سالم الكبتي

(لايمكن للثورة أن تؤتي ثمارها دون قاعدة أخلاقية توازن جنون التاريخ . إننا عازمون على استبدال السياسة بالأخلاق ..وهذا مانسميه الثورة) … ألبير كامي

إن المذكرات (زيارة جديدة للتاريخ) وهي تستنطق التفاصيل وتلامس الجوانب بكل حيادية ونزاهة إذا كتبت بتجرد ودون تحامل.

والمذكرات بصورة إجمالية شيء مهم وضروري عندما يتولاه بشجاعة المنطق والحجة والاعتراف بالأخطاء كل القادة والسياسيين والعسكريين وغيرهم من أصحاب التجارب والمواقف.

والمذكرات أيضا شهادة من الضمير أمام الله والتاريخ والإنسان وهي في كل الظروف تكشف وتجلو وتضيء وتنزع. إنها تقوم بذلك دفعة واحدة. كيف؟!
أقول: تكشف عن المخبوء والمدسوس والمردوم تحت الرماد بفعل فاعل معلوم أو مجهول. وتجلو الصدأ عن الكثير وتعيد له بريقه وتجعله يتوهج .
وتضيء أمام الآخرين معالم طريق ومجاهل دروب. وتنزع الخوف الذي يرين في الصدور عند البعض أو الكل من الناس.

أعني المذكرات الحقيقية التي سنظل في ليبيا نحلم بها.. نحلم أن نراها ونقرأها ونستفيد منها ونبني عليها أسسا ومرتكزات. وفي الواقع على امتداد العالم نهض الكثير من الرجال والمسؤولين بالكتابة في هذا الأمر بصدق ونزاهة. لم يلبسوا لباس الغرور مثل الطواويس.

اعترفوا بالأخطاء وبينوا تجاربهم ببسالة وظلت كتابتهم مصدرا من مصادر التاريخ الحي الذي لايموت. والكثير أيضا في جانب آخر يغدو مظلما على الدوام كتبوا كتابة باهتة  صفراء لم يكن فاقعا لونها ولاتسر الناظرين بأي حال، فماتت سطورها قبل أن تغادر حلبة السباق وغابت عنها الشمس في الأفق البعيد.

إن المذكرات تعتمد المصداقية والموضوعية قبل أي شيء آخر، ولهذا فأن العديد من المفكرين والسياسيين في العالم نجحوا وكانوا أفضل رغم مايشوب كتابتهم من هنات أو انحياز من بعض رجالات العرب.. إلا فيما ندر. المذكرات والتاريخ عندنا يكتبه الجانب الأقوى فقط.

وقد ظل الليبيون من المهتمين والمتابعين لشؤون وطنهم وأحداثه ينتظرون أن تسد (المذكرات المنتظرة) العديد من الثغرات والنواقص التي لاتنتهي وتكمل جانبا مهما في مصادر تاريخنا ووقائعه المعاصرة. إن هذا الجانب لم نع أهميته وتأثيره بعد رغم ظهور وصدور بعض السير والتراجم والمذكرات والشهادات المعاصرة ومع ذلك بقى النقص يلاحظ في إرشيفنا التاريخي عبر كل اللحظات.

المذكرات أيضا في جانبها السياسي تاريخ وتفاصيل وقبل ذلك أخلاق تلتزم المهنية والحرفية وتبتعد عن الشخصنة والأنانية والمبالغة والنفخ في الذات بلا مبرر وتحقق ولو قدر يسير من الموضوعية واحترام الاختلاف والعقول والشهود الموجودين.

هذا التاريخ المتصل بالوطن على وجه الخصوص يتعين أن يسرد ويكتب بأمانة وإذا مافقدت المذكرات توازنها مثل أصحابها وضيع المقاييس فإنها بهذا الشكل تصبح لا قيمة لها من قريب أو بعيد.

ومذكرات الرائد عبد السلام جلود التي صدرت في شهر يناير هذا العام عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بقطر على طول صفحاتها التي فاقت أربعمائة صفحة مع ملحق للصور التي كانت في مجملها غير واضحة وأخذ من مواقع التواصل.. لم تتوخ للأسف ما يجب أن تكون عليه مذكرات رجل سياسي في ليبيا على مدى فترة من السنين عرف خلالها بأنه الشريك الرئيسي أو الرجل الثاني في الدولة.

لقد امتلأت تلك الصفحات منذ البداية بالنرجسية والتحامل والعزة بالنفس وتمجيدها وافتعال البطولات وطمس الكثير من الحقائق والتغافل عنها بتعمد أو نسيان ظاهر لكل العيون، وعلى هذا فإن الموضوعية تقتضي أن توصف علميا وسياسيا وتاريخيا وأخلاقيا بأنها ليست مذكرات أو تفاصيل سياسة أو تاريخا يتعلق بهموم الوطن وأبنائه.

إنها صفحات لا تليق برجل دولة أو سياسة على أقل تقدير أو هاو لهما أيضا.

مذكرات الرائد جلود تمتليء إلى حافتها بالأخطاء في الأسماء والأحداث وتمضي في توجيه اللعنات والشك بالمقصود والردح في الآخرين. وهي صفات لا تليق أبدا برجل كان يشغل الدنيا في ليبيا وخارجها كما يعتقد الكثيرون.

مذكراته كانت وستظل مجرد (فشة خلق). صمت الرائد طوال هذه الأعوام ثم فش خلقه كما يقول أخوتنا في الشام الذين يعرفونه جيدا!

لقد بدت مذكراته متناقضة في الواقع على طول مواضعها وفصولها مع مشاركاته السابقة التي حضرها وأدلى بدلوه خلالها في لقاءات مرئية: على سبيل المثال.. ذكريات الثوار في سبتمبر 1974 ولقاء الخلية الأولى في مارس 1977 ولقاء آخر في سبتمبر من العام نفسه وغيرها من خطب وتنظير وبيانات. إضافة إلى لقاءات قريبة جدا تمت معه بعد فبراير 2011 عبر فضائيات عربية مختلفة.

إن التناقض يبدو واضحا وعدم التوازن أيضا وهذا العامل المؤسف يؤكد لنا أن ذاكرة المسؤول لدينا تتبخر وتظل ضعيفة بوجه عام وأنه، أي هذا المسؤول، لا يسجل أو يدون الوقائع لحظة بلحظة كما يفعل رجال العالم وقادته. وأنه، أي هذا المسؤول، أيضا لايملك أرشيفا منظما تسهل العودة إليه أو الاحتفاظ به.. على الأقل وفقا للإمكانيات التي تتاح له بتخزينها أو وضعها في مصادر التوثيق والأرشفة في أيد أمينة ومؤسسات خارج ليبيا.

ولذلك تأتي هذه الفشة مشوهة وخلوا من الوثائق والأسانيد التي تعزز ما يقوله علاوة على أنه يكلف أحدهم من غير الليبيين بنقل ما يقوله وكتابته. فعن أي مذكرات نتحدث.. وقد صدرت الآن بهذا الشكل؟

أهدى الرائد جلود المذكرات إلى أمه التي فقدها وعمره سنة واحدة وإلى والده الذي فقده وهو في الثانية وبضعة أشهر من عمره ولم يتمتع بالحنان والعطف بناء على ذلك حسب إشارته. وكذا إلى الشعب الفلسطيني. وسمى المذكرات بالملحمة. فأي ملحمة يقصد، فقد تداخلت صورها داخل الكتاب. وربما هذه التسمية تحيلنا إلى أن إخوتنا في الشام أيضا يسمون محلات الجزارة بالملحم.. ملحمة فراس. ملحمة أبي عواد. ملحمة باب الحارة.. وهكذا .

ثمة كتاب أصدره الإعلامي الجزائري محمد بوعزارة عام 2018 وهو والد المذيعة بقناة الجزيرة فيروز زياني وكان قريبا من مواقع القرار في فترة رئاسة هواري بومدين على وجه التحديد ذكر فيه أن أم جلود موجودة في الجزائر وقد أسر الرائد جلود في السبعينيات خلال إحدى زياراته للجزائر وكان رئيسا للوزراء إلى الدكتور العربي الزبيري بأن أمه جزائرية وأن أباه طلقها وهو مايزال صغيرا ويتمنى رؤيتها.

وبدأت الدولة على أعلى المستويات في البحث عنها وكان الرئيس بومدين ومحمد شريف مساعدية على علم بذلك. تولت الرئاسة الجزائرية إحضار العجوز المقيمة في الصحراء مع زوجها بولاية إليزي إلى فندق الأوراسي بالعاصمة والتقاها جلود الذي، كما يتحدث بوعزارة، لم يتمالك نفسه وارتمى في أحضانها باكيا كطفل صغير!! وهذه المعلومات تظل مفتوحة ولم يعلق عليها الرائد بأي شيء طوال الفترة الماضية ولم يفصح عنها في الداخل أو الخارج وكل الاحتمالات تظل مفتوحة.

ثم كيف يتم التعامل بموضوعية أو بمنهجية مع ما يذكره الرائد من نسيانه للأسماء.

فمثلا يشير إلى الضابط المعروف أحمد عبد الله بوليفة وقد كان آمرا للحرس الجمهوري ومن أعضاء التنظيم وشارك في حركة عمر المحيشي وقتل على الحدود مع تونس بأنه ضابط يدعى بوليفة. ويخلط بين عبد الرحيم بللو زميله في التخرج بالدفعة السابعة من الكلية العسكرية عام 1965ويعتبره وزيرا والأصح شقيقه عبد الكريم بللو.

كان وزيرا للتخطيط في حكومته وتركها بعد مصادمة معه مثلما ترك له المشاركة في حكومته السيدين محمد بن يونس رحمه الله وكان وزيرا للخدمة المدنية وعيسى القبلاوي الذي كان وزيرا للتخطيط وأشارا له بأنهما ليسا تلامذة لديه. ويشير إلى محمد مصطفى المازق معلمه في سبها هو والقذافي بأنه رئيس تحرير جريدة فزان والصحيح أن رئيسها هو الأستاذ محمد عمر الطشاني. ربما الأستاذ المازق نشر بعض المقالات خلالها لكنه لم يترأس تحريرها.

ويشير إلى أنه يوم الأول من سبتمبر وكان في طرابلس اتجه إلى اعتقال السيد أحمد عون سوف وزير الداخلية واعتقال رئيس الحكومة ونيس القذافي. وذلك ليس صحيحا. كان السيد معتوق آدم الرقعي وزيرا للداخلية ورئيس الحكومة يتواجدان يومها في البيضاء.

وذكر أن الزعيم علي عقيل سانده في استدعاء القوات المتحركة واستسلامها والصواب أن السيد عقيل رفض خيانة قسمه وواجه الحركة بعدم المسايرة أو الموافقة ووضع في السجن مدة خمس سنوات.

وأنه أشار إلى الضابط محمد عزوز وهو الرائد عبدالمطلوب عزوز وكان يتقدمه رتبة ومرتبة في سلاح الهندسة بالجيش.

وأنه يتحدث عن العقيد مختار البنغازي آمر سلاح الدروع مرة باسم إبراهيم وتارة أخرى بأسم عبد الله.

وعن العقيد طيار محمود التهامي أحد ضباط التنظيم الذي شارك معه في مفاوضات شراء الميراج في فرنسا بمحمد التهامي.

وأن العقيد امبارك عتيق حسب توكيده في المذكرات كان آمرا لكتيبة الفضيل.. الحرس الجمهوري في بنغازي التي هوجمت في فبراير 2011 في الوقت الذي كان عتيق في رحاب الله منذ شهر يونيو 1999 أثر حادث سيارة في المخيلي وكان يدير أحد المواقع الإنتاجية هناك.

وأن اللواء عبد الفتاح يونس كان ينسق معه في تلك الأحداث وأنه قتل أمام أحد الفنادق في بنغازي. والواقع غير ذلك والتفاصيل قريبة ومعروفة فكيف بالتفاصيل البعيدة في الأفق غير المتوازن عند الرائد.

وأن الطائرة التي كانت تقل قادة الانقلاب ضد النميري في يوليو 1971 أجبرت على الهبوط في طرابلس وكان على متنها هاشم العطا والواقع غير ذلك. الطائرة أنزلت في مطار بنينا ولم يكن على متنها العطا فقد كان في الخرطوم يدير الانقلاب وإنما كان رفيقاه فاروق حمد الله وبابكر النور اللذين سلمتهما ليبيا للنميري وأعدما مع الكثيرين عقب عودته للسلطة.

ويشير هنا بالقول إلى المشير سوار الذهب بأنه وجده إنسانا متخلفا وهو الذي مثل في الوعي العربي المعاصر ظاهرة نبيلة تختلف عن العسكر العرب في التنازل عن السلطة!!

وواصل على طول المذكرات شتمه لبعض القادة العرب. في فلسطين ومصر والمغرب وتونس والجزائر والأردن والسودان ودول الخليج وسيأتي كل ذلك في عرضنا لهذه الفشة.

.. لقد نجح الرائد في أن يكذب أهله ويخرج طوال مذكراته من خطأ إلى آخر بصورة مخجلة. ونسي أنه كان شريكا وجزءا في منظومة معمر القذافي التي لا يستقيم معها الإصلاح أو تقويم الاعوجاج.

وهناك المزيد مما يتصل بالأخطاء عبر اللجان الثورية ومجلس الوزراء ولبنان وإيران وسوريا التي لعب فيها دور البطل وقيمه خلالها د. خالد الخيري وكان طبيبا خاصا للعقيد القذافي في الفترة من 1972 إلى 1984 وذهب معه إلى سوريا أيام الحرب والمواجهات مع الثورة الفلسطينية على مدى ستة أسابيع متواصلة عام 1976.

لقد أشار إلى البطولات التي تحدث عنها الرائد في مذكراته عبر كتابه الصادر في المغرب في سبتمبر 2011 بعنوان (معمر القذافي ورفاقه وأنا) يقول الطبيب الخيري في فصل (العقيد وعبد السلام) بعد أن يسرد العديد من المواقف المخجلة واهتمام الرائد بقدراته الحسية ومغامراته (كانت لقاءاته في دمشق تبدأ من الساعة العاشرة صباحا وحتى الثانية ظهرا بعدها يتناول الرائد غداءه ويتوجه لمقر رفعت الأسد ويعود في ساعات الصباح الباكر مخمورا. استدعاني في أكثر من مرة يطلب حبوبا ضد الصداع وكانت رائحته تفوح خمرا).

فكيف يستقيم النضال والسهر.. مع ادعاء البطولات.

من حق جلود أن يكتب كما يحلو له ومن حقنا أن نواصل الكشف عن الكثير من التناقضات في فشة الخلق التي ظهرت مع شتاء هذا العام..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *