، وقد تتعرض للسرقة“.
لهذا، يقول جلود، “قررنا، أخيراً تحت ضغط عبد الناصر، إعلان أن معمر القذافي هو رئيس مجلس قيادة الثورة وترقيته إلى رتبة عقيد، وكتبت بنفسي نص خبر الترقية وتعيينه رئيساً لمجلس قيادة الثورة في 8 سبتمبر 1969، ثم سلمت النص إلى الإذاعة“.
والغريب، أن جلود الذي لا يفحص معلوماته أو يقلبها، لا يسأل لماذا ضغط عبد الناصر. وهو، أي جلود، لا يفعل ذلك، ليس لتبرئة مَن يعتبره “رمز العروبة والأمة” على الأقل من شبهة المخدوع بالقذافي فحسب، بل لأنه بات يرى القذافي “طاغية” ومخادعاً ولا يتردد في ما يدعم ذلك.
ويتذكر جلود أيضاً: “في الأسابيع الأولى للثورة، كنا نمارس مهماتنا من مبنى وكالة الأنباء الليبية والإذاعة كذلك. في هذا الوقت، بدأ بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة يمارس ضغوطاً من أجل الإعلان عن أسماء أعضاء المجلس، وكان معمر يقاوم هذه الضغوط مُعللاً الأمر بشتى الأسباب، حتى قال صراحة ذات يوم: “من مصلحة الثورة ألا نعلن الآن عن أسماء أعضاء المجلس“، لكن لم يكن أحدنا مقتنعاً بكلام معمر. وفي حين كنت في زيارة سريعة لفرنسا، دخل معمر إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية بسيطة، فبادر أعضاء المجلس إلى الإعلان عن الأسماء… وكان هذا بمبادرة من إمحمد المقريف“.
وإذا كان جلود يريد من خلال هذه الحادثة التدليل على أن القذافي لا يريد بروز آخرين رغبة منه في الاستحواذ على السلطة، فإنه يسندها، في مواضع أخرى، بحكايات متفرقة في سياق رسمه أبعاداً كانت خفية في شخصية القذافي “الطاغية” والمخادع والشيطاني. يروي: “كان الأخ معمر يأتي لزيارتنا في طرابلس كل يوم خميس، ثم يعود مساء الجمعة، وكنا نمضي عطلة الأسبوع معاً. كان يعيش وينام في منزلنا في زنقة أبو وذينة بشارع بن عاشور كأنه من أفراد الأسرة. في خريف هذا العام (1962)، وفي أحد أيام الجمعة، وبينما كنا نتناول طعام الغداء – وعادة ما يكون ذلك في وقت متأخر – وكان وجبة شعبية تسمى البازين، ارتفع أذان العصر، فتوقف معمر عن تناول الطعام قائلاً: “أريد أن أصلي“. فغضب أخي عمر وقال له: “هذا ليس إسلاماً. في إمكانك أن تصلي العصر إلى ما قبل المغرب“، ثم قال له: “يا معمر أنت تدعي أنك ملاك، ولكن أنا خائف يوماً أن تطلع شيطاناً (أي يظهر على حقيقته)” .
كذلك يتذكر جلود: “في أواخر الثمانينيات، كنت أنا ومعمر في منطقة جهنم التي تقع جنوب شرقي مدينة سرت، وقد عُرفت بهذا الاسم لارتفاع درجة حرارتها في فصل الصيف. وبينما كنا نتجاذب أطراف الحديث، ونستعيد ذكريات الماضي، جاء وقت صلاة المغرب، فقمنا للصلاة، وأمنا معمر، وكنت خلفه قليلاً، فلاحظت أنه لم يسجد بشكل صحيح، فقلت له: “اسجد صح يا رجل“، لكنه لم يُعر طلبي أي اهتمام. وبعد الصلاة قال لي: “أنا لا أريد أن أفقص لأحد، حتى لربي، أي إنني لا أريد أن أنحني لأحد حتى لربي” .
العلاقة الشخصية والخلافات
وفي حادثة تشير إلى علاقته الشخصية بالقذافي، وهي لا تنفصل عن رسمه ملامح شخصية “الرجل الأول” وعرضه أساليبه في الحكم المفسد، يقول جلود الذي يحرص على تصوير نفسه في موقع الثوري والنقي والشعبي والصادق ونقيض القذافي: “في مطلع الثمانينيات، وحين بدأت بوادر الخلافات مع معمر، أخذ معمر يشعر بالضيق وربما الغيرة من وجودي وسط الناس، وكان يقول لي: “يا عبد السلام، خلينا نبني لك استراحة خاصة على شاطئ البحر في أي مكان ترغب فيه“، فرفضت الفكرة من أساسها، لأنني كنت أدرك أنه يريد ضرب صدقيتي، ولأن كان لمعظم الضباط الأحرار والوزراء والقيادات الشعبية وقيادات اللجان الثورية إما استراحات خاصة، وإما كانوا يقيمون في المدن السياحية” .
بعد ذلك، تتراجع الإشارات المماثلة إلى القذافي “الماكر” وشخصيته “الخبيثة“، ليحضر “الطاغية” في السرد فحسب. والبطل في سرد مذكرات جلود هو جلود نفسه. حتى أنه يروي وقائع يبدو فيها صاحب القرار ولا “رجل أول” فوقه. في حين كان رئيساً للوزراء لكنه انشغل عن مهماته في بلده لمواجهة المؤامرة التي تُحاك ضد سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. وفي هذه الأثناء، يحضر القذافي بوصفه صديقاً وشريكاً أكثر منه زعيماً أو رئيساً. يروي جلود: “إن قرار بقائي 58 يوماً كان قراراً شخصياً، وكان معمر معارضاً لبقائي خارج ليبيا كل هذا الوقت، وبخاصة في لبنان، وكان خائفاً علي، بل إنه رفض أن يتحدث معي هاتفياً. وقال لأبو بكر يونس: “سأتحدث مع عبد السلام فقط لما يعود من دمشق، وأن يعدني بأنه لن يذهب مرة أخرى إلى بيروت” .
وعلى الرغم من ذلك، لا يتوقف جلود عن تعرية القذافي وشخصيته وفضح أساليبه في تشييد سلطته معتمداً التجهيل والإفقار والقمع. فالقذافي في مذكرات جلود هو “الطاغية” الذي منع بناء الدولة، وهو مَن احتقر المجتمع وفتته وسلط الفاسدين والسيئين عليه، وهو مَن زرع الشك بين الناس ومَن أفقدهم الثقة بأنفسهم وبالآخرين، وهو مَن حرص على منع اجتماع الطلاب وتنظيم العمال، إذ يعتبر هؤلاء أعداءه وخطراً عليه.
السجل الأسود: الصدر والكيخيا
إضافة إلى ذلك، وأثناء رواية جلود مذكراته في ربع قرن شهد أحداثاً ساخنة في المنطقة والعالم، وأثناء عرضه لإنجازات “الثورة” قبل أن ينهيها القذافي معنوياً وأيديولوجياً في مطلع الثمانينيات بقتل “رفاق الدرب” ومعارضين له، يفتح جلود بين حين وآخر السجل الأسود للقذافي.
يروي: “كنت أستمع إلى إذاعة الشرق، وفوجئت به (منصور الكيخيا بعد انتقاله إلى صفوف المعارضة) وهو يدلي بتصريح يقول فيه: “على أميركا أن تأتي بدباباتها وطائراتها لتقلع القذافي من ليبيا“. بعد هذا التصريح، تأكد لي أن القذافي سيقوم بتصفية الكيخيا، ذلك أن تصريحات من هذا النوع سوف تعطي الغطاء الضروري للولايات المتحدة للقيام بعمل عسكري لإسقاطه، ولذا اتصلت على الفور بـ عاشور قرقوم وهو صديق مشترك بيننا، وطلبت منه أن يحضر لزيارتي في منزلي بالمصيف. وحين حضر، طلبت منه أن يتصل بمنصور الكيخيا ويقول له أن يكون حذراً، لأن القذافي سيقوم بتصفيته، وطلبت منه أيضاً أن يتصل بزوجة الكيخيا وإخوته لإبلاغهم خطورة الموقف. وللأسف، حدث بعد أيام قليلة أن سافر الكيخيا إلى القاهرة عام 1993 لحضور اجتماع المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وهناك اختفى. في الواقع، اعتقلته المخابرات المصرية بناءً على طلب القذافي وقامت بتسليمه” .
وباختصار لا يخلو من وضع نفسه خارج قفص الاتهام ولا يفوت الفرصة لتقديم نفسه باعتباره قادراً على مواجهة القذافي ونقده ومعارضته بلا خوف.
يروي جلود متهماً “الطاغية” بـ“قتل” الإمام موسى الصدر: “خلال احتفالات الفاتح من سبتمبر (أيلول) كل عام، يحضر العديد من الوفود الرسمية والحزبية والشخصيات المرموقة. في كل عام، وقبيل بدء الاحتفالات بأسابيع، يجتمع معمر بمدير المراسم وكذلك بمسؤول العلاقات مع الأحزاب والمنظمات في العالم أحمد الشحادتي، ويبلغهما أسماء الشخصيات التي يرغب في حضورها.
في احتفالات الفاتح من سبتمبر 1978، كان الإمام موسى الصدر من بين الشخصيات التي دعاها القذافي. وفي الواقع، لم أكن أعرف أن القذافي دعا الصدر لزيارة ليبيا، إلا بعد أن أعلنت وكالات الأنباء اختفاءه. ما إن سمعت بالنبأ، حتى اتصلت هاتفياً بـ أحمد رمضان مدير مكتب القذافي وطلبت منه أن يوصلني هاتفياً بمعمر لأتحدث معه، وكنت في حالة غضب شديد. قلت له: “ما هذه الجريمة الشنعاء التي ارتكبتها؟ هل من المعقول أن تدعو شخصاً وهو في ضيافتك وفي بيتك، باعتبار ليبيا هي بيتنا الكبير، ثم ترتكب هذه الجريمة؟ هذا ليس من الشهامة والمروءة والرجولة. إنه عمل خسيس وغير أخلاقي ومدمر“.
فقال لي بغضب: “أنت تتهمني بقتل موسى الصدر؟ برا دور عليه (اذهب وابحث عنه) أنا لا أعرف عنه أي شيء“، ثم أغلق سماعة الهاتف في وجهي. وهذه الواقعة ذكرها أحمد رمضان عند التحقيق معه بعد سقوط النظام.
“ثم اتصلت بمدير الأمن الداخلي العقيد محمد الغزالي، وقال لي: “أنا لا علم لدي بهذه القصة. ما أعلمه هو ما تقوله وكالات الأنباء“، ثم اتصلت بـ أحمد خطاب، وهو مسؤول الأمن في صالة كبار الزوار في المطار، وقلت له غاضباً: “عليكم أن تخرجوا لي الإمام موسى الصدر من تحت الأرض وإلا فسوف أعدمكم جميعاً“، وهذا ما قاله خطاب في صفحته على “فيسبوك“. وبعد ذلك، علمت أن القذافي طلب من أجهزة الأمن أن تختار شخصاً بحجم وطول الإمام الصدر، ليتقمص شخصيته ويلبس ملابسه ليغادر إلى روما. وبالفعل رشحت له أحد الضباط وهو برتبة عقيد في الأمن الداخلي اسمه إمحمد علي المبروك الرحيبي.
وفي هذا السياق، أذكر أن معمر، خلال لقاءاتي معه، كان يقول لي دائماً إنه يرفض ويعارض بشدة أن تتولى شخصية شيعية إيرانية زعامة الشيعة العرب في لبنان أو العراق، وكان يقول: “الإمام الصدر هذا إيراني، وإنه مدسوس في الطائفة الشيعية، وإن قيادة الشيعة في العالم العربي يجب أن تكون قيادة عربية“.
“سخافات” لوكربي وعمليات الاحتيال والنصب
أما قضية لوكربي فيفرد لها جلود، الذي كان “الرجل الثاني” في الصورة الخارجية لليبيا وعلاقاتها وسياساتها، فصلاً يبتعد فيه نسبياً عن أزمة اتهام الولايات المتحدة ليبيا بتفجير طائرة “بان أميركان” (1988).
ويروي كيف كان الوحيد من قادة بلاده، بما في ذلك القذافي، الذي لم يسيطر عليه الخوف “إلى درجة فقدان التوازن” . ويقول إنه بعدما اجتمع مع “بعض الضباط الأحرار وضباط أجهزة الأمن والقيادات العسكرية وعناصر من حركة اللجان الثورية والقيادات الشعبية“، ذهب للقاء “معمر، فوجدته في حالة معنوية ونفسية سيئة. كان يعتقد أن كل شيء انتهى والمسألة مسألة وقت. كان يرتعد خوفاً وهلعاً، وبدا لي منهاراً انهياراً تاماً، فقلت له: “أميركا لن تقوم بأي عمل عسكري لاحتلال ليبيا وإسقاط النظام، كما أنها لن تفرض علينا حصاراً بحرياً، بل لن تنجح في فرض حظر دولي على النفط الليبي“. فقال لي: “هؤلاء الجبناء أثاروا الخوف في قلبي، حرقوا أعصابي. ركبوا ليا الضغط“، فقلت له: “المنطقة العربية لا تحتمل عراقاً آخر، كما أن أوروبا لا يمكن أن توافق على حظر النفط الليبي، على الأقل قبل أن يعود نفط العراق إلى السوق. إن حظراً نفطياً يعني على الأقل زيادة في أسعار النفط في حدود 10 دولارات، فضلاً عن أن للنفط الليبي ميزة فريدة هي نوعيته، وبعض المصافي في أوروبا مصممة على أساس مواصفات النفط الليبي” .
والأخطر من ذلك هو ما يرويه جلود الذي يتفوق على “رفاقه” بخبرته الدولية عن عمليات احتيال وابتزاز ونصب استجابت لها القيادة الليبية أثناء سعيها للخروج من الأزمة والمواجهة مع الولايات المتحدة. ومنها أن “مجموعة من السماسرة الليبيين والإنجليز اتصلت بالعقيد عبد الفتاح يونس، وقالت له: “إذا ما دعمت ليبيا الجنيه الإسترليني، وحولت من احتياطاتها مليار جنيه، فإن الحكومة البريطانية ستوافق على الحل“. وللأسف، أمر الأخ معمر بالتحويل، ولكنني سارعت إلى وقفه” .
ومنها أيضاً “زعم مجموعة أميركية أن لها علاقة بدوائر صنع القرار في واشنطن، وإذا ما دفعت ليبيا 1700 مليون دولار، فسوف تحل أزمة لوكربي. في هذا الوقت قام الأخ معمر بإرسال محمد أبو القاسم الزوي لمقابلة هذه المجموعة في إسبانيا. المفارقة أن الذين رتبوا لهذا اللقاء هم ضباط في المخابرات الإسبانية. وبالفعل، اتفق محمد الزوي معهم، ولكنني اعترضت وأمرت بوقف العملية” .
وبعد، “في عام 1992، زارنا الرئيس (المصري) حسني مبارك. كنا في استقباله أنا ومعمر وأبو بكر يونس. وعند وصولنا إلى قصر الضيافة، جلسنا جميعاً في الصالة. فجأة نهض مبارك وقال لنا حرفياً: “المطلوب منكم أن تتغيروا بالكامل“، ثم أردف: “ليس تغييرات شكلية، لازم تتغيروا وتقوموا بتغييرات حقيقية“. ثم وجه كلامه إلي، قائلاً: “أما أنت تمشي تروح. امش خذ لك سم أو انتحر، أو خذ لك قارب أو اغرق نفسك في البحر، حرقت أعصابنا وبتودي الأمة في داهية“. لم يرد الأخ معمر على كلام مبارك، فنهضت وقلت: “لم يكن والدي رئيساً أو ملكاً، إذا كان ذهابي في مصلحة الشعب الليبي، وفي مصلحة الثورة، فأنا مستعد للذهاب. وإذا كان هذا طلب أميركا، فأميركا لم تعينني. أنا لست موظفاً في وكالة المخابرات الأميركية مثلك“. إثر هذا النقاش الساخن، بدأت الصحف المصرية شن حملة عنيفة ضدي، وأعتقد أن مبارك اتفق مع معمر على إظهاري متطرفاً ويسارياً وتقدمياً ومعادياً للولايات المتحدة“.
يضيف: “بالفعل أخذ مبارك يروج لهذه الصورة، وبذل جهداً لإقناع الدول الأوروبية والولايات المتحدة، بل أدلى بتصريحات في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا قال فيها، إن عبد السلام جلود هو الإرهابي الخطير، وإذا لم تساعد الدول الأوروبية وأميركا القذافي، فإن البديل هو جلود” .
انتقام جلود
بعد ربع قرن من الشراكة في الحكم، ومن موقع “الرجل الثاني“، لا يقرأ جلود تجربته نقدياً، بل يغسل يديه من الأخطاء كلها ويضعها على عاتق “الطاغية” وأزلامه.
ولا ينفصل هذا عن تقديم جلود نفسه نقيضاً للقذافي، فهو ثوري وإصلاحي، بينما القذافي “طاغية” وتدميري، وهو مع ثورة الشعب، بينما القذافي مع العسكرة، وهو شعبي بينما القذافي يكره الشعب ويحتقره ويريد استبداله بأشخاص “مرتزقة” لا يكونون مجتمعاً ولا يشكلون خطراً عليه، وهو يرفض قتل المعارضين و“رفاق الدرب” بينما القذافي يرسل رجاله وراء هؤلاء، وهو “ناكر للذات” بينما القذافي “شخص مريض“، وهو من يستقيل بينما القذافي يتصل به ليعيده، وهو مبادر ونشط على الصعيد الخارجي والدولي بينما القذافي في خيمته يحيك المؤامرات لتثبيت سلطته… الخ.
وإضافة إلى هاجس تبرئة الذات الذي يحكم المذكرات، يعاني السرد من مشكلة أنه لا صوت يعلو فوق صوت الذات. فجلود يروي الأحداث كما رآها وعاشها هو، بل كما بات يتذكرها ويتخيلها ويتصورها. والمحور دائماً هو ذاته. فلا يعود إلى مرجع أو أرشيف أو رواية أخرى لشخص آخر. ما يُضعف النص وصدقيته، خصوصاً أن أحداثاً عديدة فيه لم تُفحص وتُدقق.
فمثلاً، في مذكراته عن حرب لبنان تتشوش التواريخ والأزمان والأحداث على جلود. ويروي أنه اجتمع بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982 بكمال جنبلاط الذي اغتيل في 1977.
ومن عوارض عزلة الذات وتضخيم دورها، ما يرويه عن طلب حافظ الأسد منه التدخل في حل مشكلة انقلاب شقيقه رفعت عليه . في حين هناك روايات أخرى، منها ما يسرده فاروق الشرع في كتابه “الرواية المفقودة“، التي تجعل من دور جلود هامشياً وربما مالياً فحسب.
ولا يطعن هذا في أدوار الرجل أو حيويته وعفويته، إنما السؤال لماذا لم تُحقق المذكرات وتُفحص وتُغنى وتُوثق وتُهذب ذاتيتها، مع الحفاظ على براءتها المستمدة من شخصية جلود؟
ونعود إلى انقلاب “الرجل الثاني” على “الرجل الأول” في ليبيا.
فالانقلاب مرتبط بذات جلود، أو أناه، إذ جعل جلود نفسه، في المذكرات حيث ينبع السرد من الأنا ويصب فيها، “الرجل الأول“، بينما القذافي “الرجل الثاني“، أو الآخر النقيض على الأقل.
وهنا، في هذا الفعل المتمحور حول الذات يكمن انقلاب جلود على القذافي وانتقامه منه وتطهره من أفعاله وصداقته و“خيانته” مبادئ الثورة التي يصر جلود على استعادتها وتكرارها بحماسة الشاب الذي كانه، يقول إنه لم يخنه.
____________