عبدالعالم بجاش

“وضعت هيلين مولوداً جميلاً، في الـ18 من يوليو، الساعة الخامسة صباحاً في المغرب”.
من كان ليظن أن تعبيراً أدبياً كهذا سيكون شفرة انطلاق حرب أهلية، دامت 3 أعوام، أودت بحياة نصف مليون، وشردت نصف مليون إسباني، هرباً من الحرب في إسبانيا، وأسست لديكتاتورية مستبدة استمرت قرابة 4 عقود، أذاقت الشعب الإسباني الويلات.

يوفر تاريخ الحرب الأهلية في إسبانيا، تجربة هامة تحتاج الأطراف اليمنية في الوقت الراهن لاستلهماها، حيث تشهد البلاد حالياً صراعاً بين الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، وجماعة الحوثي التي قامت بانقلاب في ٢١ سبتمبر ٢٠١٤، لتندلع حرب أهلية مطلع عام ٢٠١٥، لاتزال مستمرة حتى الآن.
وليس هذا الصراع الوحيد، إذ تشهد البلاد اقتتالاً داخل صفوف المناهضين للانقلاب بين القوات الحكومية من جهة، وقوات المجلس الانتقالي الجنوبي من جهة أخرى.

ويعول المجتمع الدولي على إنهاء الاقتتال بين فصائل الحكومة في اتفاق الرياض الذي رعته السعودية، وتم توقيعه بين الطرفين في ٥ نوفمبر ٢٠١٩.
ويأمل المجتمع الدولي أن يؤدي تنفيذ اتفاق الرياض إلى تسريع التوصل والانتقال إلى سلام شامل في اليمن وإنهاء الحرب، لكن الاتفاق لايزال متعثراً حتى اليوم.

استلهام تجربة إسبانيا

إن التشابه الكبير في مسارات النزاع اليمني الراهن وتشعباته، مع تجربة النزاع في إسبانيا في الماضي، يتيح إرشاداً ملهماً حول طرق حل النزاع لما فيه صالح اليمن وأطراف النزاع وعموم البلاد، وبما يحول دون نشأة فاشية جديدة كما حدث في إسبانيا سابقاً، وقيام دكتاتورية تدخل البلاد في مأزق آخر، وهو تهديد قائم في حالة اليمن.

وحتى يومنا قالت الأمم المتحدة إن ضحايا الحرب في اليمن ارتفعوا إلى ٢٣٣ ألف قتيل خلال 6 سنوات من الحرب المستمرة، وهو يقارب نصف أعداد قتلى الحرب الأهلية الإسبانية التي استمرت ٣ سنوات”.

وتكثف الأمم المتحدة جهودها من أجل دفع الحكومة وجماعة الحوثي لتوقيع اتفاق الإعلان المشترك ووقف إطلاق النار في عموم البلاد. وأعلنت الأمم المتحدة دعمها اتفاق الرياض لإنهاء الصراع ووقف الاقتتال بين فصائل الحكومة، وتشكيل حكومة جديدة بمشاركة المجلس الانتقالي الجنوبي، باعتبار نجاح هذه الخطوة تهيئة للتوصل إلى حل سياسي شامل مع جماعة الحوثي.

وهناك مخاوف من انزلاق البلاد نحو سيناريوهات محتملة بعيداً عن الاستقرار، مما قد يشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين مستقبلاً، نظراً للموقع الاستراتيجي لليمن على البحر الأحمر وباب المندب.

ويمكن لأطراف النزاع داخل صفوف الحكومة، الاسترشاد بتجربة الحرب الأهلية الإسبانية للحيلولة دون الوصول إلى المصير ذاته الذي انتهت إليه فصائل الحكومة الإسبانية بسبب صراعها الداخلي، وصولاً إلى الاقتتال، مما تسبب في هزيمتها وفرض نظام ديكتاتوري لعقود، بدلاً من السلام والانتقال إلى الديمقراطية.

الحرب الأهلية الإسبانية وما تلاها من حكم ديكتاتوري للمتمردين العسكريين الذين قادوا انقلاباً من داخل الجيش على الحكومة، أثبتت صعوبة استقرار الوضع في البلاد وعودة السلام إليها، مهما بلغت قوة طرف وهيمنته.

كما تشير تجربة النزاع في إسبانيا إلى خطورة الانزلاق من حرب أهلية إلى مرحلة طويلة من الديكتاتورية والاستبداد يدفع الشعب ثمنها باهظاً، وتبعات تعطيل عملية الانتقال الديمقراطي والوصول إلى السلام والاستقرار والتعايش الآمن.

فبعد 3 سنوات من الحرب الأهلية انتهت بفوز التمرد بقيادة الجنرال فرانشيسكو فرانكو، وبعد ٣٦ عاماً من حكم فرانكو، عادت إسبانيا إلى الديمقراطية بعد وفاة الديكتاتور.

الزمن الذي سقطت فيه إسبانيا في قبضة الاستبداد خلال حكم فرانكو، حرم البلاد لوقت طويل من الانتقال إلى الديمقراطية والنمو ومعالجة أثار الحرب، وحتى يومنا لم تتعافَ إسبانيا كلياً من آثار تلك المرحلة المريرة. ويدل على ذلك السجال الذي حدث عام ٢٠١٩ بين الحكومة الاشتراكية لإسبانيا وأتباع فرانكو، على خلفية نقل رفاته من “مقبرة الشهداء “، ما حدا بقوى يمينية لاتهام الحكومة الاشتراكية بفتح جراحات الماضي.

إن أول درس من هذه التجربة هو فداحة أن تنتهي الحرب الأهلية بنظام ديكتاتوري قمعي يلغي الآخر، لأن ذلك يبقي عوامل الحرب والنزاع قائمة.
شكلت الحرب الأهلية في إسبانيا وعي الأمة هناك التي انقسمت بين مؤيد للجمهورية وبين مساند للملكية. وحتى يومنا، ستكون لكل مواجهة كروية بين ناديي ريال مدريد وبرشلونة العريقين، إيحاء من إيحاءات الصراع القديم بين اليسار واليمين في إسبانيا، وعلى مستوى عالمي إلى حد ما.

إسبانيا اليوم تنعم بالسلام والاستقرار، لكنها لاتزال في طور التعافي من ماضٍ أليم، لحرب راح ضحيتها نصف مليون إسباني، ومئات آلاف آخرين بين مشردين ومخفيين ومفقودين.

تاريخ الصراع الإسباني

تقع مملكة إسبانيا جنوب غرب أوروبا في شبه الجزيرة الأيبيرية، ترتبط بأفريقيا عبر مضيق جبل طارق، يحدها من الشمال المحيط الأطلسي وخليج بسكاي، ومن الشرق فرنسا وأندورا، ومن الجنوب البحر الأبيض المتوسط وبحر الباليار، ومن الغرب البرتغال والمحيط الأطلسي. بسبب موقع إسبانيا طرف البحر الأبيض المتوسط، يعتقد أن اسمها قد يكون اشتق من إسبانية البونيقية، والتي تعني أرض الأرانب أو الحافة، دراسات أخرى تشير إلى أن جذر المصطلح “سبان” يعود إلى “سبي”، وأنها تعني الأرض التي يجري صهر المعادن فيها.

في تاريخ ممالك اليمن القديمة، مملكة سبأ مشتقة من الجذر نفسه “سبي”، إنما بمعنى مختلف، وهو السبي وفق الدراسات. هذا التشابه البسيط، لا يرمز لشيء، بقدر ما ترصد الوقائع التاريخية بعض التشابه في مسار النزاعات والصراعات في البلدين تاريخياً. وإسبانيا عضو في الاتحاد الأوروبي، وثاني أكبر دولة فيه وفي أوروبا الغربية من حيث المساحة (أكثر من ٥٠٠ كيلومتر مربع) بعد فرنسا.

وكانت إسبانيا في الماضي امبراطورية واسعة النفوذ، توحدت في القرن الخامس عشر الميلادي، وظهرت كدولة بعد توحيد الممالك الكاثوليكية والسيطرة على كامل شبه الجزيرة الأيبيرية عام 1492. امتد نفوذ الإمبراطورية الإسبانية إلى أجزاء من الأمريكيتين وإيطاليا وأفريقيا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا وهولندا وجزر في منطقة آسيا، فيما أطلق عليه العصر الذهبي الإسباني؛ عصر الاستكشاف، حيث شهد العالم الانفتاح على طرق جديدة للتجارة عبر المحيطات، مما دشن مرحلة الاستعمار الأوروبي لمناطق واسعة في العالم.

في عصرها الذهبي كانت إسبانيا أول امبراطورية قيل إن الشمس لا تغيب عنها، لكن الصراعات الطاحنة التي شهدتها البلاد وصولاً إلى الحرب الأهلية، أدت إلى انهيار وتراجع إسبانيا وتمزقها، وسقوطها رهينة للصراعات الدولية. وكان للصراع المتأجج بين اليسار واليمين وحالة الانقسام الداخلي الشديد، أكبر دور في تمزق البلاد، واندلاع عمليات عنف وإبادة وتفشي القتل والقتل المضاد، إضافة إلى سلسلة طويلة من الجرائم ارتكبتها مختلف الأطراف المتنازعة.

وتعيش اليمن اليوم حالة تمزق وانقسام مماثلة، وإن كان بمستوى أقل، يشبه ما عاشته إسبانيا في الماضي، إذ يتحكم الصراع الإقليمي بين إيران ودول المنطقة، وأبرزها السعودية، في التأثير على مجريات الحرب اليمنية وإطالة أمدها، حيث يدعم التحالف العربي بقيادة السعودية، الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، وتدعم إيران جماعة الحوثي التي انقلبت على الحكومة في البلاد، وسيطرت على العاصمة صنعاء وعدة محافظات.

إسبانيا.. جذور الصراع

لأكثر من قرن ونصف قرن من الزمان شهدت إسبانيا صراعاً بين الملكية والجمهورية، ابتداءً من مطلع القرن التاسع عشر.
في ١٨١٣ تم إقرار دستور حد من هيمنة النظام الملكي بتوزيع الصلاحيات بين الملك والحكومة، لم يدم عامين، إذ قرر ملك إسبانيا عام ١٨١٤ إلغاء الدستور، مما فجر صراعات لعقود.

ولقرابة 60 عاماً شهدت إسبانيا ١٢ انقلاباً حتى ١٨٧٣، وهو العام الذي أعلن فيه قيام الجمهورية الأولى في إسبانيا، ولم تدم لأكثر من عام واحد.
في ديسمبر ١٨٧٤، تم الإعلان عن عودة النظام الملكي مجدداً إلى السلطة، وصارت معارضة الجمهوريين للنظام الملكي أكثر قوة، وكانت كتالونيا معقل الجمهوريين، وشهدت صدامات بينهم وبين الشرطة قتل فيها العشرات عام ١٩٠٩. استمرت البلاد في حالة صراع حاد بين الملكيين والجمهوريين، حتى رضخ الملك ألفونسو الثالث عشر، ووافق على إجراء استفتاء حول طبيعة نظام الحكم.

وفي الاستفتاء الذي جرى عام ١٩٣١، اختارت أغلبية الشعب الإسباني إلغاء النظام الملكي وإعلان النظام الجمهوري. وتحت ضغط الشعب تنازل الملك ألفونسو الثالث عشر عن العرش، وجرت انتخابات في أبريل ١٩٣١، فاز فيها الجمهوريون، وتم أإعلان الجمهورية الثانية في الرابع عشر من الشهر ذاته، ليتسلم الاشتراكيون والليبراليون السلطة التي تولاها نيسيتو ألكالا زامورا رئيساً للجمهورية ورئيساً للوزراء.

وكان هناك موالون متعصبون للنظام الملكي داخل الجيش، قبلوا على مضض نتائج الانتخابات، لكنهم انخرطوا في مؤامرة على الجمهورية الثانية التي تم إعلانها عقب الانتخابات. ما يجري في اليمن منذ مطلع القرن العشرين وحتى اليوم، هو صراع مماثل بين الملكية والجمهورية، بين أقلية إمامية (ملكية) وأكثرية جمهورية.

اليسار في مواجهة اليمين

أثارت الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الجمهورية ذات النهج الاشتراكي، حفيظة الكنيسة والإقطاعيين. فقد وضعت الحكومة دستوراً جديداً للبلاد، ينص على العلمانية، ما أثار غضب الكنيسة الكاثوليكية، وكانت إسبانيا مسيحية كاثوليكية كدولة ومجتمع.

اقتصادياً في إسبانيا ذات الطابع الزراعي، والتي كانت تحت هيمنة كبار الإقطاعيين من ملاك الأراضي الزراعية، حدث تغيير أثار غضب الإقطاع.
ففي ظل غلاء الأسعار وتدني القدرة الشرائية لغالبية الإسبان، قررت الحكومة تحديد ساعات العمل بـ8 ساعات، ووزعت الأراضي على المزارعين.
جرت انتخابات جديدة عام ١٩٣٣، وترأس حزب المحافظين الحكومة الجديدة، وثار الاشتراكيون في برشلونة ضد الحكومة الجديدة، لكن ثورتهم داخل معامل التعدين في برشلونة قمعت بشدة على يد جنرال عسكري يدعى فرانسيسكو فرانكو، والذي سطع نجمه منذ ذلك الوقت، وتم تعيينه قائداً لأركان الجيش.

وسيكون الجنرال فرانكو في ما بعد، محور الحرب والتاريخ الإسباني لـ40 عاماً. فمن هو فرانكو؟ وما دوره في الحرب الأهلية؟

كيف بدأت الحرب الإسبانية؟ وكيف انتهت؟

في فبراير ١٩٣٦، تم تشكيل حكومة جمهورية جديدة برئاسة مانويل أثانيا، زعيم الجبهة الشعبية، مؤلفة من 9 وزراء من اليسار الجمهوري، و3 من الاتحاد الجمهوري، وكانت على علم بما يخطط له جنرالات في الجيش للانقلاب على الجمهورية. وقررت حكومة أثانيا إزاحتهم ونقلهم بعيداً عن العاصمة مدريد، ومن بين من تم استبعادهم كان الجنرال فرانسيسكو فرانكو الذي أقيل من رئاسة هيئة الأركان، وتوليته منصب قيادة القوات في جزر الكناري.

بعد أيام على قرارات الحكومة، وتحديداً في مارس ١٩٣٦، اتفق عدد من الجنرالات بينهم فرانكو، وكانوا مدعومين من أحزاب يمينية والكنيسة الكاثوليكية وأنصار الملكية، في اجتماع، على التمرد وإسقاط حكومة الجبهة الشعبية، وإعلان حكومة بديلة مشكلة من مجلس عسكري يرأسه الجنرال سانخورخو الموجود منفاه في البرتغال. وقد اعتبروا خطتهم تلك انتفاضة واجبة لاستعادة النظام من الداخل وهيبة إسبانيا، وسموا حركتهم باسم القوميين، في فرز يجعل الوطنية الإسبانية حكراً عليهم، ويهيئ إسبانيا لحرب وانقسام مجتمعي لم تتخلص البلاد من آثاره حتى اليوم.

دخلت البلاد مرحلة عنف سياسي، وبدأت مؤشرات الحرب عبر سلسلة اغتيالات قادت إلى إعلان الانقلاب في يوليو ١٩٣٦، وبدء تحرك قوات فرانكو انطلاقاً من الأراضي المغربية. وفي الـ15 من يوليو ١٩٣٦، تلقى فرانكو رسالة من الجنرال مولا، المخطط الرئيسي للانقلاب: “وضعت هيلين مولوداً جميلاً، في الـ18 من يوليو، الساعة الخامسة صباحاً في المغرب”. وكانت تلك شفرة إعلان الحرب انطلاقاً من الأراضي المغربية. وكان فرانكو قد تحرك بقواته في اليوم السابق من مدينة مليلة المغربية.

خلال شهرين صعد فرانكو لقيادة التمرد، وتم اختياره في اجتماع لكبار الجنرالات في مدينة سالامانكا في 21 سبتمبر، بعد مقتل الجنرال سانخورخو، قائد التمرد، في تحطم طائرة له بعد يومين على إعلان الحرب من قبل المتمردين على الجمهورية، وحدث انقسام في قيادة المتمردين بين الجنرال إميليو مولا وفرانسيسكو فرانكو، انتهى في الأول من أكتوبر بتولي الجنرال فرانكو القيادة العسكرية والسياسية الموحدة، فيما لاقى الجنرال مولا حتفه في تحطم طائرة في 3 يونيو ١٩٣٧.

فاتورة الحرب

لم تدم الحرب الأهلية طويلاً، إذ استمرت 3 أعوام فقط، تمكنت فيها قوات التمرد العسكري الأكثر تنظيماً من حسم المعركة مقابل معسكر جمهوري دخلت فصائله في صراعات واقتتال أضعفها وأسهم في هزيمة الحكومة الشرعية وسقوط الجمهورية الثانية. رغم قصر مدة الحرب، إلا أن فاتورتها كانت باهظة، حيث قتل نصف مليون إلى ٦٠٠ ألف إنسان جراء تلك الحرب، وتعرضت عشرات المدن، بينها مدريد وبرشلونة، للتدمير، كما دمرت مئات القرى وأبيد سكانها.

وشهدت فترة الحرب تهجير عشرات الآلاف من السكان، كما تعرض الآلاف للإخفاء القسري، وارتكبت أطراف الحرب فظائع لا تحصى ضد بعضها.
وقد انتهت الحرب عام ١٩٣٩ بانتصار المتمردين بقيادة فرانكو، وسيطرة قواته على الأراضي الإسبانية وإعلانه رئيساً لإسبانيا. وتم الاعتراف به مباشرة من قبل داعميه المانيا وإيطاليا، ليفرض في أولى سنوات حكمه نموذجاً آخر للحكم الفاشي، ويطلق على نفسه لقب كوديلو أو الزعيم، على غرار موسيليني في إيطاليا، والفوهرر هتلر في ألمانيا.

وفي فترة لاحقة ستتحول إسبانيا تحت حكم فرانكو الاستبدادي إلى اشكال متعددة من الديكتاتورية حتى وفاته عام ١٩٧٥. وتذكر المصادر التاريخية أن إسبانيا انتقلت من حكم الجمهوريين إلى حكم أكثر استبداداً بتولي فرانكو الحكم، حيث وصل عدد المفقودين في عهده لأكثر من 130 ألفاً، وأكثر من 2500 قبر جماعي موثق، و30 ألف طفل مسروق.

وصنفت إسبانيا بالمرتبة الثانية عالمياً بعد كمبوديا في عدد القبور الجماعية، وتذكر بعض المصادر أن فيها ما يفوق 2500 قبر جماعي. وتظل واقعة إعدامه للشاعر لوركا وصمة سوداء في تاريخ نظامه الدموي، حيث عرف نظامه بمعاداته للفن والثقافة. وتعد لحظات إعدام الشاعر الإسباني لوركا من أكثر اللحظات الحزينة في التاريخ الإسباني والإنساني، حيث أوقفوه أمام حائط، وصوبوا نحوه بندقيتين أطلقتا الرصاص على جسده بينما كان يردد:
ما هو الإنسان يا مريانا
من دون حرية
كيف أستطيع أن أحبك
إذا لم أكن حراً
كيف أستطيع إهداءك قلبي
إذا لم يكن ملكي

على الرغم من عودة إسبانيا ملكية في عهد فرانكو، إلا أنها ظلت دون ملك، واستحوذ فرانكو على سلطة مطلقة باعتباره الزعيم والرئيس والقائد لـ٣٦ عاماً، وصنف عهده بأطول الديكتاتوريات في أوروبا.

وخلال الحرب الأهلية وبعدها، كانت المجازر السمة الرئيسية لعهد فرانكو، ويشار إليها باعتبارها الاستراتيجية التي اتبعها فرانكو خلال الحرب، حيث كانت قواته ترتكب مجازر بحق أهالي المدن والقرى التي تسيطر عليها. بعد سقوط أية مدينة أو قرية كانت تحت حكم الجمهوريين، يتعرص السكان لمجازر على يد قوات فرانكو، بخاصة من المرتزقة المغاربة.

طالت المجازر كل من يؤيدون الجمهوريين حتى لمجرد الشك، ويتم قتلهم رمياً بالرصاص، ودفنهم في قبور جماعية. وبعد انتصار التمرد بقيادة فرانكو، لم تتوقف مجازره وانتهاكات نظامه العنيفة ضد خصومه. دفعت إسبانيا ثمناً باهظاً جراء الحرب والديكتاتورية التي تلت انتهاء الحرب.

تجنيد المغاربة

ضمت قوات فرانكو عشرات الآلاف من المقاتلين المغاربة ضمن ما سمي الفيلق الأفريقي، نجح فرانكو في تجنيدهم باستخدام الدعاية الدينية، فقد تم إقناع آلاف المغاربة المسلمين أنهم ذاهبون لمحاربة الماركسيين الملحدين أعداء الله ورسوله محمد. واتخذت تدابير أخرى، منها التجنيد الإجباري للمغاربة تحت التهديد بالقتل لمن يرفض التجنيد، وتم قتل البعض، وأخذ آخرين بالقوة.

كما تم إغراء المغاربة بالمال، حيث تم منح كل جندي راتب شهرين مقدماً و٤ كيلوهات من السكر، وصفيحتين من الزيت. ويعزو بعض الباحثين التاريخيين إلى المرتزقة المغاربة الدور الكبير في انتصار المتمردين بقيادة فرانكو في إسبانيا، كما اعتمد عليهم في ارتكاب ممارسات عنيفة في إسبانيا لترويع أعدائه.

وبينما انتشرت في أوساط المغاربة أن فرانكو ربما يكون أسلم، كان فرانكو هو رجل الكنيسة الكاثوليكية والإقطاعيين والأحزاب اليمينية، وأطلقت الكنيسة على الحرب التي قادها فرانكو ضد الجمهورية في إسبانيا بالحملة الصليبية، فيما كان المجندون المغاربة المسلمون أبرز القوات التي وظفها فرانكو لخوض حربه.

في الحرب اليمنية بين الحكومة وجماعة الحوثيين الانقلابية، جند الحوثيون أفارقة للقتال إلى جانبهم، وذكرت تقارير دولية أن خبراء من إيران وحزب الله اللبناني يشاركون إلى جانب الحوثيين. فيما شاركت قوات سودانية إلى جانب قوات تحالف دعم الشرعية في اليمن بقيادة السعودية في القتال ضد المتمردين الحوثيين، قبل إعلان الحكومة السودانية سحب قواتها من اليمن.

حرب تمهيدية للحرب العالمية الثانية

وفقاً للمصادر التاريخية، انخرطت في الحرب قوات ضخمة، في 1936، بلغت في الجانب الجمهوري أكثر من ٤٠٠ ألف مقاتل و31 سفينة و12 غواصة و١٣ ألف بحار، إلى جانب الحكومة الشرعية. في المقابل، بلغت قوات المتمردين (الجبهة القومية) ٥٨ ألف مقاتل من الجيش الإسباني المنشقين، وقرابة ٧٠ ألف مقاتل مغربي تم جلبهم وتجنيدهم من المغرب التي كانت واقعة تحت الانتداب الإسباني، وسميت تلك القوات الجيش الأفريقي الذي كان له دور بارز في الحرب الإسبانية، وكان بحوزة المتمردين العسكريين 16 من السفن العاملة و7000 من البحارة.

وتقول المصادر إن قوات الطرفين تغيرت منتصف الحرب، في ١٩٣٨، حيث كانت قوات الحكومة الشرعية الجمهورية ٤٥٠ ألف مقاتل من المشاة و350 طائرة و200 دبابة، إضافة إلى قرابة ٦٠ ألف مقاتل أجنبي تطوعوا للقتال إلى جانب الحكومة الشرعية ضد الفاشية، ومن الاتحاد السوفيتي شارك نحو ٧٠٠ طيار سوفيتي وقرابة 3000 خبير، إلى جانب قوات الحكومة.

ومنذ ١٩٣٨ تقوت الجبهة القومية (المتمردين) أكثر، وحازت دعماً أكبر من قبل حلفائها ألمانيا وإيطاليا، حيث بلغت قوات المتمردين أكثر من نصف مليون مقاتل و٦٠٠ طائرة وقرابة ٣٠٠ دبابة. وشارك إلى جانب قوات التمرد ٥٠ ألفاً من القوات الإيطالية و١٦ ألفاً من القوات الألمانية و١٠ آلاف متطوعين من البرتغال.

هذه الترسانة وهذا التحشيد، أعطى المعركة في إسبانيا بعداً دولياً، وجرى اعتبارها لاحقاً تطبيقاً مسبقاً للحرب العالمية الثانية التي اشتعلت بعد 5 شهور على انتهاء الحرب الإسبانية التي توقفت معاركها في أبريل ١٩٣٩. كان من بين أسباب خسارة الحكومة الشرعية الجمهورية للحرب، النزاعات داخل الصف الجمهوري، والتي وصلت إلى اقتتال بعض الفصائل الجمهورية بسبب اختلاف الموقف من الاتحاد السوفيتي، ضمن عوامل وأسباب أخرى أبرزها قوة الدعم الألماني والإيطالي للمتمردين القوميين.

وكانت الدولتان ألمانيا وإيطاليا في حالة اندفاع، دفعت الزعيم النازي هتلر للموافقة ليس فقط على الدعم الذي طلبه المتمردون الإسبان، بل قرر تقديم ضعف الدعم المطلوب. وكانت ألمانيا وإيطاليا مدفوعتين بمخاوفهما من تمدد الاتحاد السوفيتي وتحول إسبانيا إلى معقل من معاقله.

أدباء عالميون يتطوعون للقتال في حرب إسبانيا

من بين أبرز ملامح الحرب الأهلية الإسبانية انخراط أدباء وكتاب عالميين من عدة دول في أوروبا وخارجها، وتطوعوا للقتال إلى جانب الجمهوريين، باعتبار الحرب مواجهة دولية بين الديمقراطية والفاشية. وتقدر المصادر التاريخية عدد المتطوعين من غير الإسبان للقتال مع الجمهوريين بنحو 40 ألف رجل وامرأة قدموا من 56 بلداً، من بينها عدد دول عربية، أطلق على هؤلاء المتطوعون من أنحاء العالم اسم “الفيلق الدولي”، والذين قرروا القتال إلى جوار الجمهوريين الإسبان دفاعاً عن الديمقراطية ضد الفاشية.

من بين المتطوعين الأديب الأمريكي العالمي أرنست همنجواي، والكاتب الفرنسي الشهير أندري مالرو، والأديب الإنجليزي جورج أوريل، مؤلف كتاب “تحية إلى كتالونيا”، والصحافي الهنغاري آرثر كويستلر، مؤلف كتابي “إسبانيا الذبيحة” و”حوار مع الموت”. وتعد الحرب الأهلية الإسبانية إحدى الحروب التي حازت اهتماماً من قبل أدباء وكتاب، وصدرت حولها العديد من الأعمال والإصدارات الهامة.

حرب دولية داخل الحرب الأهلية في إسبانيا

كانت حرب إسبانيا، مواجهة استباقية بين ألمانيا وإيطاليا “الفاشية” والاتحاد السوفيتي “الشيوعية” من جانب، وبين فرنسا ودول أوروبية أخرى ذات التوجهات “الديمقراطية” التي كانت مناوئة للفاشية والشيوعية معاً. كانت مخاوف أوروبا من تمدد دول المحور الممثلة بألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية في كامل القارة الأوروبية إذا وطدت وجودها العسكري على أراضي إسبانيا، كان هذا دافعاً لانخراط بريطانيا في دعم الجمهوريين وتوجهاتهم الديمقراطية في مواجهة الجبهة القومية الفاشية بزعامة فرانكو.

وكان القلق من أنه في حال سيطرت الجبهة القومية الفاشية على إسبانيا تصبح فرنسا مهددة وعرضة لغزو فاشي محتمل من قبل دول المحور.
ومن شأن ذلك إضعاف تحالف الدول الأخرى المناهضة للفاشية، وهي بريطانيا وبلجيكا والبرتغال. وكان للاتحاد السوفيتي مخاوف مماثلة من تمدد النازية والفاشية باعتبارها تهديداً، كما خشي الزعيم السوفيتي ستالين أن تكون ألمانيا تعمدت إشغاله بإسبانيا لصرف انتباهه عن أوروبا الشرقية. بالمجمل كان الدعم السوفيتي للجمهوريين الموالين له أقل فعالية من دعم ألمانيا وإيطاليا للقوميين المتمردين.

لجنة عدم التدخل والموقف الأممي

كان لانسحاب ألمانيا وإيطاليا المؤثرتين في حرب إسبانيا، من عضوية عصبة الأمم، أثر في إخفاق المنظمة الأممية في التوصل إلى حل ينهي الحرب الأهلية في إسبانيا.

بالنسبة لدول كبرى كفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، تفاوتت المواقف. ففي مواجهة مخاوفها من الفاشية والشيوعية المتصارعتين في إسبانيا، قررت فرنسا وبريطانيا عدم التدخل في الحرب الإسبانية. وتم تشكيل لجنة عدم التدخل، ودعت باريس الدول المتدخلة في الحرب الإسبانية إلى عدم التدخل، لكن رغم توقيع العديد من الدول استمر التدخل الخارجي في الحرب.

وكانت فرنسا وبعض الدول ذات التوجه الديمقراطي، قلقة من مآلات الحرب الإسبانية، فقد كان انتصار القوميين المتمردين بمثابة انتصار للفاشية ممثلة بألمانيا وإيطاليا، وفي حالة انتصار الطرف الجمهوري يعني ذلك انتصاراً للشيوعية باعتبار الجمهوريين حلفاء للاتحاد السوفيتي. هذا الوضع جعل فرنسا في حالة تردد، وما إن ظهرت بوادر انتصار القوميين المتمردين حتى بادرت فرنسا بإرسال مساعدات للجمهوريين في الوقت الضائع.

بالنسبة لبريطانيا، نأت بنفسها، وكتب رئيس حكومتها آنذاك ونستون تشرشل في كتابه “خطوة بخطوة”، أن انقسام إسبانيا إلى طرفين متحاربين لا يمثل أي منهما بريطانيا.. ليس لبريطانيا مصلحة في التدخل في الحرب الأهلية الإسبانية.. وأياً كان المنتصر فستصبح إسبانيا دولة ضعيفة بعد انتهاء الحرب، وهو أمر لا يهم بريطانيا”.

وبالنسبة لبريطانيين تطوعوا في الحرب ضد الفاشية في إسبانيا، يعد موقف بريطانيا، أحد أسباب انتصار الفاشية في إسبانيا، وسيشعرون بنقمة تجاه حكومتهم. وكان اتفاق عقده هتلر مع فرنسا وبريطانيا على وقف تأييدهما للجمهوريين في إسبانيا، من بين العوامل التي حسمت الحرب لصالح المتمردين الفاشيين بزعامة فرانكو.

وكانت الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس روزفلت، أصدرت قراراً بمنع تصدير السلع والأسلحة ومواد التموين لأي من طرفي النزاع في إسبانيا، لكنها فشلت في إيجاد حل للحرب الإسبانية، وكان دورها محدوداً أو هامشياً في الحرب الإسبانية.

اتفاق ميونيخ ١٩٣٨ وسقوط مدريد.. نهاية الحرب

مع تحرك المتمردين للسيطرة على مدريد بداية الحرب، أعلنت الحكومة الشرعية نقل العاصمة إلى فالنسيا خوفاً من وقوع العاصمة بيد قوات التمرد.
طوال سنوات الحرب ظلت إسبانيا منقسمة بين مناطق تحت سيطرة المتمردين “القوميين” ومناطق أخرى تحت سيطرة الجمهوريين، والمؤلفين من عدة أحزاب وفصائل ظلت في صراع داخلي وتشرذم، وتخلى عنهم حلفائهم في نهاية المطاف. ميدانياً نجح تشكيلات الجمهوريين في صد هجمات المتمردين على مدريد، لكن الكثير من المدن والمناطق سقطت تباعاً بقبضة قوات المتمردين.

ولم تكن الممارسات الوحشية من جانب المتمردين فقط، فالجمهوريون مارسوا أعمالاً وصفت بالوحشية ضد الكنيسة والإقطاعيين، وأحرقوا الكثير من الكنائس، واستولوا على كثير من المزارع التي كانت مملوكة لإقطاعيين. وفي مايو ١٩٣٨، طلب الجمهوريون الصلح، لكن المتمردين اشترطوا عليهم الاستسلام دون شروط، واستمرت الحرب شوطاً إضافياً انتهى بسقوط مدريد بعد حصارها لـ3 أعوام، وهزيمة الجمهوريين.

وكان الجمهوريون أطلقوا حملة نهاية يوليو ١٩٣٨، لاستعادة الأراضي التي سيطر عليها المتمردون، لكن حملتهم فشلت، وكان ذلك بفعل الدور الذي لعبه أدولف هتلر، ونجاحه في إقناع بريطانيا وفرنسا بالتخلي عن الجمهوريين في إسبانيا. كان ذلك في اتفاق ميونيخ عام 1938، وسرعان ما ظهرت نتائج الاتفاق في انهيار الجمهوريين ومواصلة المتمردين زحفهم نحو كاتالونيا، حيث سيطروا على مدن تاراغونا في ٢٥ يناير 1939، وفي اليوم التالي سقطت برشلونة في الـ26 من يناير، ومدينة جيرونا في الثاني من فبراير.

في ٢٧ فبراير ١٩٣٩، وقبل سقوط مدريد من سيطرة الجمهوريين، اعترفت كل من بريطانيا وفرنسا بالمتمردين “القوميين” في ٢٧ فبراير.
وواصل المتمردون العسكريون حربهم، وفرضوا سيطرتهم على العاصمة مدريد التي سقطت في ٢٨ مارس ١٩٣٩، وبعد 3 أيام أعلنت قوات التمرد سيطرتها على كامل الأراضي الإسبانية.

في اليوم التالي، وكان الأول من أبريل، ألقى فرانكو خطاب النصر. وسقطت البلاد في قبضة ديكتاتورية فاشية، ولم تنجُ حتى وفاة فرانكو في ٢٠ نوفمبر ١٩٧٥. كان من بين أسباب هزيمة الجمهوريين الصراع الداخلي بين الفصائل الجمهورية، بخاصة مدريد في مارس 1939، ودفع الجمهوريون وكل من ارتبط بهم ثمناً باهظاً، حيث باتوا عرضة للاضطهاد من قبل نظام فرانكو، وفر مئات الآلاف منهم إلى مخيمات اللاجئين في جنوب فرنسا.

الانتقال الديمقراطي

مع وفاة الدكتاتور فرانكو، بدأت إسبانيا تشق طريقها في انتقال ديمقراطي واجه صعوبات وممانعة جاء بعضها من داخل الجيش نفسه.
وقد انتقلت السلطة إلى مجلس وصاية عام 1975، وتنصيب خوان كارلوس الأول ملكاً لإسبانيا أمام البرلمان الذي أراد إجراء إصلاح سياسي.
ظلت الحكومة لبعض الوقت برئاسة كارلوس نابارو من نظام فرانكو السابق، لكنه قدم استقالته في يوليو ١٩٧٦، وتم تعيين رئيس جديد للحكومة والإعلان عن حوار وطني مع كافة القوى السياسية والمدنية بهدف إرساء نظام ديمقراطي جديد.

وخلال العام نفسه صادق البرلمان على قانون الإصلاح السياسي، ودخل حيز التنفيذ عقب المصادقة عليه في استفتاء شعبي. نص القانون الجديد على حل النظام القائم وترسيخ مفهوم دولة القانون وتبني نظام برلماني بغرفتين. وشهدت البلاد عام 1977 أول انتخابات تشريعية ديمقراطية منذ فترة الحرب الأهلية، وتم في العام نفسه تشكيل لجنة صياغة أول دستور ديمقراطي إسباني. تمت المصادقة عليه في ديسمبر 1978، وصادق الشعب الإسباني على الدستور ليدخل حيز التنفيذ.

وحتى عام ١٩٨١ ظلت هناك مقاومة للانتقال الديمقراطي وصفت بالشرسة من قبل تيارات داخل الجيش الإسباني. يوصف التغيير في إسبانيا والانتقال من النظام الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي بأنه جرى بالوسائل السياسية، ولم يأتِ عبر العنف.

أصعب لحظة وأخطر مأزق في تاريخ الانتقال الديمقراطي حدث في ٢٣ فبراير ١٩٨١، فخلال جلسة للبرلمان لانتخاب رئيس وزراء جديد، حدثت محاولة انقلابية، إذ قام العميد طيخيرو مولينا بحجز النواب البرلمانيين كرهائن ضمن محاولة انقلابية لمجموعة من الضباط من أنحاء إسبانيا، أخفقت تلك المحاولة وفشلت بفعل صمود الطبقة السياسية والملك وقتها.

في العام التالي 1982 فاز حزب العمال الاشتراكي الإسباني بالأغلبية المطلقة في الانتخابات التشريعية، وبدأت الولاية التشريعية الثانية للديمقراطية الإسبانية الوليدة.

دروس وعبر من تجربة الحرب الأهلية الإسبانية

تشير بعض الكتابات حول الحرب الأهلية الإسبانية إلى توقعات طرفي النزاع قبيل انزلاقهم نحو الحرب، والتي قالت الحكومة الجمهورية الشرعية إنها فرضت عليها. فقد توقع المتمردون حسم الحرب لصالحهم خلال أيام نظراً لضعف الحكومة الجمهورية وهشاشة القوات التابعة لها، من جانبها توقعت الحكومة أنها ستتمكن من قمع التمرد، كما فعلت في جولة سابقة.

إن خطورة الانزلاق في حرب أهلية بالنسبة لبلد منقسم على نفسه بشدة، عادة ما يرافقها فقدان مقدرة الأطراف في غمرة صراعاتها وعداواتها، تقدير حجم الكارثة التي تجلبها الحرب وإمكانية التحكم بزمن محدد لحرب يمكن لتلك القوى تقرير متى تبدأ، لكنها تنفلت وتخرج عن السيطرة، فتصبح حياة الشعب ومصير البلاد رهناً بالظروف والمتغيرات.

ويزداد الوضع سوءاً حين تكون البلاد التي تشهد حرباً أهلية داخلية، كما في حالة إسبانيا، قد تحولت إلى ساحة معترك لأطراف دولية، وغالباً يضاعف تدويل الصراع حجم الكارثة الإنسانية والتدمير كما حدث خلال الحرب الأهلية الإسبانية.

كانت الحرب الإسبانية تجسيداً لفكرة سهولة إشعال حرب وصعوبة إنهائها قياساً بتوقعات أطراف النزاع، حيث طالت الحرب بشكل فاق توقعاتهم.
توفر تجربة الحرب الأهلية الإسبانية أوجه شبه من زوايا مختلفة للحرب الأهلية الجارية في اليمن وتبعاتها. فقد ظلت إسبانيا دولة قمعية عقب انتهاء الحرب، وفي عزلة دولية لسنوات بعد الحرب، وظلت أجواء القمع والاضطهاد سارية لقرابة 4 عقود من الزمن. كما شهد اقتصاد البلاد تدهوراً لسنوات وازدهرت السوق السوداء.

ورغم قدرة المتمردين بقيادة الديكتاتور فرانكو على سحق أية معارضة لنظامه وتكميم الأفواه وتقييد الحريات، سببت ممارسات الديكتاتورية وغياب المصالحة الحقيقية أثراً عميقاً في استمرار بذور النزاع. كما أن البلاد عقب وفاة الديكتاتور فرانكو، ومن أجل تسهيل الانتقال الديمقراطية، عملت على اجتثاث موروث حقبة الديكتاتورية وصولاً إلى السجال الشهير حول نقل رفات فرانكو من مقبرة الشهداء التي أقامها هو نفسه.

يسلط تاريخ الحرب الأهلية والديكتاتورية التي تلت الحرب في إسبانيا ضوءاً على التبعات الكارثية في حال انتصار طرف في الحرب، وسعيه لإلغاء الطرف الآخر، وهو مسار عدمي لا يمكنه إعاقة الوصول إلى السلام والانتقال الديمقراطي، لكنه يمثل طريقاً شاقاً وملتوياً يترك مزيداً من الآثار الكارثية، إذ يبقي البلاد في حالة ضياع وإنهاك لمرحلة من الزمن يتم هدرها على حساب الشعب والبلاد نفسها، وهي مرحلة يمكن لأطراف النزاع اجتيازها عبر تدابير حقيقية ضرورية للانتقال ابرزها مصالحة حقيقية، وليست شكلية أو ملفقة كما حدث في نظام فرانكو.

إن نظرة إلى الكارثة التي حاقت بالشعب الإسباني والدمار الذي طال مدنه والخراب الذي ساد لسنوات وحالة الاقتتال والانتهاكات التي تفشت، جراء الحرب وما نتج عنها من نظام ديكتاتوري، يقدم مثالاً كارثياً لما يجب على القوى والأطراف في اليمن تجنبه والعمل من أجل إنهاء الحرب والتوصل إلى سلام راسخ على أسس سليمة من أجل عودة الاستقرار والتعايش وديمومته، دون نزعة لإلغاء الآخر، ووفق المرجعيات الثلاث وهي المبادرة الخليجية وقرارات مجلس الأمن الدولي وأبرزها القرار ٢٢١٦، ومخرجات الحوار الوطني اليمني، والتي تكفل عودة السلام إلى اليمن وإنهاء احتكار السلطة والثروة، وهو جذر النزاع المتكرر في البلاد.

بعبارة أخرى، ترشدنا التجربة الإسبانية إلى ضرورة وأهمية التوصل للسلام في اليمن وتفادي الانزلاق كما في حالة إسبانيا من حرب أهلية مدمرة إلى ديكتاتورية أذاقت الشعب الإسباني الويلات. رغم المآخذ على عهد الجنرال فرانكو الذي حكم إسبانيا بالحديد والنار، إلا أنه يحسب له ذكاؤه في الحفاظ على حياد إسبانيا إلى حد كبير خلال الحرب العالمية الثانية، فحيدت عن حليفيها هتلر ألمانيا وموسيليني إيطاليا.
في اليمن، لايزال قرار السلم والحرب بيد حلفاء أطراف النزاع، بخاصة إيران والسعودية والإمارات.

إسبانيا تخرج من نفق الحرب والديكتاتورية إلى تاسع أقوى اقتصاد في العالم

من ينظر إلى وضع إسبانيا بعد خروجها من الحرب الأهلية وطيها مرحلة الديكتاتورية، يرى تغييراً جذرياً من أسوأ وضع إلى مرحلة انتعاش جعلت البلاد تملك تاسع أكبر اقتصاد على مستوى العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي الاسمي. وتصنف إسبانيا من البلدان المتقدمة وذات الرفاهية، وتحل بالمرتبة الأ20 على مؤشر التنمية البشرية، وفيها مستويات المعيشة مرتفعة جداً.

هذا التغيير كان ثمرة الانتقال الديمقراطي وسعي الإسبان لطي صفحة الماضي، لكن بدايات النمو الاقتصادي كانت في الستينيات خلال عهد الديكتاتور فرانكو، حيث سمح ببعض المتغيرات وشهدت إسبانيا حسب المصادر التاريخية “نمواً اقتصادياً غير مسبوق في ما أصبح يعرف باسم المعجزة الإسبانية، والتي استأنفت التحول نحو الاقتصاد الحديث”. كما شهدت إسبانيا استقراراً سياسياً أفضل من خلال إرساء الدستور الإسباني الجديد عام 1978، والذي أسس لمرحلة الانتقال للديمقراطية بعد حكم ديكتاتوري مطلق وضع كامل الصلاحيات بقبضة الديكتاتور فرانكو.

كان الأثر الأكثر فاعلية نحو التغيير السياسي، تحويل الكثير من سلطات الدولة إلى السلطات الإقليمية وتشكل التنظيم الداخلي على أساس الأقاليم ذاتية الحكم. في اليمن يدور الصراع الداخلي والحرب على أساس نزاع حول طبيعة وشكل الحكم، ويأخذ شكل مواجهة بين الجمهورية وتمثلها الحكومة، ونظام الإمامة أو الملكية وتمثلها جماعة الحوثيين.

كما هو صراع بين توجه الحكومة نحو إرساء نظام الأقاليم طبقاً لمخرجات الحوار الوطني اليمني الشامل وإعادة توزيع السلطة والثروة بين إقاليم البلاد وبين توجه الحوثيين الرافضين لنظام الأقاليم.

________________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *