شُكْري السنكي

فتحي الجهمي (4 أبريل 1941م – 21 مايو 2009م)

المُناضل الّذِي اخترق حاجز الصمت وتكلم بجسارة وقوَّة فِي العَام 2002م فِي مؤتمرات القذّافي الغوغائيّة وأمام لّجانه الثوريّة القمعيّة وقوَّاته الأمنيّة المتسلطة.

الشجاع الّذِي كان لا يخشى إلاّ الله وحده ولا أحد سواه، ولم ترهبه أدوات القمع ولم يكن يخشى يوماً جبروت هؤلاء ولا معتقلات ومشانق كبيرهم  الّذِي علمهم السحق والمحق والدوس على الضحايا والرقص على جثث الأبرياء !.

وقف فتحــي الجهمــي بِكُلِّ شجاعة فِي المؤتمر المذكور، فأذهل الحضور بفروسيته وشجاعته، وألجم خصمه مِن هول المفاجأة فالسّلطة تعودت على قبول النَّاس وتسليمهم بما يُفصل لهم ويفرض عليهم، فدعا إِلى الإفراج الفوري عَن السجناء السّياسيّين، وحل اللّجان الثّوريّة، وإِلى الحيَاة البرلمانيّة ونظام الانتخابات والإنهاء الفوري لفوضى التصعيد ومَا يُسمّى بنظام المؤتمرات الشعبيّة الّذِي جاء فِي كتاب القذّافي الأخضر، وإِلى دولة الدستور والمؤسسات والتداول السّلمي للسّلطة.

اعتقلته السّلطات عقب تجريمه لتكميم الأفواه، وإدانته لوضع حُقُوق الإنْسَان وقمع الحريّات، ومطالبته بإجراء انتخابات حرَّة ليختار النَّاس مَنْ يسير أمورهم بشفافية وحريّة تامّة.

صبر وصمد ولم يتنازل عَن موقفه، بالرَّغم مِن كُلِّ مَا تعرّض له مِن تعذيب جسدي ونفسي فِي السجن، وعندما خرج مِن معتقله بفعل ضغوطات محليّة ودّوليّة متعددة ومتصاعدة فِي مارس العَام 2004م، كرر نفس الكلام والمطالب ولم يكن يخيفه أو يهمه التهديد بإرجاعه إِلى السجن وتصفيته، بل أضاف إلى ذلك شيئاً آخر حينما خرج على قناة (العربيّة) وقناة (الحرَّة) مصرّحاً بأن معمّر القذّافي..”.. لم يبق له مِن عمل إلاّ أن يسلّم لنا سجّادة ويطلب منّا أن نركع أمام صورته ونصلّي له..”.

تكلم الجهمي مِن داخل ليبَيا بِكُلِّ جرأة ضدَّ عمليّات الاعتقال والإقصاء وتكميم الأفواه وأمام الآلة الإرهابيّة الّتي يملكها نظام القذّافي ضدَّ مخالفيه، فكسر حاجز الخوف والصمت وكان خروجه على الفضائيّات نقطة تحول كبيرة فِي مسار الحركة الوطنيّة وفِي العمل المُعارض الّذِي استهداف الاستبداد وطالب بالانتخابات وحكم القانون والنَّظام القائم على صناديق الاقتراع.

فرح الِلّيبيّون بصوته واستبشروا به خيراً، وأحرج خروجه فِي الفضائيّات نظام القذّافي ووضعه فِي ركن ضيق، وسمع العالـم كلـه كلامـه وتعاطفوا مع صـوته بل حذروا السّلطة مِن مغبة اعتقاله أو إيذائه أو الاعتداء على بيته وأسرته.

لكن، السّلطات اعتقلته مجدَّداً، ولم تكتف بعمليّة الاعتقال فقط حيث أرسلت له يوم اعتقاله مجموعة مِن الملثمين إِلى بيته، فاقتحموا مقر سكنه وروعوا أهل بيته، بعْد أن عبثوا بمنزله وأصابوه وأصابوا زوجته بجروح طفيفة.

تعرَّضت أسرته إِلى التضييق والتهديد المستمر وكافـة أنواع الضغوطات، وتعرّض هُو فِي معتقله إِلى أقصى درجات التعذيب والحرمان فدخل بعْد مدة مِن اعتقاله فِي غيبـوبة.

تأثر الِلّيبيّون بما حدث لفتحي الجمهي، واهتم العالـم بقضيته، فطالب جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي بتوفير العلاج لفتحي الجهمي والحفاظ على حياته وإطلاق سراحه فوراً، وكان بايدن قد عمل على ملفه حتَّى قبل توليه منصب نائب الرئيس، كمَا أشار باراك أوباما الرئيس الأمريكي، لقضيّة فتحي الجهمي وذكـر اسمه فِي خطاب رسمي له، وطالبت كوندوليزا رايس وزيرة الخارِجيّة الأمريكيّة والعديد مِن الشخصيّات السّياسيّة العالميّة وكافـة المُنظمات الحُقُوقيّة الدّوليّة بإطلاق سراحه الفوري والحفاظ على حياتــه.

تحايلت سلطات القذّافي على هذه المطالبات والضغوطات الدّوليّة، معلنة أن الجهمي مضطرب عقلياً وغير متوازن نفسياً، ونقلته إِلى مستشفى الأمراض النفسيّة، إمعاناً فِي تعذيبه وقهر أسرته، وفرضت عليه حراسة مشددة، وسمحت لزوجته وأولاده بزيارته مِن حين إِلى آخر.

اضطرت سلطات القذّافي بعْد تصاعد الضغوطات عليها لنقله فِي أيّامه الأخيرة إِلى المملكة الأردنيّة للعلاج فِي الظاهر وللتخلص مِن حادثة موته أو مقتله فِي ليبَيا.

وفاضت روحه الطّاهرة إِلى بارئها فِي أحد مستشفيات عمان بالأردن فِي المستشفي العربي الطبي يوم 21 مايـو 2009م عَن عمر يناهز سبعة وستين عاماً، وكان ذلك يوماً مشهوداً وسيبقى علامة بارزة فِي السجل العالمــي للرّجال المُناضلين الشّجعان الّذِين لا يهابون الموت مِن أجـل حريّة الإنْسَان وحمايّة حُقُوقه وتحقيق كرامته، ونقطة تحول هامّة فِي مسار الحركة الوطنيّة الِلّيبيّة المقاومة للاستبداد والطغيان، وعـلامة دائمة محفورة فِي ذاكرة أجيال الِلّيبيّين، ورمزاً وطنيّاً يُشارإليه بالبنان، ومنارة مشعّة  للإنسانيّة جمعاء عَن شجاعة المُناضلين وتحدّيهم للطغاة المتكبرين، المفسدين فِي الأرض، وفِي عُقر دارهم.

أخيراُ، ربـط فتحــي الجهمـي بين المُعارضين فِي الدّاخل والمُعارضين فِي المنفى.. وكسر حاجز الصمت والخوف برفع صوته عالياً فِي وجه سلطة سبتمبر الباغيّة وهي فِي أوج قوتها فتحدى جبروت القذّافي وعناصر نظامه القمعيّة فِي عُقر دارهم، وكان هذا الموقف الشجاع الفريد ثمّ صموده وثباته على موقفه حتَّى آخر لحظة مِن حياته، هُو وقود الثورة وشرارتها، الثورة الّتي انطلقت فِي السّابع عشر مِن فبراير مِن العَام 2011م منادية بحياة  حرَّة كريمــة، ومطالبة بالتحرَّر مِن الظلم والقهر وقيود الاستبداد.

بهذا السجل الوطنيّ الحافل وهذه الشجاعة الّتي قلما نجد مثيلها، يستحق فتحـي الجمهي أن يخلد اسمه فِي التاريخ ويكتب فِي صفحة الخلد بحروف مِن نور، وأن نذكره ونتذكّر تاريخه وفضله دائماً وأبداً، مؤكدين أنه الأب الروحي لثورة فبراير، ورمـز مقاومــة الاستبداد مثلما هُو شيخ الشهداء عُمـر المختـار – طيّب الله ثراه – رمـزاً لمقاومـة قوى الاستعمار والاحتلال.

رحمك الله يا فتحــي وأسكنك الفردوس الأعلى مِن الجنّـة.

______________

المصدر: صفحة “منتدى الصحافة الليبية” على الفيسبوك

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *