محمد مصطفى الهوني
الجزء الأول
ضمن الحراك السياسي النشط، غير المسبوق الذي شهدته البلاد، بعد أن هبّت عليها نسائم الحرية مع تفجر ثورة 17 فبراير، أثير موضوع النظام الفيدرالي، والمطالبة بتطبيقه من قبل بعض المثقفين، في مؤتم عقدوه لهذا الغرض في مدينة بنغازي بتاريخ 20 يوليو 2011، ولم تكن الدعوة لحضوره عامة(!!) بل اقتصر على أشخاص معينين تمت دعوتهم إليه بالاسم.
وقد أوصى الحاضرون باتخاذ النظام الفيدرالي، وتبنيه كشكل سياسي للدولة الليبية الجديدة في الدستور المزمع وضعه، وذلك بدلا من الدولة الواحدة، وتبع ذلك المؤتمر، أن تم تناول هذا الموضوع من قبل عديد الكتاب والمثقفين، عن طريق وسائل الإعلام المختلفة، ومناقشته في عدد من المحاضرات والندوات العامة.
كما نما إلى علمي، أنه تم عقد مؤتمر آخر لذات الغرض في مدينة البيضاء، وذلك من قبل نفس الداعين إلى المؤتمر سابق الإشارة إليه، ولم أعرف ما انتهى إليه المؤتمر الأخير على وجه التحديد، ومازال الموضوع محلا للنقاش حتى وقت قريب، ولذلك ولما كان الموضوع على قدر من الاهمية فقد رأيت الإسهام فيه برأيي المتواضع، إثراء للنقاش.
وبادئ ذي بدء أقول: من المعروف أن النظام الفيدرالي أو الدولة الفيدرالية تنشأ أو تتكون من اتحاد ونظام عدد من الوحدات السياسية، التي يكون منفصلا بعضها عن بعضها الآخر (دول ـ مقاطعات ـ ولايات) لتكوّن فيما بينها كيانا سياسيا اتحاديا، تكون فيه السلطة مركزية، مع احتفاظها لنفسها ببعض السلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية) في نطاق حدودها الجغرافية، ومن الامثلة على ذلك الولايات الأمريكية المتحدة، واستراليان والهند وكما كان ذلك في الاتحاد السوفييتي والاتحاد اليوغسلافي أو جمهورية تشيكوسلوفاكيا قبل تقسيمها.
ومن الملاحظ أن الدعوة إن النظام الفيدرالي قد انطلقت من شرق لييبا، وفي وقت غير مناسب للظروف التي كانت تمر بها ثورة 17 فبراير، حيث كان عدد كبير من المدن الليبية في غرب ليبيا وجنوبها، تحت حصار قوات كتائب القذافي المنتشرة في كل مكان، التي كان الثوار يقاومونها ببسالة لفك الحصار عن مدنهم.
ناهيك عن أن هذه الدعوة تثير شبهة الدعوة إلى الانفصال والتقسيم، الذي لا موجب له، بل فُسرت من قبل الكثيرين بأن مبعثها هو الجهوية، والنزعة القبلية، وأنها تتقاطع مع ما كان يشيعه القذافي ويروّج له آنذاك ـ لإجهاض ثورة فبراير ـ بأن الثوار في شرق البلاد هم دعاة للانفصالية والتجزئة، وأنهم ما قاموا بهذه الثورة إلا لغرض تقسيم ليبيا، وفصل شرقها عن غربها.
وذلك كله بقصد تحقيق غرضه وهو الانفراد بغرب البلاد، والاحتفاظ بالمثلث النفطي (السدرة وراس لانوف والبريقة) بحيث تكون الأخيرة هي الخط الفاصل بين الشرق والغرب، ولذلك قاتلت قوات كتائبه قتالا عنيفا من أجل فرض سيطرتها، وبسط هيمنتها على مدينة مصراتة بالذات، التي كان القذافي يراهن عليها، إلا أن الله كان له بالمرصاد، حيث أفشل جميع مخططاته.
وذلك بفضل استبسال ثوار مصراتة الأشاوس، واستماتتهم في الدفاع عن مدينتهم، إلى أن تمكنوا من دحر قوات تلك الكتائب، وإلحاق شر الهزائم بها، بعد أن قدموا في سبيل تحريرها، وتخليصها من قبضة تلك القوات الهمجية، عديد الضحايا من الشهداء والجرحى، وسطروا أروع ملاحم البطولة والفداء، ودوّنوا بدمائهم الطاهرة الزكية، صفحات خالدة لن ينساها لهم التاريخ.
ويجب ألا يغيب عن بالنا، أن بلادنا قد أخذت بالنظام الاتحادي، عند إعلان الاستقلال في عام 1051م وقيام المملكة الليبية المتحدة، وقد دعت إليه، ما واجه الدولة الناشئة من ظروف صعبة حيث كانت تعاني من قلة الموارد ونذرة طرق المواصلات، وصعوبة الاتصالات، فيما بين أجزاء ليبيا المترامية الأطراف، التي تفصل بينها مسافات بعيدة جدا، فمدينة بنغازي الواقعة في الشرق تبعد عن طرابلس الواقعة في الغرب، بألف كيلومتر تقريبا، وتبعد عنها بنفس المسافة مدينة سبها، الواقعة في أقصى الجنوب، وكانت تمثل عواصم الولالات الثلاثة (برقة وطرابلس وفزان) التي كانت تخضع لإدارات عسكرية أجنبية، برقة وطرابلس للإدارة الإنجليزية، وفزان تخضع للإدارة الفرنسية، وأصبحت تلك الولايات فيما بعد هي المكونة للمملكة الليبية المتحدة، يضاف إلى ذلك الاستقلال المبكّر الذي منحته لولاية برقة، قبل منح الاستقلال الكامل لليبيا الذي يشمل فيما بعد كلا من فزان وطرابلس.
إذا النظام الفيدرالي الذي يتم الترويج له الآن، ليس جديدا ولا بدعا لم نسمع به من قبل، فليبيا قد مرت بهذه التجربة عند استقلالها، وقبل ذلك لم تكن كيانا من ولايات مجزأة بسبب اختلاف طوائفها أو تعدد قومياتها، وإنما سكانها شعب واحد، في دولة واحدة ولم تجزأ إلا بسبب خضوعها لإدارات عسكرية مختلفة ـ كما سبق القول ـ عقب هزيمة الطليان في الحرب العالمية الثانية، وانتصار الحلفاء على المحور، إلا أنه لما استقرت الأوضاع، وتكونت المؤسسات الدستورية، وبسطت الدولة سيطرتها على كافة أنحاء ليبيا، تم توحيدها تحت اسم المملكة الليبية، ومن تم أُلغي العمل بنظام المملكة المتحدة، وأُعلن ذلك رسميا بتاريخ 15 أبريل 1963م.
وما دامت ليبيا قد صارت دولة واحدة مما يجعل الدعوة بعد ذلك إلى تطبيق الدولة الفيدرالية، دعوة تفتقر إلى المنطق والمعقولية، فمن خلال التجارب التاريخية في العالم، أن مثل هذه الدولة تنشأ ـ وكما سبق القول ـ من وحدات كان منفصل بعضها عن بعضها الآخر، ثم تألف اتحادا فيما بينها، وهو ما لا ينطبق على ليبيا اليوم.
الوضع في ليبيا مختلف عما كانت عليه إبان الخمسينيات، فهي اليوم دولة أقوى في روابطها وفي لحمتها الوطنية، تتميز بوحدة ترابها إذ لا توحد أية فواصل أو حواجز طبيعية، مما يدعو إلى تجزئتها أو تقسيمها، كما أن شعبها من نسيج واحد خال من أية انقاسامات طائفية، فضلا عن اعتناقه دينا واحدا، بل حتى المذهب واحد (في الغالب)، فضلا عن التقاليد والعادات والميول المشتركة.
ولنضرب مثلا على اللحمة الوطنية التي تتمثل في مدينة بنغازي فهي أم الجميع (!)، لأن سكانها ينحدرون من جميع قبائل ليبيا سواء تلك التي في الشرق أو الغرب أو الجنوب، لذلك يطلقون عليها (رباية الذايح) وغيرها كثير من المدن التي اختلط سكانها من عديد القبائل فتعايشوا وتآلفوا وتصاهروا على مر السنين، مما جعل المجتمع الليبي خاليا من التنافر والتناحر الديني او الطائفي أو العرقي كما هو الحال في بعض الاقطار العربية.
لذا فإني أرى أن مثل هذه الدعوة ـ وخاصة في هذه المرحلة الانتقالية بالذات ـ تعتبر استغلالا لظروف البلاد الحالية، وعدم استقرار الاوضاع فيها، بسبب الانشغال ببناء كيان دولة، فقدت كل مقوماتها وأسسها بسبب معاول النظام المنهار، وأن من شأن ذلك ـ أي الدعوة الفيدرالية ـ أن تخلق الضغائن والأحقاد والحرازات والمشاحنات والتنازع على المصالح والمنافع، حيث يسعى كل فريق إلى أن يستقل بالنصيب الأوفر منها وحرمان غيره منها، ويعمل على تقسيم البلاد الواحدة إلى أجزاء ومناطق، كل منها له كيانه المستقل، وحدوده الجغرافية، بدلا من البنيان الواحد المرصوص الذي يشد بعضه بعضا، والذي نحن في أمس الحاجة إليه في هذا الوقت بالذات، فضلا عما يستتبع هذا التقسيم، من تعدد للسلطات وتوزيع للصلاحيات التي يتطلبها الاخذ بهذا النظام، الذي لا يناسب بلدا لا يتجاوز عدد سكانه ستة ملايين نسمة، الذين يعادلون عدد سكان حي من أحياء القاهرة.
إن إدارة الكيانات الإقليمية الناشئة عن التقسيم، تشكل عبئا ثقيلا على الدولة، إذ تتطلب لإدارتها عددا من الكوادر المؤهلة، القادرة على النهوض بالمسؤوليات والمهم العديدة في تلك الكيانات، بالاضافة إلى ما تحتاجه من الموظفين والإداريين بأعداد كبيرة، في الوقت الذي تئن فيه بلادنا ـ منذ فترة طويلة ـ من وطأة الجهاز الإداري، بسبب ضخامته وترهله، فضلا عن كفاءته، ولا شك أن ذلك سيكلف خزانة الدولة مبالغ مالية ضخمة مما يرهق ميزانيتها العامة، بدلا من أن تخصص تلك الأموال للانفاق على مشاريع إعادة الإعمار، وبناء دمرته قوات كتائب القذافي في العديد من المدن الليبية، وخاصة في المناطق المغربية، نتيجة القصف العشوائي بشتى أنواع الاسلحة الثقيلة، ناهيك عما يؤدي إليه الأخذ بالنظام الاتحادي، من بعثرة الجهود، وتبديد الإمكانيات، وتوزيع الخبرات والكفاءات المحدودة على هذه الأقاليم أو الوحدات المحلية، بدلا من توفير هذه الجهود والطاقات البشرية وتسخيرها جميعا للاستفادة منها في خدمة الدولة الواحدة، لكي يعم النفع والفائدة جميع أجزاء الوطن، ولا شك أن مجموعة الهواجس هذه تجعل المرء ينتابه الشك وعدم الارتياح إلى مثل هذه الدعوة المطالبة بتطبيق نظام جربناه على مدى أثنى عشر عاما وهجرنا ذلك النظام منذ ثمان وأربعين سنة.
لذا فإن الخشية منها لها ما يبررها، لأنها تحمل في طياتها بذور التشظي والتمزق، بسبب ما تنذر به من حدوث صراعات داخلية بين سلطات الوحدات الاقليمية، حول اقتسام الموارد والمنافع، التي قد تكون قسمة ضيزى، فضلا عن إهمال المصلحة العامة التي تعود بالخير على ليبيا بكاملها، وتغليب المصحلة الخاصة بالأقاليم عليها، وإعطائها الأولوية والأفضلية حت ولو جاءت على حساب المصلحة الوطنية، بل حتى ولو أضرت بها.
ولعل شهادة شاهد عيان من رجال تلك الحقبة، تكفي لبيان ما إذا كان هذا الشكل السياسي صالحا لدولتنا الجديدة من عدمهن حيث قال رئيس الوزراء الأسبق، الاستاذ مصطفى بن حليم، في مقابلة أجرتها معه قناة الجزيرة: “إن الملك ادريس لم يكن راضيا عن أداء النظام الاتحادي، الذي أربك أجهزة الدولة، ثلاث ولايات ـ ثلاث أجهزة تشريعية ـ ثلاث حكومات في ثلاث ولايات، لكل ولاية تشريعاتها التي تختلف عن التشريعات المطبقة في غيرها، بل ويتعارض بعضها مع نصوص الدستور، وأنه قد طلب من إلغاء هذا النظام الغريب”.
وهو ما تحقق بالفعل في عهد حكومة محي الدين فكيني في عام 1963، ونسوق كذلك دليلا آخر على مدى الصراعات الشخصية، والخلافات الدستورية، التي حدثت نتيجة لتطبيق هذا النظام، وذلك يتمثل في قضية الخلاف الذي نشأ بخصوص الأمر الملكي الصادر بتاريخ 19 يناير 1954م، والقاضي بحل المجلس التشريعي لولاية طرابلس الغرب، وذلك لما ظهر من افتقاد لروح التعاون من قبل المجلس التشريعي مع المجلس التنفيذي في الولاية، ولعدم وجود التفاهم والتعاون اللازمين ما بين السلطتين العامتين في ولاية طرابلس الغرب، وقد بلغ الخلاف بين مبلغه، إلى أن تم عرض النزاع على المحكمة العليا في ذلك الوقت.
ومن هذا المنطلق أرى أن المطالبة بالشكل الفيدرالي لدولتنا بعد ثورة 17 فبراير، هي مطالبة معكوسة لا تتسم بالواقعية، كما أنها مخالفة للتجارب التاريخية المعروفة كما سبق القول من حيث الدعوة إلى التحول من الدولة الواحدة الموحدة، إلى دولة مركبة مجزأة!! أي تفتيت وحدثتها، وتقسيم كيانها الواحد، وتجزئته إلى وحداث إقليمية، يتمتع كل منها بشئ من الاستقلال في حدوده عن الآخر، وهو الأمر الذي نحن في غني عنه، ولسنا في حاجة إليه، لأن الاعتصام بالحدة، التمسك بالدولة الواحدة هو ما يعصمنا من الفتن، ويجمع شملنا، ويوحد صفنا، ويقوي شوكتنا، بدلا من التجزئة، التي تؤدي إلى التشرذم والتنازع والفشل.
ويسوق أولئك الداعون إلى النظام الفيدرالي كمبرر لذلك وهو التخلص من تطبيق المركزية الإدارية الحادة إبان حكم القذافي المنهار، التي تسببت في عجز النظام الإداري وفشله في تحقيق الخدمات التي يحتاجها المواطن على نحو مرضٍ في جميع النواحي سواء كانت الأمنية أو الصحية أو التعليمية أو الإسكانية أو الاجتماعية، بالإضافة إلى ما يلاقيه سكان المدن والقرى البعيدة عن العاصمة من عنت ومشقة، من جراء تركيز السلطات الإدارية فيها، واضطرارهم إلى السفر إلى طرابلس لمراجعة الدوائر والمصالح لإنجاز مصالحهم، وإنهاء إجراءاتهم الإدارية، بدلا من تيسير هذه الخدمات، وجعلها في متناول أيديهم.
وبالرغم من وجاهة هذه الحجة، إلا أنها لا تعتبر في حد ذاتها سببا كافيا للتحول من نظام الدولة الواحدة إلى النظام الاتحادي، أم كما يحاول بعضهم عرضه في شكل آخر أو تقديمه بمسمى مختلف (اللامركزية الإدارية الموسعة) ويقترحه كوسيلة لتحقيق العدالة وتطبيق الديمقراطية، وذلك في صورة المحافظات وفقا لقرار مجلس الوزراء بشأن التنظيم الاداري الصادر بتاريخ 29 أبريل 1963م وللمرسوم الملكي بقانون رقم 8 لسنة 1964م بشأن الإدارة المحلية.
القانون نص على الإدارة المحلية في 10 محافظات وهي (طرابلس، بنغازي، سبها، البيضاء، مصراتة، درنة، غريان، الزاوية، الخمس، أوباري) وينص على استقلال كل منها إداريا وماليا في صلب الدستور الدائم المزمع صياغته من قبل الهيأة التاسيسية التي سيختارها أعضاء المؤتمرالوطني العام الذين ينتخبون من سكان تلك المحافظات الذين سيطرح عليهم مشروع الدستور للاستفتاء عليه، ويقضي الاقتراح الداعي إلى الأخذ بنظام اللامركزية الموسعة كذلك بألا تتم إجازته إلا بنسبة 60% من مجموع عدد أصوات الناخبين في ثمان محافظات من المحافظات العشرة آنفة الذكر وأن تنتخب كل محافظة عضوين يمثلانها في ما يسمى بمجلس المحافظات وفقا للنسبة السكانية بحيث تكون اختصاصاته غير الاختصاصات المنوطة بالمجالس التشريعية في المحافظات ويكون من اختصاصه تكليف رئيس الوزراء بشكيل الحكومة وينعقد المجلس التشريعي الوطني مع مجلس المحافظات فيما يسميه الاقتراح بالجمعية الوطنية التي يكون من مهامه اختيار رئيس الجمهورية.
…
يتبع في الجزء الثاني
_______________
المصدر: “المواطنة” مجلة دورية تعنى بالشؤون الفكرية والثقافية والسياسية ـ السنة الاولى ـ العددان الأول والثاني (2011) ـ المجلة صادرة عن منتدى المواطنة للديمقراطية والتنمية البشرية.