الدولة العميقة والدولة الظاهرة منها هما دولة واحدة متعدّدة الأجزاء، ومتنوعة الأدوار، لكنّ ضعف الإدراك السياسي لدينا جعلنا نركّز على جزئها الظاهر فقط. لأن الدولة العميقة هي عميقة بقدر سطحيّتنا في المواجهة، وفهمنا للصراع في جذوره وعمقه وأطرافه المحليّة والإقليميّة والدوليّة.

إنّ الخلل السياسيّ في مواجهة الثورة المضادّة يكمن فينا، وهو جرح غائر في عمق البنية الاجتماعيّة وعطب في منظومة الأفكار والقيم التي نحملها ونتحرّك بها، ومرض استفحل فينا منذ عقود، وقد تعددت أعراضه، وأشكاله، فهو:

  • إقطاع سياسي قبلي متعصب فاسد اخترق أجهزة صناعة القرار عبر شراء صناديق الاقتراع، يريد احتكار السلطة، وتأبيدها لصالحه.
  • وإستبداد عسكرتاري لم يتردد في هدر كرامة الإنسان وممارسة أبشع أنواع القهر والعنف استدعى الأجنبي ومخابراته ومرتزقته وتحالف مع المال الخليجي الفاسد.
  • ووثنيّة سياسيّة، عاشها مجتمعنا ظلت ولا زالت تقدّس الفرد الحاكم بأمره أو الزعيم القبلي والعشائري الفاسد.
  • وبدويّة سياسيّة متخلفة تسعى لإدارة الدولة في مرابيع الرز واللحم تدير فيها الدسائس بعقليّة شيخ القبيلة.
  • وتوظيف سياسي للدين بحزبية صائلة لم تكن يوما فاعلا حقيقيا في مسيرة النضال الوطني، هدفها تقيّيدنا برؤى مصالحها الموهومة التي جعلت من عمليّة التغيير المجتمعي أمراً متعذّراً، وحاولت ترسيخ التجهيل السياسيّ الذي يرسخ في مجتمعاتنا ثقافة القطيع بدلاً من ثقافة الحرية.

هذه البنية الاجتماعية المعطوبة لن تستطيع أن تنتج عقداً اجتماعيا حرّاً راشداً في شكل دستور وطني توافقي بين مكونات المجتمع الليبي، وهذه البنية وظفت ثورة شعبيّة عاطفيّة لم تتجاوز حالة الانفعال العاطفيّ إلى حالة الفعل العقلانيّ، مدعية أنها تسعى لإعادة تشكيل المشهد السياسي وفق منهج يعكس الرشد السياسيّ للمجتمع.

اقتحم الربيع العربيّ ميدان الصراع السياسي والاجتماعيّ، بل أنه أضاف في عمقه مادة للصراع الفكريّ، بين النموذج “المدخلي” الذي يخضع لثقافة قبول حكم الظلمة وبين من يرفض “ولاة الأمر” المستبدين، وبين الذين يتمسكون بحكم المستبد (مدنيا او عسكريا) بعلّة الأمر الواقع، وبعلّة الفرصة التي يأكلون منها ويتعايشون عليها، وبين الذين يتبرأون من كل أنواع الاستبداد التي تمنع الأمة من نهضتها.

مرّ عقد أو يزيد من السنين العجاف من عمر الربيع الليبي ولا يزال الصراع قائما بين بقايا عشاق الحريّة، وبين عبيد الطغاة، وأثبتت الأحداث الأخيرة أن الشارع يعود إلى زخمه، ليقاوم الطغاة بدون فتور، إن توفرت مجموعة من المعطيات (رؤية وقيادة وإرادة) ، فمبررات الثورة لا زالت حاضرة.

لقد أخطأتِ كل الأطراف المتصارعة عند قراءة مشهد الربيع الليبي، إذ أن كل طرف قد حسب أن الثورة ستحقق له الوصول للتربّع على كرسيّ السلطة، للحصول على أكبر قطعة من الكعكة. فغابت عن قراءتهم مسألة في غاية الوضوح، وهي أن شباب الثورة تحركوا لإنهاء حالة الاستبداد والقهر، وليس لتتويج أي فرد أو جماعة أو مدينة أو قبيلة على سدة الحكم، وأنهم لم يملكوا أي تصوّر عن مرحلة ما بعد الانتفاضة وسقوط الطاغية.

لابد أن ندرك بأن ثورة 17 فبراير لا يمكن أن تنتصر وتحسم الصراع لصالحها بدون مبادئ وبدون مطالب، حيث أن النخبة هي التي تركز على المبادئ، والجماهير هي التي تركز على المطالب، وبالتالي لن  تنتصر الثورة حقيقة إلا بالمبادئ والمطالب معا.

أما الثورة المضادّة فهي مازالت تحاول وقد رمت بكل أسلحتها وفرشت كل أوراقها، وآخرها الدولة العميقة التي اخترقت مجلسي النواب والدولة وحاولت ولا زالت تعمل لإفساد مسيرة التحول الديمقراطي والوصول إلى الشرعية الدستورية والدولة الديمقراطية.

إنّ أدوات الثورة المضادة التي اختبأت وراء ثورتنا لتعزلها وتشوهها بتهمة الغلوّ والتطرّف؛ هي في الأصل صناعة استخباراتيّة جاءت لتؤدّي دوراً وظيفيّاً يبرّر قمع الثورة بحجّة مكافحة الإرهاب وإعادة تأهيل الانظمة الاستبدادية من جديد.

حاولت الثورة المضادة وأداتها الدولة العميقة طعن الثورة في مقتل، ولكنها فشلت في دفع الثورة للإنحراف عن أهدافها التي انطلقت منها وهي إسقاط الاستبداد وإعادة الشرعية الدستورية لدولة مدنية ديمقراطية وفق الاختيار الحر للشعب بدون إكراه دولي أو محلي.

ختاما، نقول بأن نصفُ ثورة أخطر علينا ألف مرّة من لا ثورة، لأنها ستكون انتحاراً محقّقاً نُساق بعده إلى مقاصل الطغاة ومعتقلاتهم. ولذلك علينا أن نعيد ترتيب أدوات المواجهة المستقبليّة مع فلول الثورة المضادّة ودولتها العميقة.

_______________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *