سالم الكبتي
(الوحدة التامة للبلاد هي الهدف النهائي للجميع)
الملك إدريس السنوسي
.. وفي عهد الرئيس الجديد للحكومة (محمد عثمان الصيد) أنجز تنفيذ الطريق الأزمة وصار سالكا إلى فزان. افتتحه ولي العهد في سبتمبر 1962بعد أربع سنوات من الشروع في إنجازه.
وكان السيد الصيد من الذين أسهموا في بدايات تكوين الدولة الليبية بعضويته مندوبا عن إقليم فزان ضمن الأعضاء الآخرين في لجنة الواحد والعشرين والجمعية الوطنية التأسيسية (الستين) التي وضعت الدستور ودارت خلالها نقاشات في جلساتها الطويلة حول شكل الحكم المنتظر لليبيا.. فيدرالي أم باتجاه الوحدة. وكان السيد الصيد كما سبق القول من الدعاة إلى أن يكون النظام فيدراليا. وبعد عشر سنوات من مضي تلك الخطوات شاءت الصدف أن يكون في موقع رئاسة الحكومة الخامسة في المدة الواقعة بين 1960 إلى بدايات 1963 ويكلف بإجراءات التعديلات الدستورية التي ستلغي العمل بالنظام الفيدرالي.
خلال تلك البدايات المؤسسة لتشييد الدولة كان الملك إدريس استلم بيعة الجمعية الوطنية بكامل أعضائها، ومن بينهم السيد الصيد، واعتباره ملكا لليبيا في لقاء تاريخي تم في اليوم السابع عشر من ديسمبر 1950 بقصر المنار في بنغازي، وتولى تقديم البيعة له رئيس الجمعية الشيخ محمد أبو الأسعاد العالم. في هذا اللقاء أكد الملك إدريس للأعضاء جميعا الذين مايزالون يناقشون وضع الدستور ومناقشة شكل الدولة ونظامها بأن: (الوحدة التامة للبلاد هي الهدف النهائي للجميع). ولعله بهذا كان يشير إلى أن على البلاد أن تتقدم بالتدريج وفقا للظروف والواقع نحو تلك الوحدة بعد أن تخوض فترة النظام الفيدرالي (الولايات).
كان الدستور الذي أقرته الجمعية الوطنية التأسيسية في اجتماعها في بنغازي بمقر مجلس نواب برقة يوم السابع من إكتوبر 1951، كما سلف في حلقات ماضيات، قد أجاز في المستقبل إجراء أية تعديلات تقتضيها الأحوال على شكل الدولة ونظامها الفيدرالي وفقا لنصوص مواده (197_198_199). هذه المواد المتقاربة أوضحت بأنه لايتم تعديل الأحكام الخاصة بشكل الحكم الاتحادي إلا بعد موافقة المجالس التشريعية في الولايات الثلاث ثم مجلسي الشيوخ والنواب قبل عرض ذلك كله على الملك للتصديق عليه بصورة نهائية.
وفي هذا الاتجاه للسير نحو الوحدة الإدارية الشاملة، الذي تزامن مع فترة حكومة السيد محمد عثمان الصيد، ثمة دلائل وإشارات قوية تؤكد من قبل المطلعين وذوي الصلة على أن الملك إدريس هو الذي اتخذ المبادرة لإنجازها على الأرض وفاء لوعده القديم أمام الجمعية الوطنية بتحقيق هذه الوحدة. وعلى ذلك طلب من رئيس الحكومة في شهر ديسمبر 1962 أن يقوم بعرض مشروع تعديل الدستور على مجلس الأمة شيوخا ونوابا وكان ذلك يقتضي إلغاء رئاسة المجلس التنفيذي في كل ولاية ويحل محله مجلس إداري يدير الشؤون داخل الولاية فيما يظل الوالي مسؤولا عن السلطات فيها أمام المجلس التشريعي.
في اليوم السابع من ديسمبر 1962 ورد طرح التعديل في خطاب العرش الذي ألقاه السيد الصيد أمام ولي العهد في مبنى البرلمان بالبيضاء أثناء افتتاح الدورة البرلمانية العادية. والواقع الذي ترتب على هذا الطرح أن البرلمان بمجلسيه أقر هذه التعديلات كخطوة أولى على طريق إنجاز الوحدة الكاملة في البلاد. كان الملك أيضا يتواجد في البيضاء وأصدر بقصر الروضة في مسه القريبة من المدينة مرسوما بتاريخ اليوم نفسه من ثلاث مواد أكد فيها إقرار مجلس الشيوخ ومجلس النواب للقانون الذي صدق عليه بدوره وفقا لذلك الإقرار.
ووفقا لهذا المرسوم بقانون تم تعديل المواد (36 . 172. 173. 182. 184.) من الدستور ونصت المواد الجديدة على التعديلات التي طرأت كما نص المرسوم في مادته الثانية على إلغاء المواد (38. 180. 181. 185.) من الدستور. ثم فسر رئيس الحكومة القانون الذي صدر بمذكرة إيضاحية أشار فيها إلى الظروف التي استوجبت تلك التعديلات بناء على المعايشة بين الاتحاد والولايات ووجود الإشكالات والصعوبات من الناحية العملية المتصلة بتنازع الاختصاصات وأكد على: (أن التعديل المستحدث ليس بدعا فهو في شطر منه..
في حقيقته وجوهره تعديل شكلي فحسب يسترد به الاتحاد اختصاصه الأصلي وفي شطره الآخر فإنه من المباديء المسلم بها أن الدساتير في كافة الدول وضعت لتنظيم شؤون الجماعة وهي متطورة بطبيعتها.. الأمر الذي يقتضي تعديلا في الدساتير كلما دعت الحاجة إليه ليساير تطور الجماعة) ثم أشار إلى نقطة مهمة أوضحها بالقول الصريح: (ولا أدل على ذلك من أن واضعي الدستور الليبي بالذات توقعوا احتمال تعديله بما يناسب ظروف الدولة وأحوالها وهو أمر طبيعي فأوضحوا طريقة تعديل الدستور ورسم معالمه في المواد 196 ومابعدها.
في العاشر من ديسمبر 1962 أصدر الملك من مدينة البيضاء التي ظلت تشهد مداولة أمور الدولة كعاصمة ثالثة دون نص في الدستور مرسوما بالقانون رقم 32 يقضي بأن يستعاض في كافة التشريعات التي صدرت قبل التعديلات القريبة عن عبارات ناظر ونظارة والمجلس التنفيذي والولاية.. بعبارات وزير ووزارة ومجلس الوزراء والحكومة الاتحادية.
كانت هذه هي أولى الخطوات في التجربة البرلمانية الدستورية الجديدة في ليبيا التي شهدها شتاء مدينة البيضاء وشرع خلالها منذ عام (1961) في بناء المقر الجديد للبرلمان فوق أحد تلالها الذي سيفتتحه الملك إدريس لاحقا في إكتوبر 1964. ومع تلك الخطوات ستتسارع المزيد منها وتكتمل بتولي د. محي الدين فكيني رئيسا للحكومة في مارس 1963.
كان مندوبا لليبيا في الأمم المتحدة وخلف السيد محمد عثمان الصيد وسار في نفس الدرب الذي وصل إلى إلغاء النظام الفيدرالي في ليبيا بصدور المرسوم بقانون بتعديل بعض أحكام الدستور بعد إقرار مجلسي الشيوخ والنواب وموافقة المجالس التشريعية عليه. وقضى في مادته الأولى بإلغاء النظام الاتحادي بالمملكة الليبية ويستعاض عنه بنظام الدولة الموحدة على الوجه المبين بالدستور وهذا القانون. كان ذلك في طرابلس التي تواجد فيها الملك يوم الخميس الموافق للخامس والعشرين من إبريل 1963.
وفي اليوم التالي الجمعة السادس والعشرين من الشهر وجه الملك خطابا بإعلان الوحدة الشاملة أذيع بصوت المذيع الشهير ناصر عبدالسميع وصارت الوحدة حقيقة واقعة وأضحت البلاد تتكون من عشر محافظات بدلا من ثلاث ولايات. وأيا ما كان الأمر ولحقه من التباسات وتأييد أو اعتراضات وأشيع عنه بأنه كان بتأثير أو ضغط من شركات البترول الأجنبية التي تود التعامل مع جهة إدارية واحدة في الدولة أو نتيجة طبيعية للحد من تناقض المصالح بعد تفجر البترول وتصديره للخارج..
فإن الأمر بات أمام الجميع ظاهرا وصارت ليبيا في وحدة إدارية وانتهى تنازع الاختصاص بين السلطات منذ إعلان الاستقلال ولوحظ في هذا التعديل إعطاء حق الانتخاب للمرأة الليبية لأول مرة في تاريخ تطورها المعاصر.
وعلى طريق التجربة البرلمانية الليبية كان قد صدر مرسوم ملكي بفض الدورة البرلمانية الرابعة اعتبارا من السابع عشر من إكتوبر 1963 وألحق بمرسوم آخر صدر في السابع من نوفمبر من العام نفسه بعد سنة كاملة من الشروع في التعديلات الدستورية يدعو الهيئة البرلمانية للانعقاد في البيضاء في دورة اعتبرت تكميلية وتم ذلك يوم السابع من ديسمبر 1963.
كان من المفترض أن تجرى في هذا السياق انتخابات جديدة ولكنها في الواقع تأجلت إلى عام آخر. كانت الدولة تستعد لإجراء ثاني تعداد عام للسكان. الأول كان عام 1954. والثاني شرعت فيه الدولة خلال صيف 1964 وهو الذي قرب من موعد الانتخابات القادمة وبموجبه لوحظ تزايد في عدد السكان في عموم ليبيا وتم تعديل قانون الانتخاب رقم 6 الذي صدر بمرسوم في السابع والعشرين من أغسطس 1964 في فترة رئاسة السيد محمود المنتصر للحكومة. واشتمل على سبعة وستين مادة وبمقتضاه ألغي قانون الانتخاب رقم 5 وتعديلاته الصادر عام 1951 الذي أقرته الجمعية الوطنية التأسيسية بعد عرضه عليها من الحكومة المؤقتة برئاسة السيد المنتصر أيضا وقتها.
ثم صدر القانون رقم 7 بمرسوم ملكي في الثلاثين من أغسطس 1964 بثلاث مواد قضت بتقسيم البلاد إلى مناطق انتخابية وتقسيم تلك المناطق إلى دوائر انتخابية التي صارت 103 دائرة في أنحاء المملكة وفقا لجدولين أول وثان ملحقين بالقانون المذكور وأَلغيا بذلك القانون الصادر سابقا بمرسوم ملكي عام 1959 بتحديد المناطق والدوائر الانتخابية السابقة.
وبناء على هذه القوانين ولوائحها شرعت الدولة في تنظيم أول انتخابات للبرلمان الجديد بعد الوحدة. كان ذلك في سبتمبر . إكتوبر 1964. التي لحقها الكثير من الالتباسات والمشاكل والأخطاء التي وصلت حد التزوير في كثير من الدوائر الانتخابية والمواجهة مع السلطة ومنع مجموعة من المرشحين من المشاركة في تلك الانتخابات وشراء وبيع الأصوات مع الناخبين. ذلك لم يرتق مع استمرار التجربة للأسف إلى الوعي بالدستور ومضمون الديمقراطية ونضج تلك التجربة الوطنية المنتظرة على الدوام. وأصاب التجربة في مقتل تماهى في حقيقته مع خيبة أمل كبيرة ظلت في صدور الكثيرين.
_________________