توفيق عبدالصادق

خلاصة

تبحث الدراسة قضايا الحقوق والحريات في الدساتير العربية الجديدة، مركزةً على حالتي المغرب وتونس كتجربتين سياسيتين لانتفاضات واحتجاجات المنطقة العربية أواخر 2010 وبداية 2011، أفرزت كلتاهما تطورًا دستوريًا تمثل في الإصلاح الدستوري بالمغرب (يوليو 2011)، ووضع دستور جديد بتونس (يناير 2014). تكمن أهمية الدراسة في استكشاف قدرة المسار الدستوري بالبلدين –بعد مرور سنوات ليست بالقليلة– على تلبية مطالب المواطنين في التمتع بمزايا الحقوق ومناخ الحريات التي جاءت بها الدساتير الجديدة ونصت فصولها عليها، وإن كانت تختلف من حيث مساحة تلك الحقوق والحريات بين البلدين، وكذا في درجة ديمقراطية كل منهما. الدراسة تسعى للإجابة عن سؤالين محوريين،

الأول: ما مدى احترام دستور 2011 بالمغرب و2014 في تونس، للصكوك الدولية التي تم المصادقة عليها في إطار منظمة الأمم المتحدة، بهدف حماية حقوق الإنسان وصيانتها؟

والثاني: ما هي الضمانات الدستورية المؤسساتية، وكذا الفعلية على مستوى الواقع المعيشي للتمتع بهذه الحقوق؟ نتائج الدراسة أوضحت أن وضعية حقوق الإنسان بالبلدين من ناحية ضمان الحقوق في شقيها الاقتصادي والاجتماعي، لم تسجل أي تقدم أو تحسن ملموس عن الفترة السابقة لوضع دستور تونس الجديد وإدخال إصلاحات على دستور المغرب.

مقدمة

أهمية النظر لقيمة التحولات السياسية والتجارب الدستورية التي عاشتها بعض الدول العربية، زمن ما بات يطلق عليه “الربيع العربي”، تتجلى في جزء كبير منها، بتناول التغيير في قضايا الحقوق والحريات، وفي مدى قدرة الدولة العربية الحديثة، التي تشكلت في فترة ما بعد الاستقلال، على الاستجابة لأهداف مجتمعاتها وتطلعات أفرادها.

وقد ازدادت الحاجة على الطلب الشامل لحقوق الإنسان، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية –التي لا تنفصل عن باقي الحقوق والحريات السياسية– من قبل الشعوب العربية، لاسيما بعد أن كشفت الاحتجاجات في تونس والمغرب عبر ثورة السابع عشر من ديسمبر عام 2010 وحركة العشرين من فبراير عام 2011، بأنها كانت تعبيرًا عن الاختلالات البنيوية، التي صاحبت قيام مشروع بناء الدولة الوطنية، وكذا نتيجة للأوضاع الاجتماعية، المرتبطة أساسًا بالمحددات السوسيولوجية للظاهرة الاحتجاجية، كالفقر والبطالة وكل أنواع التهميش والإقصاء.

إن دراسة وفحص دساتير بلدان الحراك العربي في موجته الأولى –تشهد حاليًا بلدان عدة احتجاجات مشابهة كموجة ثانية– وتناولنا للتجربة الدستورية في كل من المغرب (دستور التاسع والعشرين من يوليو عام 2011) وتونس (دستور السابع والعشرون من يناير عام 2014)، في ضوء الاطار المعياري للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، سواء ما جاء به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، أو ضمن ما تم صياغته من حريات وحقوق في العهدين الدوليين، الأول الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966)، والثاني الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966)، بالإضافة إلى المطالب المرفوعة فيما يُعرف بالجيل الثالث لحقوق الإنسان. يجعلنا نقف على نقاط وإشكاليات حقيقية تتمثل في تفعيل وإعمال قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان للانتقال بها من النظرية إلى التطبيق، إذ لا يعد كافيًا مجرد الإشارة لحقوق الإنسان في صلب النظام الدستوري للدولة، بل يجب أن تسري وتسود في العلاقات بين الأفراد والجماعات، ويتم الأخذ بها في عملية صنع القرار من خلال دمجها في السياسات العامة للدولة.

تاريخية تناول الفكر الدستوري لقضايا الحريات والحقوق يمكن إرجاعها لكتابات أرسطو(384 –322 ق.م.) مؤسس ما بات يُعرف حديثًا بالقانون الدستوري والأنظمة السياسية، أثناء تحليله وتصنيفه لدساتير أكثر من 158 مدينة/دولة من نماذج المدن عند اليونان، وأبرزها دستور مدينة أثينا. إن سعي المجتمعات البشرية نحو نيل الحقوق الأساسية والتطلع للحرية، في ظل ثنائية المعادلة القائمة على التوفيق بين الحرية المطلقة وقيد السلطة الضروري لتنظيم المجتمع، لم يكن ليتوقف عند اليونان مع دولة المدينة، بل تواصل مع حضارات قديمة أخرى كالرومان وغيرهم، كما أنه شكّل عصّب القضايا لدى مختلف الديانات، ومن ضمنها الإسلام، باعتبار أن القرآن شكل دستور الأمة وعلى هديه أُلزم الحاكم والمحكوم بالسير، وفيه تم الإعلان عن الحقوق ووضعت القواعد الأساسية لتسيير شئون البلاد والعباد.

قضايا الحقوق والحريات الإنسانية ستأخذ منحى مغايرًا ليشكل علامة فارقة في التاريخ الإنساني، نتيجة بداية تبلور المعالم الأولى للدولة المدنية، المبنية على إرادة الشعوب وحكم القانون الوضعي، المتجاوزة لسلطة الحاكم المطلق وفكر رجال الدين مع نموذج الملكية الدستورية في إنجلترا، حيث تم صياغة وثيقة “الميثاق الأعظم Carta Magna” سنة 1215 ميلادية، وفيها تم الاتفاق بين نواب البرلمان والملك “جون لاكلاند John Lackland/ 1166-1216م”، على تقييد سلطته المطلقة وتم إقرار حقوق الشعب.

استمر من وقتها تطور حقوق الإنسان في مسار لا متناهي، وسعيه للحصول على مزيد من الحقوق والحريات، خلال ما عُرف لاحقًا بعصر النهضة الأوربية وانتشار أفكار التنوير، مع كتابات فلاسفة ومفكري القرن السابع عشر والثامن عشر، (جون لوك، جان جاك روسو، دنيس ديدرو، دافيد هيوم…)، والتي أسهمت بشكل كبير في إرشاد الثورة الأمريكية 1776 والثورة الفرنسية 1789، أثناء وضعهما لما سمي بإعلان الاستقلال في أمريكا بمقدمته المعروفة “أن جميع الناس خلقوا متساويين وقد وهبهم الله حقوق معينة لا تُنتزع منهم، ومن هذه الحقوق الحق في الحياة والحرية والسعي لبلوغ السعادة…”، ودستور حقوق الإنسان والمواطن الصادر عن الجمعية التأسيسية الفرنسية بمواده السبعة عشر، وتنصيص مادته السادسة عشر على “أن كل مجتمع لا تؤمن فيه ضمانة للحقوق ولا يحد فيه الفصل بين السلطات هو مجتمع بدون دستور”.

تراكم نضالات الشعوب والمجتمعات؛ من أجل الرقي بإرادتها في تحقيق المساواة والعدالة، والتحرر من نير الاستغلال وكل أصناف الاستعمار والاستعباد، أثرت بدورها قيم ومضامين حقوق الإنسان، وقد تجلى ذلك بصورة خاصة، مع الإسهامات الكبيرة التي جاء بها الفكر الاشتراكي، وثورات الشعوب ضد المستعمرين، أواخر القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين.  وبالتالي فمن المؤكد أن صيرورة التاريخ الإنساني لن تتوقف، وستبحث عن إجابات وحلول كلما ظهرت تحديات تهدد الإنسان في كينونته ووجوده.

من أجل الإجابة عن أسئلة الدراسة سنعمل على تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء كمحاور كبرى، نتناول أولًا: الحقوق والحريات في دستور 2011 بالمغرب، ثانيًا: الحقوق والحريات في دستور تونس، وفي الجزء الثالث والأخير: سنحلل وضعية الحقوق والحريات لما بعد الدسترة من حيث دور المؤسسات وحكم القانون، وتطبيقات ذلك في حالة المغرب وتونس.

الحقوق والحريات في دستور 2011 بالمغرب

ارتأت اللجنة الاستشارية المعينة من قبل الملك محمد السادس (تولى الحكم منذ عام 1999)، بتاريخ العاشر من مارس 2011 والمكلفة بمراجعة الدستور السابق للمملكة لسنة 1996، أثناء افتتاح الباب الثاني المخصص للحقوق والحريات في الدستور الجديد، والذي صدر بتنفيذه مرسوم ملكي يوم تسعة وعشرون من يوليو 2011، على جعل (الفصل التاسع عشر) فصلًا جامعًا بشكل عام للحقوق الأساسية للإنسان، سواء تلك الواردة في الجيلين الأول والثاني وحتى الثالث، لتتولى بقية فصول الباب عرض تفاصيلها، وقد صيغ الفصل بهذا الشكل “يتمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها”.

استرسل بعدها دستور 2011 في ثنايا فصول الباب المخصص للحقوق والحريات، بجرد الحقوق والحريات التي يجب أن يتمتع بها المواطن المغربي “كالحق في الحياة” (الفصل العشرون)، وكذا “الحق في سلامة شخصه وأقربائه وحماية ممتلكاته…” (الفصل الواحد والعشرون). وبعدم جواز “المس بالسلامة الجسدية والمعنوية للشخص من قبل أي جهة كانت”، كما نهى عن “كل معاملة قاسية أو لا إنسانية أو مهينة أو حاطة بالكرامة الإنسانية”. معتبرًا “ممارسة التعذيب بكافة أشكاله، ومن قبل أي أحد، جريمة يعاقب عليها القانون”. (الفصل الثاني والعشرون).

حرص المشرع الدستوري المغربي على تنفيذ بعض توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، ومحاولة نهج سياسة القطع مع ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المغرب، والمرتكبة من طرف الدولة ضد معارضيها خلال ما يعرف بسنوات الجمر والرصاص خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، زمن حكم الملك الراحل الحسن الثاني (1961-1999). تجلت مؤشراتها بشكل بارز مع (الفصل الثالث والعشرون)، والذي شدد بأنه “لا يجوز إلقاء القبض على أي شخص أو اعتقاله أو متابعته أو إدانته، إلا في الحالات وطبقًا للإجراءات التي ينص عليها القانون. وبجعل الاعتقال التعسفي أو السري والاختفاء القسري، من أخطر الجرائم، وتعرض مقترفيها لأقصى العقوبات…”.

هذا الحرص تجلى أيضًا، مع فصول أخرى ومن بينها (الفصل الخامس والعشرون) “حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها…”. وكذا (الفصل الرابع والعشرون) الذي نص بأن “لكل شخص الحق في حماية حياته الخاصة وبأن لا تنتهك حرمة المنزل. ولا يمكن القيام بأي تفتيش إلا وفق الشروط والإجراءات التي ينص عليها القانون…” مؤكدًا في فقرته الأخيرة أن “حرية التنقل عبر التراب الوطني والاستقرار فيه، والخروج منه، والعودة إليه، مضمونة للجميع وفق القانون”.

بدوره (الفصل التاسع والعشرون) اعتبر “أن حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات، والانتماء النقابي والسياسي مضمونة، مع تركه للقانون شروط ممارسة هذه الحريات. إضافةً لنسخه ما جاء في الدساتير السابقة منذ 1962، والتي كانت تقول “بأن حق الإضراب مضمون وسيحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسته”.

وفيما يخص الحقوق التي كفلها دستور 2011، فقد وردت غالبيتها مجتمعة في (الفصل الواحد والثلاثون) وتم صياغتها على الشكل التالي: “تعمل الدولة ومؤسساتها مع الجماعات الترابية –تُسمى في بعض الدول العربية بمجالس المحافظات أو المحليات– على تيسير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات من العلاج والعناية الصحية، الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة، السكن اللائق، الشغل والدعم من طرف السلطات العمومية في البحث عن منصب شغل، أو في التشغيل الذاتي، الحصول على الماء والعيش في بيئة سليمة، إضافةً لتوفير مقومات التنمية المستدامة”.

هذه الحقوق يزكيها ما جاء في تصدير الدستور والذي يقول “إن المملكة المغربية، وفاءً لاختيارها الذي لا رجعة فيه، تسعى إلى بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، والتي تواصل بعزم على مسيرة توطيد وتقوية مؤسسات دولة حديثة، يتمتع فيها الجميع بالأمن والكرامة والمساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية ومقومات العيش الكريم في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة”. كل هذا مع تعهد الدولة المغربية، العضو العامل النشيط في المنظمات الدولية، بالالتزام بما تقتضيه مواثيق هذه الأخيرة من مبادئ وحقوق وواجبات، والتشبث بحقوق الإنسان بالشكل المتعارف عليه عالميًا.

إن تحليل محتوى الحقوق والحريات التي يفترض أن يتمتع بها المواطن المغربي، من خلال ما جاء في ثنايا دستور 2011 وبعد تفكيك بعض فصوله، يدفعنا للقول بأنه لا خلاف على أن دستور 2011 نص على مجموعة من الحقوق والحريات العامة، حيث تم تخصيص باب كامل (الباب الثاني) بعنوان الحريات والحقوق الأساسية، احتوى على اثنين وعشرين فصلًا، وفيه تم سرد مختلف أنواع الحقوق والحريات سواء تلك المرتبطة بالحقوق المدنية والسياسية، أو تلك المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية.

كما أنه حمل في طياته جملة من الامتيازات الجديدة لصالح أفراد المجتمع، وهيئاته المدنية، أبرزها، ما تضمنه (الفصل الخامس عشر) منه بشكل خاص وصريح، عندما نص على “منح المواطنات والمواطنين الحق في تقديم عرائض إلى السلطات العمومية”. وما جاء في الفقرة الثالثة من (الفصل الثاني عشر) “تساهم الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام، والمنظمات غير الحكومية، في إطار الديمقراطية التشاركية، في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها، وعلى هذه المؤسسات والسلطات تنظيم هذه المشاركة، طبق شروط وكيفيات يحددها القانون”. دون أن ننسى ما ورد في (الفصل الثالث عشر) “تعمل السلطات العمومية على إحداث هيئات للتشاور، بقصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين، في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها”.

إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا لا يتعلق بمدى اتساع مجال هذه الحريات والحقوق أو تقلصها كما يراها البعض، ولا حتى في مسألة ذكرها على مستوى أسمى قانون كما يظن أخرون، بل الحقيقة أن السؤال الجوهري، هو ذلك المرتبط بالضمانات التي منحها الدستور؟ وبعدم جعلها مبهمة ومطاطة تحتمل أكثر من معنى. وهذا ما يتضح عند التدقيق في محتويات الفصول وربطها ببعضها البعض، فبعد أن أسهبت فصول عدة في ذكر الحقوق والحريات، جاء الفصل (الواحد والثلاثون) على سبيل المثال، ليفرغها من أي التزامات أو ضمانات حقيقية، عندما اقتصرت مسئولية الدولة على تيسير الحصول عليها بدلًا من منحها كواجبات تقع على عاتقها تجاه مواطنيها.

على مستوى أخر، يطرح سؤال التصورات التي ستعطى لهذه الحقوق والحريات، حيث نجد الدستور الجديد يتناقض في ثناياه، فتصدير الدستور يقضي بأن المملكة المغربية، تؤكد تشبثها بحقوق الإنسان بالشكل المتعارف عليه عالميًا، وهذا يعني أن المدى الذي يرسمه الدستور لحقوق الإنسان هو عالمية هذه الحريات والحقوق، إلا أنه بمراجعة بعض الفصول نجده قلص من هذا المدى، بعدما ربط هذه الحقوق والحريات بمسألة خصوصية الهوية الوطنية الراسخة وثوابت المملكة.

اللافت للانتباه أيضًا، أن مواد وفصول دستور 1996، كانت متقدمة في طرحها لبعض الحقوق والحريات، على مستوى الضمانات والقيمة، وإن كانت غير موسعة، مقارنةً مع دستور 2011 الذي وسع من نطاقها وقلل من محتواها. على سبيل المثال، الصيغة التي جاءت بها الحقوق والحريات في دستور 1996 وخاصةً تلك الواردة في الفصل (التاسع والثالث عشر)، والتي تم التشديد فيها على كلمة “أن الدستور يضمن” بدلًا من عبارة “مضمونة” وما تحمله هذه الأخيرة من لين. واعتباره “الشغل والتربية حق” بمعنى أن الدولة ملزمة بمنح المواطن هذا الحق، بدل كلمة تعمل الدولة على تيسير الحصول على هذه الحقوق، كما وردت في دستور 2011 (الفصل الواحد والثلاثون)، والتي لا ترقى لمعنى الحق وتبقى بعيدة عن مبدأ الالتزام.

الحقوق والحريات في دستور 2014 بتونس

إن كتابة الدستور باعتباره إطارًا مرجعيًا لتنظيم الحياة السياسية للمجتمعات التي تعيش مرحلة انتقال من وضع سياسي إلى أخر، من بين النقاشات والمواضيع الأكثر إثارةً للجدل، والنقطة الجاذبة لشدة التباينات بين قوى المجتمع وأحزابه السياسية وتوجهات نخبه الأيديولوجية. هذا النقاش لم يكن ليغيب، وبالوتيرة الجدالية ذاتها، بين قوى المجتمع التونسي ونخبه السياسية والفكرية. ويمكن ملاحظة ذلك في تأخر المجلس الوطني التأسيسي في كتابة النسخة النهائية للوثيقة الدستورية لمدة تزيد عن السنة، بعد أن كان محددًا إتمامها أواخر عام 2012، وإصدار المجلس لأكثر من مسودة غير نهائية؛ نتيجة الملاحظات والانتقادات التي كان يبديها مختلف الأطراف. قبل أن يتمكن المجلس في النهاية من الإعلان عن الوثيقة النهائية للدستور الجديد يوم السابع والعشرون من يناير 2014، بعد المصادقة عليه يوم السادس والعشرون من يناير بنسبة 92% من أصوات أعضاء المجلس.

الحرص على مبدأ التوافق والمشاركة بدلًا من منطق الغلبة والصراع، هو ما أفضى بحفاظ الدستور الجديد على شكل الدولة المدنية كما ابتغاها دستور الجمهورية الأولى سنة 1959، وإن جاء متجاوزًا له في مستوى الإقرار الصريح بالاختيار المدني لشكل الدولة، عندما نص في (فصله الثاني) على أن “تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون، وبأنه لا يجوز تعديل هذا الفصل”. مع تأكيده في السياق ذاته على أن تونس دولة دينها الإسلام (الفصل الأول)، و”بأن الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية لجميع المواطنين، في إطار دولة القانون والمواطنة (الفصل السادس في فقرته الأولى).

الدستور التونسي الجديد الذي يحتوي على 149 فصلًا، والموزعة بنوده على عشرة أبواب، خصص الباب الثاني للتنصيص على الحقوق والحريات، (من الفصل واحد وعشرون وحتى الفصل التاسع والأربعون). ومن أبرز الحقوق تلك المرتبطة بقيمة حياة الإنسان ومتطلبات الحياة الكريمة كالحق في العمل والصحة والتعليم والعيش في بيئة سليمة، إذ شدد عليها جاعلُا من الفصول الثلاثة الأولى (21 -22- 23) أساسًا تقوم عليه باقي الحقوق في شكلها التفصيلي.

وهكذا ذكر (الفصل الواحد والعشرون) “المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز. تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفردية والعامة، وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم”. واعتبر (الفصل الثاني والعشرون) أن “الحق في الحياة مقدس، لا يجوز المساس به إلا في حالات قصوى يضبطها القانون”. بينما أكد (للفصل الثالث والعشرون) على حماية الدولة لـ”كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد، وتمنع التعذيب المعنوي والمادي. ولا تسقط جريمة التعذيب بالتقادم”.

وفيما يخص ما تم توفيره من حريات، غير الواردة في المبادئ العامة، فيبقى ما جاء في (الفصلين 31 و37) أكثرها قيمة وذو دلالة عميقة على زيادة منسوب الحرية في تونس ما بعد “بن علي”. (الفصل الواحد والثلاثون) نص على أن “حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة. لا يمكن ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات”، و(الفصل السابع والثلاثون) أقر بأن “حرية الاجتماع والتظاهر السلميـين مضمونة”.

الدستور التونسي حرص أثناء وضعه لضوابط ممارسة ما تم صكه من حقوق وحريات على جمعها في فصل واحد، بدلًا من إلحاق كل فصل من فصول الحقوق والحريات بضابط خاص من أجل ممارستها، كما هو الشأن في دساتير عديدة ومنها الدستور المغربي، وقد جاءت جملة هذه الضوابط مجتمعة في (الفصل التاسع والأربعون) “يحدّد القانون الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها. ولا توضع هذه الضوابط إلا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام، أو الدفاع الوطني، أو الصحة العامة، أو الآداب العامة، وذلك مع احترام التناسب بين هذه الضوابط وموجباتها. وتتكفل الهيئات القضائية بحماية الحقوق والحريات من أي انتهاك. لا يجوز لأي تعديل أن ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة في هذا الدستور”.

يتضح من خلال ما تم تحليله في الجزء الأول من هذه الورقة. أن الدساتير الجديدة في كل من المغرب وتونس، وعلى الرغم من الاختلافات في المدى الممنوح لقضايا الحقوق والحريات، والذي يرجع أساسًا إلى اختلاف سياقات التجربة السياسية للبلدين وطبيعة نظم الحكم السائدة، إلا أنهما تضمنا، في جزء كبير من البنود والفصول، قوانين من المرجعية الدولية لحقوق الإنسان، إضافةً لتوفيرهما كثير من المكاسب على مستوى الحريات، والتي غابت أو لم يتم التفصيل فيها بشكل دقيق في الدساتير السابقة للبلدين.

ومن أجل التمكن من تفكيك عناصر الموضوع وضبط اتساق عملية قراءة التجربة الدستورية للمغرب وتونس؛ حتى لا تبقى قضايا الحقوق والحريات التي صُكت في الوثيقة الدستورية، مجرد بنود وفصول جوفاء وباردة. سنعمل في الجزء الثالث من الورقة على معرفة مختلف المسارات القانونية والمؤسساتية التي تلت المسار الدستوري وكذا البرامج والخطط التنموية المواكبة له، لكي يتم تحقيق هذه الحقوق والحريات على أرض الواقع المعاش للمواطنين. خاصةً بعد مرور أكثر من ثمان سنوات على دستور 2011 بالمغرب وما يقرب من ست سنوات على إقرار دستور 2014 في تونس.

ما بعد دسترة الحقوق والحريات أي دور للمؤسسات وحكم للقانون؟

تفيد خبرات بعض التجارب الدستورية الدولية خلال العقود الثلاثة الماضية، والناتجة عن مسارات الانتقال الديمقراطي، سواء بأوروبا الشرقية أو أفريقيا مع نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي، أن مسألة وضع وكتابة الدستور ليس بالغاية المرجوة في حد ذاتها.

فمهما قلنا عن الدستور، وأطلقنا التوصيفات بدرجة ديمقراطيته من عدمها، ونسجنا من أحكام حول مبادئه ومرجعياته، فإن قيمته الأساسية والنوعية حسب الدراسات المواكبة لتطور الفكر الدستوري، تبقى معلقة بالأهداف والمسارات التي من الممكن أن يطرحها ويفتحها، في سبيل بناء الدولة الديمقراطية الحديثة. دولة المؤسسات وحكم القانون والفصل بين السلطات، الدولة التي يتم فيها تفعيل المواطنة وضمانات الاستفادة من الحقوق والحريات، عبر وضع الأسس الدستورية لمجالات تهم المجتمع بشكل أعمق، كالاقتصاد، التعليم والصحة وغيرها.

حالة المغرب

بعد اكتمال مسار الإصلاح الدستوري وإقرار النص النهائي عبر استفتاء شعبي في يوليو 2011، مع تسجيل حالة من الاعتراض والرفض، من قِبل حركة (عشرين فبراير) الاحتجاجية والقوى السياسية والمجتمعية الداعمة لها؛ باعتباره دستورًا ممنوحًا، ولا يختلف من حيث الجوهر والقيمة عما سبقه من دساتير. جاءت خطوة الدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة يوم خمسة وعشرون من نوفمبر عام 2011، كخطوة مكملة لسلسلة الإصلاحات الدستورية، وهي الانتخابات التي صوت فيها حوالي 45% من نسبة المسجلين في اللوائح الانتخابية (المسجلون 13 مليون من أصل 21 مليون ممن لهم الحق في الانتخاب)، وأسفرت عن تصدر حزب العدالة والتنمية ذو التوجه الإسلامي لنتائجها (107 مقعد نيابي من أصل 395).

الحصيلة المسجلة منحت الحق للحزب بتشكيل الحكومة في الثالث من يناير 2012، بعد إسناد رئاستها للأمين العام وقتها عبد الإله بن كيران والمعين من قبل الملك، تطبيقًا لما جاء به الدستور الجديد والذي ينص في (فصله السابع والأربعون) على “تعيين الملك لرئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها”. في أول تجربة حكومية يدخلها الإسلاميون، أو ذلك الجزء منهم الذي قبل بالمشاركة السياسية، في إطار ما يفرضه النسق السياسي المغربي من قواعد وحدود، بالرغم من مشاركة الحزب في الحياة السياسية منذ سنة 1997 ودخول أعضاؤه للبرلمان.

توقعات المغاربة من حكومة حزب العدالة والتنمية ورئيسها عبد الإله بن كيران كانت عالية، سواء من ناحية إرجاع الثقة بالعمل السياسي وأهمية المشاركة الحزبية والشعبية في صناعة القرار، أو فيما يخص ذلك الجانب المعني بالمطالب والحقوق الاقتصادية والاجتماعية الملحة، والمرتبطة أساسًا بتحسين الدخل الفردي وفرص العمل، ووقف تردي الوضع الصحي والتعليمي، وهي الأسباب التي جعلت المغرب يحتل مراتب متأخرة في تصنيف مؤشرات التنمية البشرية عربيًا ودوليًا. لاسيما أن هذه التوقعات من الحكومة الجديدة، جاءت في سياق دينامية الشعوب والمجتمعات المنتفضة إبان ما عرف بالربيع العربي وبروز حركة عشرين فبراير في المغرب، فضلًا عن الاعتقاد بأن دستور 2011 منح صلاحيات جديدة مهمة للحكومة ومساحات أكبر للاشتغال والحركة لم تكن تتوافر للحكومات السابقة، بعدما أتاح لها ممارسة مهام السلطة التنفيذية بشكل صريح.

غير أن جزء كبير من هذه التطلعات والتوقعات، لم يتحقق على مستوى الواقع، حيث انتهت ولاية حكومة عبد الإله بن كيران مع الانتخابات التشريعية في أكتوبر 2016، وها نحن اليوم على مشارف نهاية سنة 2019 ومرور أكثر من نصف ولاية حكومة سعد الدين العثماني (2016-2021)، دون تسجيل أي تحسن اقتصادي واجتماعي فارق في حياة جزء كبير من فئات وطبقات الشعب المغربي، فضلًا عن تحقيق أي تقدم ملموس في مزايا التمتع بالحقوق، التي أقرها الدستور الجديد مقارنةً بالفترة السابقة على إقراره.

استمر المغرب في مرتبة متأخرة في تصنيف تقرير مؤشر التنمية البشرية، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP ؛ إذ تراوح مركزه خلال الفترة من 2011 وحتى 2018 بين 119 و 130 من بين أكثر من 180 دولة يشملها التقرير. مستقرًا حسب أرقام أخر تقرير للبرنامج في 2019 في المركز 121، بمعدل 0.676 في مؤشر التنمية، وبمتوسط دخل فردي 7.480 دولارًا، متأخرًا عن تونس والجزائر اللتان احتلتا المراكز 91 و82 على الترتيب.

على المستوى السياسي، وفي ضوء تجربة إصلاحات 2011 الدستورية، لم تحقق الحكومة –سواء في نسختها الأولى مع رئيسها عبد الاله بن كيران أو بنسختها الثانية والحالية برئاسة سعد الدين العثماني– أية إنجازات أو تغيير سياسي مؤثر، سواء ارتبط ذلك بقدرتها على ممارسة السلطة كشريك حقيقي للمؤسسة الملكية صاحبة السلطة الفعلية (بحكم الدستور وبقوة البنية النسقية لنظام الحكم)، أو ارتبط بحجم النفوذ الذي حققته في تدبير صلاحيتها كسلطة تنفيذية، بما يسمح بإعادة الاعتبار للعمل السياسي من داخل المؤسسات وتشجيع المغاربة على المشاركة في الانتخابات. ويُحسب للرئيس السابق عبد الإله بن كيران في هذا الجانب، إدخال خطاب ولغة تواصل جديدة، عدّل بموجبه من النمط السائد المتعالي في خطابات وطريقة تواصل النخبة السياسية ورجال السلطة مع المواطن، من خلال تبسيطه و جعله أقرب إلى الناس وأكثر تفاعلًا معهم.

تشهد وضعية حقوق الإنسان في المغرب حاليًا تراجعًا يمس جانبًا مهمًا من الحريات التي منحها الدستور كحرية التعبير والحق في التظاهر والاحتجاج…، والذي سبق ووضحنا أنه لا يوفر الضمانات الحقيقة لتفعيلها، وبأنها ستبقى رهينة، بشكل كبير، للتفسيرات الدستورية، المعتمدة على تحليل بنية النص الدستوري ومفرزاته الديمقراطية. والتي تتجاوز الشكلانية القانونية، حتى ندرك عناصر صنع القرار المرتبط بحكم القانون ومبدأ المحاسبة، وقيمة العمل المؤسسي المستند على مبادئ توزيع واستقلال السلطات.

يتضح ذلك في حملات الاعتقال والأحكام النهائية القاسية التي تعرض لها نشطاء احتجاج مدينة الحسيمة ومنطقة الريف (شمال المغرب) في السادس والعشرين من يونيو  2018، والتي شملت عشرات الأشخاص، وبلغت الحبس لعشرين سنة لبعض قادة الحراك، والذي بدأ أواخر شهر أكتوبر عام 2016، بعد مقتل بائع للسمك في شاحنة لنقل النفايات.  وكذلك سجن أخرين بمدينة جرادة (شرق المغرب) والحكم عليهم يوم سبعة عشر من مارس عام 2018، بأحكام تتراوح بين عامين وأربعة أعوام،  نتيجة احتجاج سكان المدينة أواخر سنة 2017 على وفاة شباب يعملون في استخراج الفحم في أبار تقليدية، لا تتوافر فيها شروط السلامة، وفقدانهم الأمل في الحصول على فرص عمل أفضل.

بالإضافة لحملة من المتابعات القضائية والعقوبات الجنائية، للعديد من الأشخاص خلال أعوام 2018 و2019، من بينهم كتاب صحفيين ومدونين على مواقع التواصل الاجتماعي، بتهم المس بالمقدسات والضرب في ثوابت المملكة والتشكيك بمؤسساتها، بعد أن عبروا عن آراءهم في اختيارات الدولة التنموية والسياسية، مع إشارة بعضهم للمسئولية المباشرة للملك، عن الفساد المالي المستشري في جميع القطاعات بالبلاد، وازدياد الفجوة الطبقية بين أقلية مستفيدة من امتيازات السلطة ومحتكرة للثروة والمنافع العامة، وأكثرية من فئات وطبقات الشعب المتوسطة والدنيا تعاني من انحدار في قدرتها الشرائية وتقاوم التهميش والفقر.

كل هذه المعطيات والمتغيرات تكشف أننا إزاء انزلاقات وتوظيفات من قبل السلطة والحاكمين للسياقات التاريخية وميزان القوى السياسي، في مواجهة الأصوات المنتقدة والمعارضة وفي مسألة تعاطيها مع قضايا الحقوق والحريات، أكثر منها تعبيرًا عن إرادة سياسية واضحة وصارمة في الدفع باتجاه بناء الدولة الديمقراطية، حيث يسود فيها القانون وحكم المؤسسات.

فالمغرب ومنذ تجربة حكومة التناوب التوافقي سنة 1998، الناتجة عن التوافقات والترتيبات السياسية بين الملك الراحل الحسن الثاني وجزء مهم من المعارضة، ممثلًا في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والتي أفضت لمنحه قيادة الحكومة تحت رئاسة أمينه العام آنذاك عبد الرحمان اليوسفي، ورغم مرور عقدين من الزمن على العهد الجديد مع حكم الملك الحالي (1999-2020)، وما رافقه من مشاريع اقتصادية وإصلاحات تنموية وحقوقية، (التحسن الكبير في البنية التحتية، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة…).  إلا أنه لا يزال يراوح في منطقة ضبابية وسطى بين السلطوية والانتقال نحو الديمقراطية، يتقدم أحيانًا خطوة لكنه سرعان ما يتراجع عنها.

تتضح هذه المراوحة في تقارير وتوصيات المنظمات الدولية المكلفة والمهتمة بحقوق الإنسان والديمقراطية، فبينما نجد على سبيل المثال نوعًا من الإشادة بجهود المغرب في النهوض بجزء من الحقوق والحريات الأساسية، وأخرها ما صدر عن اللجنة الفرعية المناهضة للتعذيب التابعة للأمم المتحدة في شهر ديسمبر 2019 من تصنيف له في الدرجة الأولى (أ)، بعد اعتماده للقانون الخاص المنشئ للألية الوطنية للوقاية من التعذيب وتفعيلها من خلال منح ولايتها للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، كمؤسسة وطنية دستورية.

على الجانب الأخر، ترصد تقارير أخرى لمنظمات دولية ذات أهمية تخلف المغرب في تسجيل إنجازات ذات تأثير في سعيه نحو النهوض بحقوق الإنسان والحريات السياسية. على سبيل المثال، وضع تقرير منظمة “فريدوم هاوس” لقياس الديمقراطية والحرية في العالم لسنة 2018، والصادر في فبراير 2019، المغرب في خانة الدول الحرة جزئياً، والمرتبة الرابعة عربيًا، بعد منحه تسع وثلاثين نقطة من أصل مئة نقطة، استنادًا لمؤشرات ومعايير فاعلة (سير العملية الانتخابية، التعددية السياسية، الأداء الحكومي، حرية التعبير والاعتقاد، تشكيل وحقوق المنظمات المدنية، سلطة القانون، والحقوق الفردية).

حالة تونس

الحرص على إنجاز التحول السياسي عند التونسيين عبر المرجعية الدستورية، يحيل إلى فكرة أساسية، تعكس إلى حد كبير التجربة والخصوصية التونسية في العصر الحديث والمعاصر، وهي “تأصيل كل عملية تحول أو انتقال في مرجعية دستورية”.  فمنذ منتصف القرن التاسع عشر ومع بداية تشكيل الدولة الحديثة، تكرس مع التجارب السياسية في تونس، ما يشبه الخبرة أو التراث يقوم على محاولة الـتأسيس على وثيقة دستورية أو ما يماثلها، فهي البلاد الأولى عربيًا التي وضعت وثيقة دستورية سنة 1861، وإعلانًا للحقوق قبل ذلك في العام 1857.

خطوة إقرار دستور عام 2014، يعد أبرز خطوة قطعها مسار الانتقال نحو الديمقراطية في تونس ما بعد حكم نظام زين العابدين بن علي، حيث ترتب على أثره إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في السادس والعشرين من أكتوبر والخامس والعشرين من نوفمبر 2014 على الترتيب؛ لتنتهي المرحلة الانتقالية وتدخل البلاد في عملية تداول سلمي للسلطة.  ومما لاشك فيه أن هذا المسار قد تعزز، بالنظر إلى ما جاء به الدستور من مضامين ديمقراطية، فيما يخص شكل الدولة المدنية وطبيعة النظام السياسي، الذي يمزج بين خصائص النظام البرلماني والرئاسي، أو فيما يخص الضمانات المقدمة لأفراد المجتمع لممارسة الحقوق والحريات، وكذا على مستوى توزيع واستقلال السلطات بما يسمح بعدم تركزها بيد جهة واحدة.

على الرغم من هذا النجاح السياسي الواضح للتجربة التونسية، وهي في طريقها لبناء دولة ديمقراطية عربية فريدة، من نتائج أحداث الربيع العربي، وطي صفحات ماضي الدولة البوليسية، المنتهكة لحقوق الإنسان ودخول تجربة انتقالية، عبر تشكيل الهيئة الوطنية للحقيقة والكرامة، وإلزام الدستور الجديد للدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها وخلال المدة الزمنية المحددة… (الفصل 148).  فإنها اليوم تعيش على وقع تحديات وإشكالات تهم قضايا التنمية بالنسبة لشريحة واسعة من الشعب التونسي، والمرتبطة بشكل مُلح بتحسين وضعهم الاقتصادي والاجتماعي المتأزم، والذي ظل لم يبرح مكانه منذ بداية الثورة، بل ربما ازداد صعوبة حسب إحصاءات ومؤشرات السنوات القليلة الماضية. ففي أخر إحصائيات رسمية قام بها المعهد الوطني للإحصاء بتونس لسنة 2019، بلغت نسبة النمو الإجمالي للاقتصاد خلال التسعة أشهر الأولى من السنة 1.1%، وتجاوزت نسبة البطالة 15%، وسجلت نسبة التضخم عند الاستهلاك مستوى 6,3% حتى نهاية نوفمبر من العام ذاته.

رؤية المواطن التونسي لقيمة التمكن من نيل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بما تشمله من القدرة على إيجاد فرص للعمل وتحسن من دخله اليومي، والوصول الفعلي للخدمات التعليمية والصحية، هي ما جعلته يعبر عن عدم رضاه واحتجاجه في أوقات معينة على مألات تجربة الثورة وسياسة الطبقة الحاكمة الجديدة، رغم المكاسب والامتيازات التي أصبح يتمتع بها، فيما يخص الحريات السياسية والمدنية الأساسية (كحرية التعبير والرأي، وحرية التنظيم والتجمع والتظاهر…)، وتُصنف تونس في المراتب الأولى عربيًا منذ 2011 تقريبًا، في تقارير المنظمات والهيئات الدولية المواكبة لانتشار الديمقراطية وسيادة مناخ الحرية.

وقد ساهمت هذه الرؤية الملموسة لمفهوم الديمقراطية وماهية التغيير المنشود، والتي جسدها شعار الثورة “كرامة، خبز وعدالة”، في وصول مرشح مستقل ووجه غير مألوف على المشهد السياسي، الرئيس الحالي قيس سعيد لقصر قرطاج، عبر جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية التي جرت يوم الثالث عشر من أكتوبر 2019، بعد حصوله على نسبة أصوات بلغت (72.71%)، في مقابل نسبة (27.29%) للمرشح صاحب الرتبة الثانية نبيل القروي، وبنسبة مشاركة بلغت 55% وبمجموع 3 ملايين و892085 من الأصوات (حسب أرقام الهيئة العليا المستقلة للانتخابات) .

ويمكن إرجاع نسبة التصويت المرتفعة للرئيس الحالي من جهة لرؤية الناخبين له كشخصية نظيفة تمتلك خطابًا بسيطًا –جزء منه شعبوي– ذو مصداقية، وبعيد عن أفكار وفساد المنظومة الحاكمة لما بعد حكم بن علي،  ومن جهة أخرى كعقاب ورفض لتوجهات وسياسة الأحزاب القائمة، سواء تلك المنتمية للأغلبية الحكومية أو المعارضة، المستمرة وسط بنية ذهنية وسياسية تقليدية.  والتي فشلت في خلق حلول للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها البلاد، رغم مرور تسع سنوات على رحيل بن علي، وتغيير أكثر من رئيس وحكومة.

إن الانتخابات التشريعية التي جرت في السادس من أكتوبر 2019 –خلال المدة الفاصلة بين جولتي الانتخابات الرئاسية– فاجأت المحللين، فمن ناحية لم تزد نسبة مشاركة المواطنين فيها، حيث كانت نسبة  المشاركة في 2019 (41.70%) بينما بلغت في 2014 (69%)، ومن ناحية أخرى، تراجعت بشكل واضح قوة وتأثير الأحزاب السياسية، خاصةً تلك كانت توصف بالكبرى، وتمتلك التنظيم والحشد المبني على التصورات الأيديولوجية والتمترسات الهوياتية والمناطقية، كحزب حركة نداء تونس ذو التوجه العلماني حيث حصد ثلاث مقاعد مقارنة بـ خمسة وثمانين مقعدًا في 2014، وحزب حركة النهضة الإسلامي، والذي حصد إثنين وخمسين مقعدًا –من أصل 217 مقعد هي إجمالي مقاعد المجلس النيابي– احتل بها المركز الأول في انتخابات 2019، إلا أنها تمثل تراجعًا؛ حيث حصد في 2014 تسعة وستين مقعدًا

تلك المشاهدات تعكس إلى حد كبير عدم اكتراث غالبية الشعب التونسي، بالصراعات والطروحات الفكرية والعقائدية، بقدر اهتمامه بمن يستطيع أن يضمن له شروط عيش أفضل، ويكون قادرًا على محاربة الفساد وهدر المال العام، ولديه سياسة اقتصادية أكثر عدالة ومساواة، يستطيع بموجبها تقليص الفوارق الطبقية والجغرافية.

خاتمة

إن قضايا الحقوق والحريات في الدساتير العربية الجديدة، ونتائج موضوع دراستنا المخصص لحالتي المغرب وتونس، تجعلنا نشدد على أن الغاية المرجوة من النص الدستوري ليس مجرد منح بنوده وفصوله لجملة من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ودعوته لاحترام الحريات فقط، على الرغم من أهمية ذلك وقيمته. بل تبقى في قدرته على مأسسة النقاش العام والانطلاق منه كأساس لعقد اجتماعي وسياسي، يكون مفتاحًا لتطوير مؤسسات الدولة والتفكير بنماذج وخطط تنموية، مبنية على حاجات ومتطلبات الناس في العيش الكريم، وتحسين حياتهم اليومية، ورفع مستوى الخدمات الصحية والتعليمية وزيادة إتاحتها.

المواطنون اليوم في تونس والمغرب، بصرف النظر عن حجم التباين والاختلاف بين البلدين في سياقات ومسارات التجربة السياسية وطبيعة وأحكام الدستور بهما، ينظرون للواقع من زاوية المساحات المفتوحة لهم للتعبير عن أراءهم وأفكارهم، وإلى الإمكانات المتوفرة لديهم للتغلب على مشكلات البطالة والارتقاء الاجتماعي في سلم حياتهم، بما يضمن مستقبلًا أفضلًا لهم ولأبنائهم.

وقد لاحظنا كيف أن شريحة كبيرة من الشعب التونسي رغم تمتعها بفضاء ديمقراطي يضمن لها التعبير عن حريتها السياسية والفكرية، إلا أنها تعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية متعددة، ما جعلها تُحجم عن المشاركة في انتخابات 2019 التشريعية والرئاسية، كطريقة للاحتجاج والتعبير عن عدم الرضا. في المغرب ومع أن دستور 2011 قد جاء بمكتسبات تضمن بعض من حريات الرأي والتعبير، فإنها لم تكن لتمنع السلطة الحاكمة من لجوئها للاعتقال والسجن في حق الأفراد والناشطين بعد تعبيرهم عن رأيهم وانتقادهم لسياستها.

______________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *