محمد الصادق
بريمر أرسى المحاصصة في العراق
مرّ العراق الحديث بكوارث بالجملة، منذ تولاه حزب البعث، كللها بهدم الدولة العراقية بعد الاحتلال. والبعث هذا لا يمكن أن ننتظر منه إلا الخراب، أينما حل أو ارتحل. يكفي أنه دمَّرَ أٌقدم عاصمتين عربيتين، دمشق وبغداد.
لكن، للعراق الجديد قصة أخرى بعد الغزو الأميركي، لابد من تسجيلها.
في مارس/ آذار 2003، دخلت القوات الأميركية والبريطانية الحدود العراقية، بعد مسرحية إعلامية سمجة، أدى دورها وزير الخارجية الأميركية، كولن بول، في مناسبات دولية عدة، عن وجود “أسلحة دمار شامل” في حوزة نظام صدام حسين، وعن علاقة بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة المتهم بالهجوم على الولايات المتحدة في 11 سبتمبر 2011.
إثر تلك العملية، عمدت القوات الأميركية إلى اجتياح بغداد، وتنصيب بول بريمر حاكماً مدنياً مؤقتاً على “العراق الجديد“، ومبعوثاً خاصاً من الرئيس الأميركي، جورج بوش، وكانت وظيفته الرئيسية الإشراف على إعادة إعمار العراق، وتشغيل مؤسساته الحيوية.
لا يخفى على أحد أن رجال البيت الأبيض لم يكونوا يملكون خطة لما بعد الاحتلال، وهذا أكدتهُ أغلب تقارير الصحف ومراكز الدراسات الأميركية، حيث ظل بريمر يتخبط مع مجموعة من الساسة المعتادين على المعارضة، أكثر من اعتيادهم الإدارة والحكم، كما اعترف هو في كتابه “عام في العراق“.
ومن كوارث اقترفها بريمر أنه حلّ الجيش العراقي الوطني، والفرق التابعة لقوى الأمن، وأنشأ نظام المحاصصة الطائفية، المعمول به في العراق اليوم.
تقوم فلسفة المحاصصة الطائفية على تعريف المواطنين بحسب انتمائهم الإثني، وبناءً على نسبة كل جماعة إثنية داخل حدود الدولة الوطنية، تُحدد نسبة حصتها في أجهزة الدولة ومؤسساتها، وهو شكل من أنظمة الحكم السياسي، تُصمم غالباً لحماية حقوق الأقليات، وهو النظام المعمول به في لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية، وجميعنا يعرف كيف يُحكم لبنان اليوم.
ولهذا النظام مساوئ جمة، تبدأ من تعريف المواطنين سياسياً على أساس انتماءاتهم (الأصلية) المذهبية في العراق، ولا تنتهي بعملية النهب المشرعن التي يُمارسها زعماء الطوائف.
يسيرٌ على مراقب مثل هذا النموذج من الحكم الوقوف على الآثار المدمرة لنظام المحاصصة الطائفية. والعراق، وبعد ثلاث جولات انتخابية، كان مُفترضاً أن تعزز الحياة الديمقراطية، وترسخ الحريات وحقوق المواطنة وتصوغ هوية وطنية، ينزلق في قعر الطائفية أكثر وأكثر، حتى باتت تهدد وحدة أراضيه، بعد أن قضت على السلم الأهلي فيه، وحولته دولة فاشلة.
فعوضاً عن طرح أيديولوجيات ومشاريع سياسية وطنية، يجري التنافس عليها بين الفرقاء السياسيين، من أجل نهضة العراق، أضحى التنافس على حصة كل طائفة من السلطة غاية الغاية، حيث يجري تعبئة الجمهور العام، بمخاطبة غرائزهم واستنهاض عزائمهم، بالتذكير بهوياتهم الأصلية، كما فعل رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، في وصف معركته ضد خصومه بأنها “حرب بين أتباع معاوية ويزيد وأتباع الحسين“، وأنه، أي المالكي، يسعى إلى بناء دولة “أهل البيت“.
أضف إلى ذلك أن العلاقات البينية بين الطوائف تتحول من السعي إلى انصهارها في هوية وطنية جامعة إلى علاقةٍ، يتملكها الخوف والريبة والشك، فتعمل كل طائفة على بناء تحالفات إقليمية مع دول راعيةٍ، تدعمها ضد خصومها المحليين.
بهذا المستوى من التفكير والممارسة السياسية، تتجذّر مصلحة الطائفة على ما عداها، فالمصلحة، هنا، هي لمصلحة الجماعة الطائفية، وليس للجماعة الوطنية، وهذا ما عبّر عنه صراحةً السياسي العراقي، مشعان الجبوري، بقوله إنه يريد تحرير العراق من “الاحتلال الكردي“، أي إن الآخر (العدو) هو داخل الحدود الوطنية، وعلاقات العداوة والصداقة ليست مع الآخر من خارج الوطن، بل مع أحد مكوناته الأساسية.
أكثر من ذلك، في نظام المحاصصة الطائفية، لكل طائفة زعيمها الذي يمثلها في مؤسسات الدولة، وأمام بقية المنافسين، فيستفرد هو بنصيب طائفته، ويسرق ما تيّسر من خيرات البلاد، ويوزع المنح والهبات على من شاء، كلٍّ بحسب مجهوده في ترسيخ حضوره داخل الطائفة، حيث يتحول المواطنون رعايا، والزعيم راعياً وأجهزة الدولة إقطاعيات، بالإضافة إلى تحويل الانتخابات من استفتاء على سياسة الحكومة إلى مجرد ماكينة لحساب حصة زعيم كل طائفة داخل طائفته.
الأنكى تحاصص مذاهب دينية (السنة والشيعة) السلطة مع جماعة قومية (الأكراد)، ويسمى هذا، بُهتاناً، الديمقراطية التوافقية، وهو، في الأصل، صورة لديمقراطية ممسوخة، تنم عن أزمة عقلية المُستَعمِر الأميركي الذي لا ينظر للمواطنين إلا ككائنات مذهبية وعرقية، يستحيل أن تنسجم مع بعضها في دولة مواطنة، وقد ساعدته النخب الطائفية على ترسيخ هذه النظرة.
لا يؤسس نظام المحاصصة في “العراق الجديد” لبناء نظام ديمقراطي، مع وجود نخب فاسدة تتقاتل على مكانة كل طائفة وحصتها، بل على النقيض من ذلك، يؤسس، في أفضل الحالات، حالة من اللاحرب واللاسلم، تُبقي البلد بين خياراتٍ مجنونة، الحرب الأهلية أو التقسيم، وكلاهما ينتهي بهدم منظَّم للدولة الوطنية.
_____________