هدى مزيودات
خلافاً لما كان عليه مجتمع الشتات في تونس، تتمتع الجاليات الليبية في أوروبا وأميركا الشمالية بعلاقات مختلفة إزاء الوطن، فضلاً عن اختلاف الفرص المتاحة أمام جهود التعبئة والقيود التي تحول دونها، بما في ذلك الشبكات المتينة التي كوّنها أبناء المهجر مع صُناع السياسات في البلد المُضيف، بالإضافة إلى القدرات المختلفة على استثمار المجال العام.
ونتيجة لذلك، اتسمت أشكال التعبئة التي تبناها الشتات في الغالب بأنها ذات طابع سياسي إلى حد بعيد، بل ويضطلع بها أيضاً أفراد الشتات الذين تربطهم علاقات مختلفة مع ليبيا، ترتكز بصورة كبيرة على شعور بالواجب الأخلاقي بالمساهمة في تعافي الأمة والنهوض بها أكثر من مجرد آمال العودة، التي تعتمد اعتماداً كبيراً على جهود وأنشطة الجيل الثاني من الليبيين.
ومِن ثَمّ، فقد اتسم الشتات الليبي في مختلف أنحاء أميركا الشمالية وأوروبا بقدر أعظم من المشاركة الاستباقية في جهود إعادة الإعمار وبناء السلام والتعبئة في مرحلة ما بعد القذافي على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
حين اندلعت الانتفاضة الليبية ضد نظام القذافي في شباط/فبراير 2011، احتشدت مجموعة من النشطاء الليبيين الشباب الذين يعيشون في المدن الأوروبية وأميركا الشمالية، والعديد منهم لم يعش قط في ظل نظامه الاستبدادي، وتمكّنوا من التواصل عبر الإنترنت لإنشاء منظمات مجتمع مدني عابرة للحدود الوطنية تهدف إلى النهوض بالبلاد.
وبسبب القمع العابر للحدود الذي دام عقوداً من الزمن لأصواتهم وأرواحهم ووجودهم، فقد المنفيين الليبيين الذين يعيشون في أماكن بعيدة صلتهم الراسخة بوطنهم.
فقد تمكن شباب الجيل اللاحق الذين وُلدوا غالباً خارج ليبيا وعرفوها من خلال الذكريات والروايات التي عاشها آباؤهم المنفيين، من تحقيق الفكرة المهيبة للجيل الأول من الليبيين الذين يعيشون في الشتات المتمثلة في الانتقال من “الخضوع إلى المواطنة”، وهي عملية تنطوي على التحرر من “أغلال الاستبداد وتبني المشاركة المدنية باعتبارها وسيلة للتغيير الاجتماعي”.
وعلى هذا النحو، كان ظهور المواطنين الليبيين في الشتات على الساحة عندما اندلعت الانتفاضة ضد القذافي بمثابة نهاية لما شهده الماضي من نقص أو غياب جهود التعبئة، واستدراك لواقع ديناميات الشتات الليبي المتغيرة.
فقد ظهرت أشكال مختلفة من النشاط العابر للحدود، ساهم في تواصل الليبيين في الشتات مع أولئك الذين لا يزالون داخل البلاد، والعمل من أجل تمكين الفئات المهمشة. وقد كان “منتدى الشباب الليبي” و”المبادرة المدنية الليبية” من بين أبرز المنظمات غير الحكومية العابرة للحدود الوطنية ، فضلاً عن تأسيس منظمات أخرى بما في ذلك منظمة “منبر المرأة الليبية من أجل السلام”، و”حركة النساء الأمازيغيات”، ومنظمة “معاً نبنيها”، وجميعها تقوم بأدوار فعالة من أجل تمكين المرأة والشباب والأقلية الأمازيغية.
وعلاوة على ذلك، ظهر نوع جديد من الجاليات الليبية العابرة للحدود، يتميز بقدرته على استخدام الفضاءات الافتراضية على الإنترنت والتقنيات الجديدة، من أبناء الجيل الجديد من الليبيين الذين يعيشون في الخارج.
في الواقع، كان استخدام وسائط الإعلام الرقمية عاملاً رئيسياً في عملية الاحتشاد الافتراضية لليبيين في الشتات وخلق شعور مشترك بالانتماء لمجتمع واحد. وبالفعل كانت أبرز وسائل الإعلام الجماهيرية التي حفزت الشتات الليبي أثناء انتفاضة عام 2011، قناة “ليبيا الأحرار”، وهي قناة تلفزيونية مقرها قطر، يُمثل صحفيوها جيلاً من الشباب الليبيين في أغلبهم.
فقد رأى هؤلاء الصحفيون، الذين عاشوا في المنفى قبل أحداث 2011، في هذا المنبر الإعلامي نافذة على ليبيا الجديدة في مرحلة ما بعد القذافي. ورددت القناة الفضائية، التي تُبث من الدوحة، خطاباً مناهضاً للقذافي ومؤيداً للثورة والذي يتردد صداه في الخارج.
في حين بثت هذه القناة، لأول مرة في التاريخ الليبي الحديث، برنامجاً باللغة الأمازيغية، وهي لغة لطالما تعرضت للتهميش يتحدث بها جزء كبير من السكان الذين يعيشون في الجزء الغربي من البلاد. فضلاً عن أن مُقدمة البرنامج التي اشتهرت بها القناة، الإعلامية سناء المنصوري، هي ليبية أمازيغية من مدينة زوارة الساحلية، بالقرب من الحدود التونسية، وهي أيضاً واحدة من أبناء الشتات الليبي.
وقد أدى ذلك، بالإضافة إلى مغنية البوب الصاعدة، دانيا بن ساسي وأغانيها “الثورية”، إلى حشد ليس فقط الأمازيغ الليبيين داخل ليبيا، بل امتد مداه أيضاً عبر الحدود إلى الشتات الأمازيغي الأوسع في أوروبا، مما ساهم في حركة إحياء ثقافة الوحدة الأمازيغية.
يُمكن أن تتضح أيضاً جهود تعبئة الشتات الليبي عبر الإنترنت تماماً في المشاركة الفعالة للشباب الليبي في المملكة المتحدة وألمانيا وأيرلندا وأميركا الشمالية، الذين يتفاعلون مع التقنيات الجديدة من أجل إحداث تغيير كبير وهام على الصعيدين الاجتماعي والسياسي في ليبيا، وكذلك في مختلف مجتمعات الشتات، من خلال بناء المجتمع المُتخيّل العابر للحدود الوطنية والقيام بعملية توافق بين أفكار الأفراد وأفكار الحركة.
وإدراكاً لقوة وسائل الإعلام الجديدة مثل المدونات الإلكترونية، وبرامج البودكاست، وقنوات التواصل الاجتماعي على غرار “يوتيوب” و”فيسبوك”، فقد اضطلعت هذه الوسائل بدور محوري في تشكيل الشعور بالانتماء إلى الأمة الليبية، وفي المساهمة في التوصل إلى فهم مشترك للمخاطر التي ينطوي عليها الصراع الليبي، والمسائل الجوهرية اللازم توافرها لبناء السلام.
وبذلك، كشفت هذه المنصات الجديدة أيضاً عن أوجه التجديد التي شهدها المجال السياسي والاجتماعي الليبي في مرحلة ما بعد القذافي.
من الأمثلة البارزة على إحدى منصات التعبئة التشاركية على شبكة الإنترنت، هي برنامج البودكاست “داميري” الذي يقدمه الأميركي من أصول ليبية طارق الميري. وقد أصبحت هذه المنصة المجتمع الرئيسي على الإنترنت الذي يحتضن الشتات الليبي في أوروبا وأميركا الشمالية، فقد استضاف الفنانين والطلاب والصحفيين الليبيين والنشطاء في مجال حقوق الإنسان والمحامين والكُتاب.
وبصفة خاصة، ألقى البودكاست الضوء على الكاتب الروائي هشام مطر، الحائز على جوائز أدبية عالمية، وابن مُعارض ليبي اغتاله القذافي في السبعينيات، وقد أعطى وصفه للفقدان والنفي والذاكرة المنصة آفاقاً عالمية، وحظيت بفرصة هامة لكسب المتابعين ليس فقط بين أوساط الليبيين في الشتات، بل أيضاً في أوساط الباحثين والصحفيين المهتمين بالشأن الليبي.
أراد الميري، وهو نفسه نجل أحد الليبيين الذين عاشوا في المنفى بالولايات المتحدة الأميركية (ولديه تجربة سابقة في العيش في المغرب)، أن تجمع المنصة الأصوات الليبية المختلفة من أجل إحداث تغيير إيجابي في حياتهم، فضلاً عن توطيد سبل التواصل بين الليبيين من مختلف مناحي الحياة، وكل ذلك من خلال سرد القصص.
وعلى نحو مماثل، استضاف برنامج البودكاست “ليبيا تهمّنا”، وهو المنصة الرئيسة على الإنترنت التابعة لشبكة حقوق الإنسان “محامون من أجل العدالة في ليبيا”، منذ إطلاقه عام 2019، النشطاء والعاملين في مجال حقوق الإنسان، ونشطاء المجتمع المدني، وكذلك الفنانين والمحامين والأكاديميين.
يهدف البودكاست إلى إجراء محادثات غير رسمية مع الخبراء والمختصين حول قضايا اظهار الحقيقة والعدالة وحقوق الإنسان في ليبيا. وبذلك، يساهم البودكاست في تشكيل الطريقة التي يُفكر بها المستمعون الليبيين وغير الليبيين في قضايا العدالة والحقوق في السياق الليبي.
في الواقع، أثبتت برامج البودكاست (المدوّنات الصوتية) أنها أحد أفضل وسائل التواصل مع الليبيين الذين كان من العسير الوصول إليهم في الشتات، نظراً لعدم وجود البعض على وسائل التواصل الاجتماعي.
لكن ربما الأهم من ذلك أن البودكاست قد بنى مستويات جديدة من الثقة بين مختلف الجاليات الليبية في الشتات، وخصوصاً في أوروبا. وكما تشرح ألِيس آلونّي مسألة الثقة بين الليبيين في الخارج، فإن الشكوك والريبة قد زادا من الشعور بالعُزلة، وأسهما أيضاً في بناء جاليات صغيرة على أسس أيديولوجية ضيقة.
ونتيجة لذلك كان هناك فشل في “إنشاء فضاء عام لجميع الليبيين في الشتات”. وهكذا استطاع البودكاست مواجهة هذه الديناميات. إضافة إلى ذلك، أسهم إنشاء مجتمع إلكتروني لليبيين في الشتات أيضاً في تحفيز الآخرين على مواصلة نشاطهم، حتى وإن كان هذا فقط من خلال الإسهام في تشكيل المجتمع المُتخيّل والمشاركة في الفضاء الافتراضي العابر للحدود.
في الواقع، فإن النظر إلى نماذج من صفحات بعض المستمعين الليبيين في الشتات إلى بودكاست “داميري”، يكشف لنا استمرارية مهمة في النشاط. فمن بين المستمعين الستة الذين تجاوبوا مع الاستبيان الإلكتروني الذي وزعته منصة البودكاست، كان خمسة منهم من نشطاء المجتمع المدني في ليبيا، وجميعهم غادروا البلاد منذ عام 2011.
وقد واصل خمسة منهم أيضاً نشاطهم في الخارج، وقاموا بمجموعة من الأنشطة المختلفة سواء على الإنترنت أو على أرض الواقع، إسهاماً في بناء السلام وتعزيز الحريات الفردية والمدنية وتمكين المرأة في ليبيا.
ويُعبّر هؤلاء الأفراد في الشتات الليبي، الذين يربطهم مجتمع إلكتروني افتراضي، عن رغبتهم في لعب دور محوري في تمكين الفئات الاجتماعية المختلفة في المجتمع الليبي التي طالما تم تهميشها، وخصوصاً النساء، ودعم العملية الديمقراطية في ليبيا.
***
هدى مزيودات ـ صحفية مستقلة وباحثة في مجال الشؤون الليبية والتونسية
_____________
المصدر: وسائل التواصل الاجتماعي