د. حسني بن زابيه
خصائص ثورة فبراير فريدة ومتميزة عما سبقها من الثورات في تاريخ ليبيا الحديث والتي كانت في مجملها من حيث الريادة والإمداد والتنظيم والطموح قبلية صرفة، فحركة الجهاد مثلا كانت فيها معارك (الادوار) للقبائل هي الاستراتيجية المتبعة والاكثر اتفاقا ونجاحا.
ولكن ما حدث يوم 17 فبراير قلب كل الموازين والتوقعات على كافة الأصعدة، فأحدث الحدث منعطفا تاريخيا على الصعيد الاجتماعي للمجتمع الليبي فانزوت القبيلة ورجحت كفة الشعب وكان الولاء للوطن ولا سواه. فثورة فبراير ليست قبلية ولا جهوية ولا طبقية ولا أي تصنيف آخر سوى أنها ثورة شعبية عارمة بامتياز.
قد يتبادر إلى ذهن البعض سؤال، لماذا هناك تحامل أو إدانة للنظام القبلي؟
القبيلة نزعة تعصبية تعبر عن ولاء الفرد لقبيلته والقبيلة تتضارب مع مؤسسات الدولة التي تعمل على استيعاب أفراد المجتمع في عصر الدولة الحديثة. يستند التنظيم القبلي في جوهره على روابط الدم وأن العمر والنوع الاجتماعي من محددات النظام، فهيمنة جنس الذكور من فئة الشيوخ والكهول على مقدرات الجماعة ضرب من التمييز والشوفانية، فالقبيلة والقبلية تعمل ضد الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني وإقصاء المرأة وتهميش الشباب. وببساطة، لا يستطيع المجتمع الليبي مواجهة التغيرات العالمية في القرن الواحد والعشرين بالفطرة والعُرف وروابط الدم.
فترة الحكم التركي
بدأ تطور المخاض التاريخي للقبيلة والقبلية في ليبيا إلى صورتها المعاصرة منذ أن وقعت البلاد تحت براثن الحكم التركي الذي اتبع أسلوب الانغلاق وعزل السكان عن التيارات الثقافية الخارجية وتفتيت اللحمة الوطنية عن طريق التآمر والفتنة وشراء الذمم وعقد التحالفات لضرب القبائل بعضها ببعض.
في التجمعات العمرانية أضفى الأتراك الصبغة القبلية على التركيبة الحضرية للمدن الرئيسية المتمثلة في طرابلس وبنغازي ودرنة، أي أنها قسمت محلات المدن بين القبائل الرئيسية المقيمة بها على أن تنطوي الأسر والأقليات الصغيرة الأخرى تحت كنفها عن طريق ما يعرف بـ “المكاتبة”، ومن هنا أُكد على الصبغة القبلية للمدينة كما حُرمت من فرص تطور سماتها الحضرية ونمو مجتمع مدني بها مثل الذي واكب تطور كثير من مدن البحر المتوسط خلال تلك الفترة.
في المناطق الريفية والبدوية كانت الصورة القبلية أعمق تجذرا وذلك لطبيعة الحياة الرعوية، فقُسمت المراعي بين القبائل القوية، فهيمنت على أغلب أراضي الولاية بطون القبائل الكبيرة بقوة حق الانتفاع أو ما يعرف بـ “وضع اليد”. هذه الترتيبات لم ترض كثيرا من القبائل التي حُرمت من حق الرعي والحراثة ومن ثم ساد البلاد حالة من الصراع والفوضى استثمره الأتراك في التلاعب بمراكز القوى المحلية من أجل تثبيت أقدام حكمهم.
من المنظور الثقافي، لم ينضج مفهوم الوطن ولم تتبلور ماهية الشعب والأمة بين السكان تحت هيمنة النفوذ القبلي، واقتصر الولاء والهوية والانتماء للقبيلة داخل حدود أراضيها المتعارف عليها ضمنا كما أصبحت الرقعة الجغرافية لمضارب القبيلة مرادفة للوطن. عزّز الأتراك هذه الترتيبات وباركوا العملاء والاذناب من المشايخ المعروفين بولائهم المطلق للسلطانواجتهادهم في جباية الضرائب والإتوات للباب العالي.
طيلة الحكم التركي لم تنعم البلاد بالأمن والاستقرار وكانت الخصومات القبلية على أشدها والدروشة والطرق الصوفية كانت ثقافة العصر والمجتمع، فحقا كانت فترة جهل وظلام دامس طفق وجثم على البلاد حوالي أربعة قرون. فترة تعيسة سيئة في تاريخ ليبيا، ما زلنا نتحمل تبعاتها بدرجات متفاوتة إلى يومنا هذا.
فترة الاستعمار الإيطالي
اتبعت ايطاليا أسلوبا مغايرا في تقويض الهوية وتفتيت اللحمة الوطنية للسكان، بدأتها بخطوات منهجية وهي:
أولا ـ إطلاق اسم ليبيا مجردا كتعبير جغرافي محدد الدلالة على كل الاراضي الواقعة تحت سيطرتهم في برقة وطرابلس وفزان، وذلك لإعطاء هوية جديدة لمستعمراتها تتمشى مع طموحات مشاريعها الاستعمارية الاستيطانية.
ثانيا ـ عملت على دمج الأراضي التي احتلتها مع خريطة البلد الأم لكي تشكل ما عرف بالشط الرابع لايطاليا.
ثالثا ـ وعلى ضوء دراسة مشوشة ومنبطنة عن توزيع وتركيب القبائل المنتشرة خارج نطاق الحضرية، شرعت ايطاليا بمصادرة الأراضي الخصبة وحرمان القبائل من مراعيها وقطع سبل عيشها وتشتيت شملها وتحويلها إلى بروليتاليا حضرية لخدمة الآلة الفاشستية الموظفة لإعادة أمجاد روما.
رابع ـ نزعت الهوية الوطنية عن السكان ليصبحوا في نظر سلطات الدولة مجرد رعايا إيطاليون ولكن مسلمين حسب الديانة.
انقلب السحر على الساحر، فرجع الحق إلى نصابه وسقطت الهوية الإيطالية لتصبح ليبية بجدارة، وشاء القدر أن اسم ليبيا أعطي صبغة اثنولوجية للمكان لم يعدها منذ بداية تدوين التاريخ.
فترة المملكة الليبية
استتب الأمن بعد استقلال ليبيا وعمّ الرخاء بعد اكتشاف النفط ومن ثم شُرع في بناء الدولة الحديثة، ومن هنا بدأت سياسات الاستقرار والتوطن لتأكيد اللحمة الوطنية والحد من الخصام القبلي، وذلك عن طريق إعادة توزيع الأراضي وتنمية مشاريع الاستيطان الزراعي وتحديث المجتمع الليبي بشتى الوسائل.
كما أن تدفق الهجرة من الريف إلى المدينة سارع من وتيرة عملية التحضر والحضرية وتفكيك القبلية وإضعاف شوكتها. هذه السياسات والتغيرات الانتقالية الناجمة عنها كان لها ردود أفعال ملموسة في الحد من العصبية والنعرة القبلية.
واقعيا دخل المجتمع الليبي في مرحلة الفتور القبلي ـ إن صح التعبير ـ حيث اصبحت القبيلة لا تعني شيئا على مستوى الإنجاز الفردي، ولكن نفوذ مشايخ القبائل بقي مهيمنا على المشهد السياسي وذلك لسطوة الحرس القديم ولغياب الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني في البلاد، وللأسف خطئية ذلك العهد، أن الفراغ السياسي الذي أحدثه مهد البلاد للسقوط في براثن شمولية السلطة بدون صعوبة تذكر.
مرحلة حكم العسكر
من صدور البيان الأول للانقلاب العسكري عام 69 والنظام الشمولي المتسلط كان دائما يذكي حضور القبيلة في المجتمع الليبي عن طريق توظيف مآثر القبيلة لمأرب النظام السياسية في ترسيخ سلطته المطلقة، وذلك عن طريق استلاب صلاحيات مؤسسات الدولة وإخضاع شؤونها تحت تصرف رموز قبلية موالية، ومن ثم طمس مكونات المجتمع المدني وعطّل الديمقراطية التي كانت تشكل التحدي الأخطر لصولجان حكمه، فكانت من أولى مقولاته “من تحزب خان” وبذلك أوصد باب الحريات والتعددية وفرص الحكم الرشيد في ليبيا لأكثر من أربعين عاما.
أجّج النظام المنهار الزخم القبلي والجهوي في البلاد بعدة أساليب منها:
ـ ابتكر هيكلية سياسية للحكم (اللجان الشعبية) التي، يتم فرز قياداتها بالتشاور المعلن (التصعيد) وليس بالاقتراع السرّي وبذلك فتح المجال للتحالفات والرهانات والصراعات القبلية الجهوية على إدارة الشؤون المحلية.
ـ كما روّج النظام لمصطلحات مثل “الزحف” و “التصعيد” و “القيادة الاجتماعية” و “المؤتمرات الشعبية” التي وجدت في القبيلة والنعرة والعصبية القبلية أرضا خصبة للمارسة والتطبيق.
ـ كذلك رسم حدود الإدارة المحلية تكرارا وفق تقسيمات قبلية صرفة، فبررت وحدات إدارية غير فاعلة على رقع جغرافية تفتقر إلى التجانس عدا تركيبتها القبلية.
ـ أيضا ابتدع النظام ما يعرف بالقيادات الشعبية الاجتماعية وهو صراحة جسم قبلي يتصدر الدولة ويتكون من زعامات قبلية (افتراضية) تدعى مباشرة من رأس النظام لمعالجة القضايا التي تتعلق بأمن الدولة وخاصة مراقبة تحذير وإرهاب المنتسبين لمعارضة النظام في الداخل والخارج.
ـ إيضا دعم “مشايخ القبائل” عن طريق إدارة توزيع السلع والخدمات العقارية والقروض المالية وتوفير فرص العمل وغيرها من المزايا على إتباعهم.
ـ كما تم توزيع مقار لهم كمنتديات ولتصريف شؤون القبيلة.
ـ كذلك سخر النظام كامل وسائل الإعلام في تضخيم أهمية دور القبيلة في المجتمع متظاهرا الاهتمام بالتراث الشعبي.
الأخطر عما سبق أن النظام وضع على أعلى سلم الهرمية القبلية قبائل بعينها دون غيرها لارتباطها برموز محددة في سدة الحكم، أي بمعنى آخر عقد تحالفات غير معلنة للمآزرة عند الضرورة واستنفار القبائل لمبايعة رأس النظام بصورة دورية خاصة عند الأزمات.
من جانب آخر، استغل النظام القبيلة كـ “فزاعة” لترهيب الشعب الليبي وبث الرعب فيه، من خلال الإيحاء بان أمن الناس وممتلكاتهم في خطر في حالة سقوط النظام الذي يترتب عليه وقوع البلاد في أتون حرب أهلية، مما أصبح مبررا للكثير التأكيد على أهمية الانتماء والتكتل القبلي.
صاحب الأساليب آنفة الذكر انتشار سلوكيات في بعض الأوساط المستفيدة والمحسوبة على النظام المنهار والتي كانت تداعياتها مفسدة للواقع الاجتماعي مثل المحاباة والوساطة والمحسوبية والنعرة والعصبية، مما أدى إلى انعدام الشفافية واستشراء الفساد المالي والإداري والقضائي وتدهورت معها الأخلاقيات العامة وتعطلت القوانين ودخلت البلاد مرحلة الفوضى المنظمة.
ما زال النظام وهو يحتضر اليوم يلعب بورقة القبلية والجهوية للتقليل من شأن مبادئ وقيم ثورة فبراير المنظمة في الحرية والديمقراطية من ناحية، وإضفاء النزعة الانفصالية على الصراع من ناحية أخرى، خصوصا بعد فشله في التحجج بتعاطي عقاقير الهلوسة وتنظيم القاعدة.
ثورة فبراير
على الرغم من هذه المناورات والسياسات العابثة المبطنة إلا أنها لم تنطو على الشعب الليبي واثبت فشلها الذريع عندما سقط وتهاوى النظام في أقل من 48 ساعة في أغلب المناطق المأهولة بالسكان، وخرج الشباب بألقابهم المتنوعة تنوع أطياف ألوان الصحراء الليبية ملتحفين علم الاستقلال يدا واحدة ويجمعهم هدف واحد: النصر أو الاستشهاد، وليبيا قبيلة واحدة، وينشدون نموت، نموت ويحيا الوطن.
من الجلي كما برهن شباب ثورة فبراير، أن الشعب الليبي تجاوز القبيلة والقبلية ويبدو ذلك في تقديري منذ أن حط الرحال إلى المدينة، فالشعب الليبي شعب حضري بطبيعة نمط الاستيطان (يعيش أكثر من 88% من السكان داخل مدن، 2006)، فأضحت المدن الليبية أطر لانصهار كافة فعاليات الحداثة، فيها تضمحل وتتآكل داخل بيئاتها الحضرية العشائر القبلية وتطغى المؤسسة المدنية والمصحلة الفردية، و “الشللية”، والجماعة الوظيفية، ومشجعي الاندية الرياضية ومنتسبي المنتديات الثقافية والصداقة وحق الجيرة على أوليات السلم الاجتماعي، فلا مكان للقبيلة في المدينة.
بل المسألة ذهبت الى ابعد من ذلك فتماسكت اللحمة الوطنية لكل اطياف اعراق الشعب الليبي من عرب وأمازيغ وتبو وطوارق والتفوا جميعا حول راية 17 فبراير وأصبحت ليبيا وطن لكل الليبيين دون إقصاء وتهميش.
حقا برهنت ثورة فبراير عمليا على أن المجتمع الليبي دخل مرحة النضج، فانصهرت كافة أطياف نسيجه الاجتماعي في بوتقة واحدة: ليبيا أولا وأخيرا.
___________
المصدر: “المواطنة” مجلة دورية تعنى بالشؤون الفكرية والثقافية والسياسية ـ السنة الاولى ـ العددان الأول والثاني (2011) ـ المجلة صادرة عن منتدى المواطنة للديمقراطية والتنمية البشرية.