صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة مذكرات وشهادات، كتاب لعبد السلام جلود بعنوان مذكرات عبد السلام أحمد جلود: الملحمة. ونشر موقع “العربي الجديد” أجزاء منه في 5 حلقات. والملفت للنظر أن الأجزاء التي تناولت العلاقة بين القذافي وعبد السلام جلود، جاءت مليئا بالإقتباسات “بين ظفرين وبالأحمر” لأقوال عبدالسلام جلود للقذافي وجها لوجه، وكانت تعطي الإنطباع أن عبدالسلام جلود كان ضد سياسات القذافي على جميع المستويات وحول العديد من القضايا في الداخل والخارج.

السؤال المطروح يشير إلى استغرابنا حول كمية الاقتباسات ودقتها وتوجهها الواضح بأن جلود يريد من القارئ لمذكراته أن يقتنع بأنه كان بطلا وطنيا ثوريا صادقا ناضجا ومفكرا سياسيا واقتصاديا، وكان ديمقراطيا تقدميا وله رؤى مستقبلية حول مآلات الأحداث في المنطقة العربية والاسلامية والدولة، والأغرب من ذلك أنه كان يتهجم ويتحدى القذافي وجها لوجه، وبدون أدنى اعتبار لما يمكن أن يتعرض له من قمع وربما التصفية الجسدية!!

لعله من المناسب تذكير القراء بأن عبدالسلام جلود هو عمليا المؤسس لحركة اللجان الثورية ، وأنه من اقتحم ساحة كلية الهندسة وهو يطلق رصاص مسدسه معلنا البدء في عملية تطهير الجامعة من الطلاب الوطنيين الذين وصفهم بالرجعيين والخونة. فكيف تستقيم تلك المواقف الموغلة في العنف والتطرف مع ما ينقله في مذكراته من مواقف وتصريحات، وأيضا كيف يتبرا جلود من دوره في هدم أسس الدولة الليبية مبررا ذلك بشعارات ثورجية.

ننقل إليكم حزمة من أهم المواقف والأقوال التي تذكرها عبدالسلام جلود بدقة ووضوح، والتي إن صدق فيها، تجعله الرجل الوحيد التي تحدى القذافي مباشرة ولا يزال على قيد الحياة..

***

حول الاستقالة … قدّمت استقالتي من منصبي عام 1981، وذلك رفضًا للممارسات القمعية التي كانت تقوم بها اللجان الثورية. عارضت بشدة الممارسات السلطوية والقمعية، كما عارضت بقوة مطاردة الليبيين في الخارج، وطالبت بوقفها فورًا، وقلت: “هذا إنهاء للثورة. وعندما تنتهي الثورة أخلاقيًا فسوف تنتهي سياسيًا؛ إذْ لا يمكن لثورة أن تطارد أبناءها وتصفيهم في شوارع أوروبا“.

كان موقفي هذا صارمًا، حتى إنني قررت الاستقالة من قيادة الثورة، والبقاء في منزلي، ما لم يوقف هذا العمل المشين. ثم قلت للأخ معمّر: “هذا ليس عملًا ثوريًا، بل هو إجرام يقوم به جنود مكلفون منك ومن جماعتك، ليبرهنوا لك أنهم قادرون على تنفيذ ما تطلبه منهم، حتى تكون لهم حظوة عندك“.

ذهبت للقاء الأخ معمّر، وما إن دخلت عليه حتى قال لي متهكمًا: “إذا بقيت في بيتك واستقلت، منْ سيكون معك؟ إلا علي فضيل (وهو يقصد مدير مكتبي) حتى قبيلتك معي”، فقلت له: “أنا لا أملك سوى ثوريتي وصدقيتي، وليس لي قبيلة. قبيلتي هي الثورة والعروبة والأمة، لكن يا أخ معمّر، خوفي أن يأتي يوم ولا يكون فيه أحد معك إلا أحمد إبراهيم“.

موقف حول وثيقة الشرعية الثورية … في اليوم التالي، فوجئت بأن الإذاعة المرئية تذيع نصّ ما سمي “وثيقة الشرعية الثورية“، وهي وثيقة تُمكن معمّر من حصر السلطة كلها في يده… فاتصلت بالأخ معمّر هاتفيًّا، وكنت في حالة من الغضب الشديد وقلت له: “ما هذا الكلام الفارغ الذي يذاع؟“. ثم أضفت: “هذا فراق بيني وبينك، أنت اخترت هذا الطريق، وأنا اخترت طريقي”. ثم قلت: “سبق لي أن أعلنت بوضوح أنه لا يوجد اليوم أيّ فصل بين الثورة والسلطة. الثورة ممارسة لقرار سياسي، والسلطة كذلك ممارسة لقرار سياسي. وجود القيادة التاريخية شرّ لا بد منه؛ لأن وجودها عمليًا سيكون متناقضًا مع سلطة الشعب، بحيث إنّ الناس سوف يشعرون بالخوف منّا وهم يجاملوننا أو يثقون بنا ويقبلون أي شيء نقوله ونعمله. وبذلك لن يكونوا قادرين على التفكير المستقل. لكن لن يكون هناك نظام وطني ولا تقدمي ولا سلطة شعبية ما إن تختفي القيادة التاريخية، بل ستكون ليبيا أقل تأثيرًا من غامبيا. وإذا افترضنا أن هناك شرعية ثورية، فإن هذه الشرعية ستكون للقيادة مجتمعة وليست حكرًا عليك“. وحينما أدرك الأخ معمّر شدة غضبي، وكان يسيطر من منزله ومكتبه على الإرسال التلفزيوني (المرئي) وهو يتحكم في البث، أوقف البث المباشر، ثم قال لي هاتفيًّا: “اكتب الصيغة التي تقترحها للشرعية الثورية”. في البداية وافقت، لكنني شعرت بعد لحظات أنه غير جادّ. فاتصلت به وقلت له: “يا أخ معمّر ليس المهم ما أكتب، المهم ماذا في ذهنك؟”.

حول ندوة نخبة من المثقفين … في اليوم التالي للندوة، بينما كانت تُنقَل مباشرة على الهواء – وكانت ندوة جادة ومسؤولة وصريحة وتشكل بداية مرحلة جديدة في التفكير بصوت عالٍ – اتصل الأخ معمّر هاتفيًّا بالإخوة المشاركين في الندوة، وقال لهم بغضب: “هذه مؤامرة أميركية وخيانة وتشكيك في سلطة الشعب”، وقطع البث. اتصلت به هاتفيًّا وقلت له: “يا أخ معمّر، هل نحن ضعفاء إلى هذه الدرجة، بحيث إنّ بيتنا أصبح من زجاج؟ ولم نعد نحتمل أي رأي آخر؟“. ثم أضفت: “مداخلتك الهاتفية تؤكد أنك لا ترغب في التغيير، وأنك ماضٍ في طريقك، ومن الواضح أنك تريد أن تحكم كشيخ قبيلة”

حول مقترح تكوين اللجان الشعبية … وكنت أقول له: “لا يجوز لجزء من الشعب أن يشكل هذه اللجان، هؤلاء جزء من الشعب؛ ولذا لا يحق لهم أن يشكلوا لجانًا شعبية باسم الشعب، وفضلًا عن ذلك سيكون تشكيل اللجان الشعبية شيئًا، والإدارة بصفتها عملية فنية تخصصية شيئًا آخر، وإن العاملين في هذه المرافق سوف يختارون الشخص الأضعف؛ وبذا سوف تصبح اللجنة عمليًا في خدمة العاملين وليست في خدمة الجماهير التي توجد فيها هذه المرافق والمصالح”.

حول الاعتراف باسرائيل … بعد الغداء، جرى نقاش بيني وبين الأخ معمّر، فقال لي حرفيًّا: “يا عبد السلام لا بد من الاعتراف بإسرائيل”. كان وقع الكلمات التي سمعتها من الأخ معمّر كالصاعقة. ثم أردف قائلًا: “الأميركيون لن يسمحوا لنا بإنجاز الوحدة ما دمنا نحن معادين لليهود ولم نعترف بهم”، فقلت بغضب: “ما هذا الكلام يا أخ معمّر؟ أكاد لا أصدّق ما تقول، ما فائدة الوحدة العربية إذا ما كانت ستقودنا إلى الاستسلام للعدو؟ أنا أرفض هذه الوحدة”، فردّ قائلًا: “نعترف بإسرائيل لكي تسمح لنا أميركا بإنجاز الوحدة ثم نحارب اليهود”، فقلت له: “أنا أرفض هذا المنطق كليًّا. إنه منطق غريب عجيب”، فقال لي: “أنت تتصرّف بعقلية الطالب، ليس لديك ما يكفي من المرونة السياسية”، ثم أردف قائلًا: “أنت مَن يقف في وجهي وفي طريقي. لولاك لاعترفت بإسرائيل”.

حول قرار توزيع الثروة … وصلت إلى قناعة أن الأخ معمّر لا يزال مصرًا على توزيع الثروة؛ ولذا ذهبت للقائه وأنا في حالة غضب شديد، فقلت له: يا أخ معمّر لقد اتفقنا على توزيع الثروة بطريقة علمية، وكنت أعتقد أننا صرفنا النظر عن مقترحك”، فقال لي: “من أخبرك أنني ما زلت مصرًا على رأيي؟”، فقلت له: “لا الزليطني ولا عبد الله البدري من الذين يمكن اعتبارهم منحازين إلى الشعب. أنا يا أخ معمّر المنحاز إلى الشعب. هؤلاء منافقون ومجرد موظفين مهمتهم أن يقولوا لك حاضر، نعم. لو كانت الفكرة في مصلحة الشعب ويمكن عمليًا تطبيقها لوافقت عليها فورًا. بالنسبة إلي هؤلاء جهلة ومنافقون”.

حول التنمية الزراعية … ثم تحدّث الأخ معمّر ردًّا على ما قلت: “لن يهنأ لي عيش ولن يهدأ لي بال ولن تنام عيناي إلا بعد أن تنضب المياه في ليبيا”، ثم قال حرفيًّا: “احفروا ما بين كل بئر وبئر، بئرًا. استنزفوا المياه”. كان كلام الأخ معمّر صاعقًا، فنهضت وتوليت الرّد عليه وقلت: “هذا كلام غير مقبول. أنا أدعو لسياسة صارمة للتحكم في مخزون المياه، وخاصة في المنطقة الممتدّة من مصراتة حتى صبراتة، أي كامل منطقة سهل الجفارة. يجب ردم ما بين 60 و70 في المئة من الآبار في هذه المنطقة، والتوقف عن الزراعات التي تستهلك كميات كبيرة من المياه، والتركيز على الزراعة الرأسية باستخدام التقنيات، ويمكن زيادة الإنتاج الزراعي في المساحات نفسها حتى 70 في المئة”.

حول زيارة ليبيين للقدس .. حين ذهبت إلى منزل الأخ معمّر وجدته مع زوجته وعبد الله السنوسي، فقال لي: “ما بك؟ زعلان ولابس أسود”، ثم سألني: “ما رأيك في زيارة الليبيين للقدس؟”، فرددت عليه بغضب “يا أخ معمّر أنت تعلم أنني مستقيل من منصبي ولو كنت في موقعي لقطعت الأرجل التي ذهبت إلى القدس والأيدي التي صافحت الصهاينة”، ثم استدركت قائلًا: “إن الليبيين الذين ذهبوا إلى فلسطين المحتلة هم مأمورون. أما الذين أشاروا واقترحوا عليك ارتكاب هذه الجريمة في حق الأمة، هؤلاء هم الذين سوف أحاكمهم وأطبق عليهم الحكم العادل، لأن كل الدساتير في الدول العربية تحرّم الاتصال بالعدو وتعتبره خيانة وطنية”، فقالت لي زوجته وكانت متألمة: “يا وخيّ تركت أخوك لوحده؟ هؤلاء الذين من حوله حشموه (أخجلوه) وهم الذين دبروا وجهزوا الحافلات”، فقلت لها: “كلا، هذا قرار سياسي اتخذه الأخ معمّر”. ثم خاطبته شخصيًا وقلت له: “يا أخ معمّر أنت حوّلت ليبيا إلى إقطاعية سياسية، وفي النهاية ها أنت ترسل الليبيين إلى القدس. لقد حوّلت العيد الكبير عيد التضحية والفداء إلى يوم للخنوع والاستسلام، كما حوّلت يوم الفاتح من سبتمبر من يوم انتصار إلى يوم هزيمة، حين اخترت يوم الفاتح للتوقيع على الاتفاقية مع حسين هبري حول أوزو بتحويلها إلى محكمة العدل الدولية”.

في اليوم التالي من زيارة الليبيين القدس، تقدّمت برسالة استقالة أخرى رفضًا للزيارة، وحينما التقينا، أنا ومعمّر ومصطفى الخروبي وأبو بكر يونس، في منطقة المربعات على طريق مطار طرابلس، قلت له: “يا أخ معمّر، يجب أن نقلل من أضرار هذه الزيارة المشؤومة وأن نعتذر من القوى القومية عن هذه الجريمة، ونؤكد لهم التزامنا بتحرير فلسطين وعدم الاعتراف بالعدو”، فالتفت إلى أبو بكر يونس والخروبي متهكمًا وساخرًا، وقال: “يا بوبكر ويا مصطفى، عبد السلام يريد منّا أن نعتذر لشعراوي جمعة وعبد المجيد فريد وسامي شرف وعبد الرحيم مراد”، وكأن لسان حاله يقول: “مَن هؤلاء، أنا القيادة القومية”، فقلت له: “يا أخ معمّر، لا أوافق على طريقتك هذه في التفكير، لا أحد يستطيع أن يحتكر قيادة الأمة، بالأمس كانت مصر عبد الناصر هي القيادة، واليوم ثورة الفاتح، وغدًا يمكن أن تقوم ثورة في تونس أو المغرب وتصبح هي قيادة الأمة”.

يوم زيارة حافظ الأسد .. في هذه اللحظات، جاء إلينا مدير المراسم ليقول: “طائرة الرئيس حافظ الأسد بدأت في الهبوط الآن”، فقال لي الأخ معمّر وأنا في حالة غضب شديد: “ليس عندك مرونة يا عبد السلام. ما تزال تفكر بعقلية الطالب في الخمسينيات”. ثم أردف قائلًا: “ليس معي شعب وليس معي رجال. أين الثوريون الذين يقولون لي لا؟”، فقلت له: “أنت لم تخلق شعبًا. أنت قهرت الشعب وقمت بتغييبه. لا يوجد شعب شجاع وشعب غير شجاع إلا بقدر ما تبني أي قيادة شعبها وتجعل قضايا القيادة هي قضايا الشعب عن طريق الثوريين والمثقفين المتجذرين في الشعب. والشعب لن يتحمس أو يتفاعل مع أي قرار لأن القيادة احتكرته، وسيكون دوره هو مسايرة القيادة في كل قراراتها. أما الثوريون، فأنت لا تريد شركاء ولا تريد حركة ثورية لديها رأي وموقف، أنت تريد حركة مهرجة مهمتها التطبيل والتصفيق. والذين يدّعون أنهم ثوريون هم ليسوا ثوريين حقيقيين، إنهم منافقون ودجالون ولا رأي لهم”. وغادرت المطار عائدًا إلى منزلي ولم أشارك في مراسم استقبال الرئيس حافظ الأسد.

حول حوار مع القذافي … في تموز/ يوليو 1993، طلب مني الأخ معمّر إجراء حوار آخر؛ فالتقينا في منزله وبدأنا حوارًا صاخبًا وحادًّا، قلت له: “مرة أخرى يا أخ معمّر أقول لك أنت حوّلت ليبيا إلى إقطاعية سياسية أصبح فيها الإنسان الليبي أشبه بسلعة خاصة بك، لا مشاعر له ولا أحاسيس، إنه مثل حذائك أو نظاراتك، تفعل بهما ما تشاء، وهذا ما أوصلك في النهاية إلى قرار زيارة القدس المحتلة”. ثم قلت له: “أصبحت مثل شخص أطرش وأخرس وأعمى، لا يرى الحقيقة ولا يسمعها. لقد سيطر عليك الغرور”، فقال لي: “أنت جعلت مني متاع اليهود؟”. انتهى الاجتماع من دون الوصول إلى أي نتيجة وكان اجتماعًا محبطًا.

حول العودة عن الاستقالة … في ليلة الفاتح من عام 1993، كنت في منزلي بالمصيف، وفجأة وصل الأخ معمّر لزيارتي، وقال لي: “من الضروري أن نتفق. الناس معنوياتها سيئة وهي مُحبطة بسبب موقفك وخاصة الشباب والثوريين”، فقلت له: “المشكلة ليست في عودتي عن استقالتي وممارسة مهماتي، المشكلة تكمن في الردّة التي تقودها أنت شخصيًا، فهل لديك الرغبة في التراجع والعودة إلى الشعب والوطنيين والثوريين؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يطرح نفسه بقوة على الثورة”، ثم أضفت: “مجيئك إليّ ليلة الفاتح لا يبدو لي مقنعًا أو مفهومًا، لو كنت جادًّا في التوصل إلى اتفاق حول ضرورة التغيير الشامل، لكان علينا أن نرتب لهذا اللقاء قبل عشرة أو خمسة عشر يومًا قبل الفاتح، كان في إمكاننا أن نجري حوارًا معمقًا، ونتفق على أسس التغيير. أما اليوم فيبدو لي أننا لن نتمكن من إنجاز شيء. لقد تأخر الوقت كثيرًا”. ولمّا ألحّ عليّ بالظهور العلني أمام الجماهير، قائلًا إنها بدأت تتساءل عن سبب اعتكافي، قلت له: “أنت تعرف رأيي وظهوري العلني متوقف على ما ستقوله غدًا في خطاب الفاتح من سبتمبر”. ثم ذكّرته بالحملة التي شنها عليّ هو وحاشيته، وقلت له: “أنتم كنتم تقولون عني بأنني سادات ليبيا، وأنني أريد أن أرث الثورة. الحمد لله، إني رأيتكم أنتم جميعًا ساداتيين، تسيرون على طريق السادات وطنيًا وقوميًا”. فردّ عليّ قائلًا: “صحيح معك حق”.

حول خطاب للقذافي … ما إن انتهى الأخ معمّر من إلقاء خطابه، حتى غادرت مسكني متوجهًا إلى منزله وأنا في حالة غضب شديد، وأذكر أنني ذهبت مسرعًا حتى إنني وصلت قبله بدقائق. حين التقينا قلت له: “أنت لا تزال مصرًا على مواصلة طريق الرّدة والكفر بالثورة، يا أخ معمّر لا فائدة، أنت تحطّم نفسك بهذه الطريقة، فأنت تسير في الطريق الخطأ وخطاباتك تكرار لسياساتك التجريبية التي ستكون نتيجتها انهيار البلاد وتدمير نفسك، كما أن إعلانك أنك سوف تصدر قوانين تجرّم وتمنع النكات والسخرية من قراراتك، أمر يستحيل قبوله. ليس هناك قانون في العالم يحاسب الناس على نياتها وما يدور في عقولها، كما أن إعلانك أن اليهود عرضوا عليك إعادة غزة إلى الفلسطينيين، مقابل زيارة تقوم بها لفلسطين المحتلة، يؤكد للجميع أن قرار زيارة الليبيين للقدس المحتلة هو قرارك أنت”. ثم قلت له: “إنني أشفق عليك وعلى حالك”.

حول تغيير القذافي لمواقفه … بعد يوم واحد فقط من هذا الاجتماع، عدنا لاستئناف النقاش حول مختلف القضايا، لكنني فوجئت به ينقلب كليًّا على كل ما أعلنه؛ إذْ قال لي: “إذا وافقت على برنامجك ماذا سأعمل؟ أنا واقع فعليًا تحت رحمة شروطك وشروط اليهود والأميركيين، ثم لو أنني وافقت على البرنامج؛ فهذا يعني أنني كلما حاولت أن أفعل شيئًا ستقول لي هذا مخالف للبرنامج”. ثم تابع قائلًا: “أنت تسجل عليّ مواقف (أي أنك تتصيد أخطائي)”. كان وقع كلماته كالصاعقة عليّ، فقلت له: “هذا أمر غريب، بالأمس فقط قلت لي إنك توافق على البرنامج، المسألة برمتها هي مسألة تحقيق الثورة لأهدافها، وليست أن نفعل ما نشاء، ثم إنّني عرضت عليك البرنامج في حوار استغرق 6 أيام متواصلة، وطلبت مني أن أقدّمه مكتوبًا وفعلت. هذا البرنامج كما قلت لك مرارًا ليس شروطًا، بل هو خطة تغيير تجعلنا أقوياء بالفعل في أعين شعبنا، وهو ما يجعلنا قادرين على مقاومة الشروط الصهيونية والأميركية. أنا لا علم لي بأي اتصالات سرية بينك وبين الإسرائيليين ولا علم لي بأي شروط”.

حول مبادرة الوحدة مع مصر مبارك … في اليوم التالي، عدت إلى طرابلس واعتكفت في منزلي. بعد أسابيع قليلة، تلقيت اتصالًا من الأخ معمّر يخبرني فيه أنه “تحدث مع الرئيس المصري محمد حسني مبارك على مبادرة لتوحيد البلدين ليبيا ومصر، على أن يكون مبارك رئيس دولة الوحدة، وأن يكون عبد السلام جلود رئيسًا للوزراء”، فقلت له: “يا أخ معمّر أنا مستقيل، فكيف تتحدث عن أمر يخصّني، وأنت تعلم أنني تخليت عن منصبي وموقعي. لو أنني كنت لا أزال في موقعي، فبكل تأكيد سوف أرفض هذه الفكرة وأرفض العرض المقدّم لي، لأن القبول بالعرض يعني أنني سوف اعترف بإسرائيل بصورة غير مباشرة”، ثم أضفت: “أنا أرفض أيّ وحدة سياسية مع أيّ نظام عربي يعترف بإسرائيل”.

حول رفض اللقاء مع القذافي … بعد ذلك جاءني خليفة إحنيش وهو يحمل اقتراحًا من الأخ معمّر أن نلتقي، فقلت له: “لا يمكن أن نلتقي. لن تمتد يدي لمصافحته، ما دام مستمرًا في قمع الليبيين ويمارس جرائمه”. وأذكر أن خليفة إحنيش قال لي وهو يسمع ردّي الغاضب: “لا أستطيع أن أنقل إليه ما قلته لي، وأنك ترفض اللقاء، لكنني سأقول له إن عبد السلام يبلغك تحياته، وهو سوف يفهم المقصود”. فأجبته: “أنت حرّ في ما تقول، لكن هذا هو ردّي وهذا هو جوابي من دون لبس”. بعد أيام، أرسل إليّ المقدم عبد الله الحجازي طالبًا أن نلتقي، وكان ذلك في شهر رمضان 1996، فرفضت، وقلت له: “لن ألتقيَ به لا في رمضان ولا في شعبان”.

حول دور أبوبكر يونس … قال العقيد أبو بكر يونس حرفيًّا: “يا بوي هذا البرنامج مفروض علينا من الخارج”؛ فغضبت غضبًا شديدًا، وقلت له: “أنت لم تطلع على البرنامج فكيف تقول إنه مفروض من الخارج؟ هذا ليس كلامك أنت يا أبو بكر؟”، ثم توجهت بكلامي إلى الأخ معمّر وقلت له حرفيًّا: “عيب يا أخ معمّر أن تضع أبو بكر يونس في هذا الوضع المحرج، وهو لا يحسن لعب هذا الدور”، ثم نهضت وحاولت أن آخذ نسخة البرنامج الذي كنت وضعته فوق الطاولة، فأسرع الأخ معمّر وأخذه وهو يقول لي: “اجلس يا عبد السلام”، فقلت له: “لماذا نناور على بعضنا؛ إذا لم تكن موافقًا على البرنامج فقل لي هذا مباشرة ومن دون لف ودوران، ومن دون أن تضع أبو بكر في الواجهة”.

حول تحالف القذاذفة مع ورفلة … في عام 1990، كنت في منزلي أشاهد الإذاعة المرئية الليبية، وكانت تنقل وقائع ما عُرف بالتحالف التاريخي بين قبيلة ورفلة وقبيلة القذاذفة في منطقة بني وليد في ورفلة. وصعقت حينما رأيت الأخ معمّر يحضر هذا اللقاء، وشاهدته وهو يسلم بيان التحالف، فاتصلت به وقلت: “أن تأمر القبيلتين بعقد هذا التحالف الصوري شيء، وأن تحضره أنت شخصيًا وأن يسلموك بيان إعلان التحالف [شيء آخر]، فأنت تثبت بالصوت والصورة أنك شيخ قبيلة. أنا أشعر بالأسف والحزن للحالة التي وصلت إليها”.

حول علاقة القذاذفة مع المقارحة .. قال الشيخان (من القذاذفة) وهما يوجهان كلامهما إلي: “قبيلة ورفلة ليسوا إخوتنا من جهة الجد. المقارحة هم إخوتنا”، فقلت بغضب وأنا أوجه كلامي إلى الأخ معمّر: “فكني منهما ومن كلامهما. قبل أربعة أيام لم يكونا يقولان هذا الكلام”. أدركت أن الأخ معمّر هو منْ لقّن الشيخين، ليقولا لي إن “المقارحة إخوة القذاذفة”، فقلت للأخ معمّر: “أرجوك أخ معمّر. أنت تعلم أنني مستقيل، ولكنني أنصحك ألا ترتكب مرة أخرى خطأ مصراتة، لمّا تآمر المحيشي وبعض الضباط من مصراتة، اعتبرت أن مصراتة كلها متآمرة عليك. يجب أن تكون العقوبة شخصية. لا تزر وازرة وزر أخرى”. ثم تابعت كلامي قائلًا: “لو نفذت هذا البرنامج، أقصد البرنامج الذي أعددته، فلن تعود هناك أي حاجة أو ضرورة إلى محاكمة هؤلاء الضباط والمدنيين. أما إذا لم تنفذ هذا البرنامج، وقمت بإعدامهم، فلن يتغيّر شيء، لأن الأمر الخطير هو أن الجماهير فقدت ثقتها بالثورة وباتت تقاوم مقاومة سلبية، وهي الأخطر”، فقال لي: “هذا البرنامج برنامج الثورة وأنا أوافق عليه كلّه”. وقبل أن أغادر أنا ومصطفى الخروبي، قلت له حرفيًّا: “يا أخ معمّر إذا كنت غير جادّ، أو ليس لديك الإرادة السياسية الكافية لتنفيذ البرنامج فقل لي هذا بصراحة. لا أريد أن أبدأ بتنفيذ البرنامج، ثم أتفاجأ بأنك غير جادّ في الموافقة عليه”. فقال لي الأخ معمّر: “أنا موافق”. كان مصطفى الخروبي إلى جواري فقلت للأخ معمّر: “سأقول لك أمام مصطفى، غدًا سأجمع أمانة مؤتمر الشعب العام، واللجنة الشعبية العامة لأعرض عليهم البرنامج لإثرائه، ثم أبدأ بتطبيقه بحسب الآلية المرفقة”.

حول الموقف من سياسات القذافي …وأذكر أن الإخوة أبو بكر يونس والخروبي والخويلدي جاؤوا إلى منزلي في عام 1994 يحملون رسالة من الأخ معمّر، مضمونها: “أنت تنتقد سياساتي وتحرض الجماهير ضدي”، فقلت لهم: “سوف أذهب للقاء الأخ معمّر”، فقالوا لي: “سنذهب معك”. فذهبنا في اليوم نفسه للقاء الأخ معمّر، فكرّر أمامي مضمون الرسالة، وقال: “أنا لا أستطيع اتخاذ أيّ إجراء ضدك، ولذا سأترك لك البلد. لا أريد أن أراك وهم يحققون معك ويعذبونك قبل أن تُعدم”، فقلت له: “مَن هم الذين سيحققون معي ويعذبوني، هؤلاء إما أنهم يخافون مني وإمّا أنهم يحترمونني. ولذا، في حال حصول هذا فذلك هو قرارك أنت. أنت تترك البلد؟ هذا مستحيل، أنت مستعد لأن تقتل مليون ليبي أو مليونين لكي تحكم ليبيا. أنا لا أستطيع العيش تحت التهديد والتخويف. لست خائفًا؛ لا من سجونك، ولا من إعدامي. ما يجري في ليبيا لا أوافق عليه إلا أن يمرّ فوق جثتي”.

حول الموفق من ذكرى الفاتح … في الساعة الثانية عشرة من يوم جمعة الفاتح من أيلول/سبتمبر 1995، رنّ الهاتف في منزلي بمنطقة المصيف، فرفعت السماعة وصمتّ، انتظرت قليلًا، وإذا بالأخ معمّر هو المتصل، فقال لي: “يا أخينا لماذا لا تتصل للتهنئة وتبارك”، فقلت له: “ما المناسبة؟”، فقال لي: “الفاتح”، قلت له: “يا أخ معمّر، لم يعد الفاتح يعني لي أي شيء؛ لا لأنني لم أعد في السلطة، وإنما لأن الفاتح لم يعد يعني لليبيين أي شيء، ومن ثمّ فهو لا يعنيني. الفاتح اليوم يعني لليبيين الفقر والجهل والخوف. لك طريقك ولي طريقي”، فردّ قائلًا: “طريقنا واحد منذ 1957″، فقلت له: “ما تفعله بالشعب الليبي من قهر وقمع وتجويع وإذلال، أمر يفوق كل وصف”. ثم، قبل أن يغلق الهاتف، قال لي: “مشكلتي أنك زعيم، لولا هذا لحاكمتك وأعدمتك”.

حول مذبحة أبو سليم … بعد ذلك جلسنا، وقال لي: “هل يخطر عليك (أي على ذهنك) يا خوي يا عبد السلام، أن أقاربي وحراسي يريدون قتلي؟”، فقلت له: “يا أخ معمّر، لماذا يتآمر عليك أقرباؤك ويخططون لقتلك؟ هم ليسوا سياسيين. هذا يعني أنك تسير في الطريق الخطأ، حتى إن أقرباءك لم يقبلوا بتصرفاتك. لا أحد يحميك؛ لا الأقرباء ولا الحراس، بل الشعب، فعد إلى الشعب”. ثم أردفت: “إن مذبحة سجن بوسليم يمكن اعتبارها أكبر مذبحة منذ مذابح هتلر ضد اليهود”، فردّ عليّ قائلًا: “هؤلاء مكلوبين (ويقصد أنهم مثل كلاب مسعورة)، لو أنني لم أتصرف معهم على هذا النحو لهربوا من السجن وأحرقوا مدينة طرابلس وأحرقوك أنت معها”، فقلت له: “حرق مدينة طرابلس وحرقي أهون من قتل 1400 شاب”، فردّ قائلًا: “هؤلاء – سُنّة – متعصبون”، فقلت له: “أنت ستجعل كل الليبيين سنّة يميلون إلى التشددّ وسوف يقاومونك، الشغب سيقاوم بالسلبية المقيتة، وهؤلاء المتشددون سيقاتلونك بأجسادهم. أنت يا أخ معمّر تدمر نفسك وتدمّر البلد معك. الأنظمة الدكتاتورية والقمعية تستخدم الأساليب المعروفة في القمع. أما أنت فتتفنن وتبتكر أساليب وأدوات قمع جديدة”، فقال لي: “يا عبد السلام. أنت تقود حملة ضدي من النقد والتحريض وأنا أكره النقد وأكره الإطراء والمديح وأحب النصيحة. الدين هو النصيحة؟”، فقلت له: “أنت يا أخ معمّر تكره النقد، لكنك تحب الإطراء والمديح. النقد هو أوكسجين الحياة، والإطراء والمديح هما المستنقع الذي تموت فيه الحياة. نعم الدين النصيحة، لأن الدين علاقة الإنسان بخالقه، أما في السياسة فهناك النقد وهو حجر الزاوية في كل تطور”. فردّ عليّ وهو يضع أصبعه على حنجرته قائلًا: “هذا كله ليس مهمًا. الشيء المهم هو موقفك الذي جعل الغصة في حلقي. ولن أنسى ولن أغفر لك هذا الموقف الذي جعلني مدانًا في الداخل والخارج”، فقلت له: “كل هذا سببه سياساتك التدميرية وليس موقفي. موقفي يستند إلى حقوق الناس ومصالحهم، ولو اختلفت معك، وكانت سياساتك تنال رضا الناس، فإنهم لن يسألوا عن موقفي”، فقال: “لم أعد أستطيع تحمل هذا”. وهكذا انتهى آخر حوار صاخب دار بيني وبين معمّر.

حول تسليم المغرب لعمر المحيشي … غادرت المطار متجهًا للقاء معمّر، ولمّا دخلت عليه قلت له: “اسمع يا معمّر، أنا كنت دائمًا أمقت الحسن الثاني، والآن أمقته أكثر”، ثم قلت: “كنت متوجسًا ومتخوفًا من علاقاتك السرية بالحسن الثاني، التي كنت تديرها بنفسك. أنت انتهيت يا معمّر”.

موقف حول لغز اختفاء موسى الصدر … ما إن سمعت بالنبأ، حتى اتصلت هاتفيًّا بأحمد رمضان مدير مكتب القذافي وطلبت منه أن يوصلني هاتفيًّا بالأخ معمّر لأتحدث معه، وكنت في حالة غضب شديد. قلت له: “ما هذه الجريمة الشنعاء التي ارتكبتها؟ هل من المعقول أن تدعو شخصًا وهو في ضيافتك وفي بيتك، باعتبار ليبيا هي بيتنا الكبير، ثم ترتكب هذه الجريمة؟ هذا ليس من الشهامة والمروءة والرجولة. إنه عمل خسيس وغير أخلاقي ومدمر”، فقال لي بغضب: “أنت تتهمني بقتل موسى الصدر؟ برّا دوّر عليه (اذهب وابحث عنه) أنا لا أعرف عنه أي شيء”، ثم أغلق سماعة الهاتف في وجهي.

____________

المصدر: كتاب عبدالسلام جلود “الملحمة” .. وتحديدا الحلقات التي نشرت منه على موقع “العربي الجديد”.  

نقلا عن موقع “المنار” الليبي

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *