المحرر: من هذه المذكرات سنعطي أولية لما سيذكره من الأحداث التي شارك فيها خلال السبعينيات والثمانينيات ، وتحديدا عن دوره في هدم الدولة الليبية، ومن تلك الأحداث (دوره عندما تقلد رئاسة الوزارة لسنوات،  ودوره فيما عرف بالثورة الثقافية، ودوره في تأسيس وإدارة حركة اللجان الثورية، دوره في مجزرة 7 أبريل، ودوره فيما عرف بالمحاكم الثورية وأجراءات التطهير وغيرها من المصائب التي شارك فيها وأدت إلى هدم الدولة الليبية)

****

عبد السلام جلود رئيس وزراء ليبيا الأسبق ( 16 يوليو/ تموز 1972 – 2 مارس/ آذار 1977). ولد في 15 ديسمبر/ كانون الأول 1944. كان من الضباط البارزين ممن شاركوا في ثورة الفاتح من  سبتمبر 1969. وظل طويلا في مواقع الحكم في بلاده بقيادة معمّر القذافي.

اعتُبر الرجل الثاني في ليبيا، فقد تولى مهام ومناصب حساسة في النظام: وزير الداخلية والحكم المحلي، المالية، الاقتصاد والصناعة، وعضو الأمانة العامة لمؤتمر الشعب العام (مجلس الرئاسة) (وكان أيضا مؤسس حركة اللجان الثورية القمعية). نشبت في 1992 خلافاته مع القذافي، فترك المشهد الرسمي نهائيا. وبعد اندلاع الثورة في 17 فبراير/ شباط 2011، غادر ليبيا إلى الخارج. 

 كتاب مذكّراته “الملحمة”، صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وينشر “العربي الجديد” أجزاء ومقاطع منه في خمس حلقات. (وسننقل هنا ما له علاقة بأدواره في هدم الدولة الليبية فقط).

الجزء الأول

الثورة (الإنقلاب)

في الساعة الثانية والنصف فجر الأول من أيلول/سبتمبر 1969، كلفت ضباط صف بالسيطرة على الباب الرئيس لمعسكر باب العزيزية في طرابلس، حيث كان بإمرتي كتيبة الهندسة وقوات من البحرية والدفاع الجوي، وطلبت منهم أن يحتجزوا أيّ سيارة بركابها إذا ما حاولت الدخول إلى المعسكر. وحدث أن وقع حادثان طريفان.

الأول، حين جاءت سيارة “فولكس فاغن” نحو الساعة الثالثة فجرًا. اعتقد ضباط الصف أن السيارة هي دورية للمخابرات الحربية، ففتحوا لها الباب، ثم أحاطوا بها من كل جانب ووجهوا نحوها بنادقهم، وطلبوا من السائق الدخول إلى المعسكر. لما دخلت السيارة، اتّضح أن السائق هو جندي من كتيبتي يُدعى “أقصودة” كان قد اشترى السيارة وكان سعيدًا بها؛ ولذا خرج في جولة مع أصدقائه في المدينة ثم عاد إلى المعسكر، فقال له ضباط الصف: “عطكْ دعوة، خلعتنا يا رجل (أي لا سامحك الله لقد أرعبتنا)”، فقهقه الجنود وأخلوا سبيله.

أما الحادث الآخر، فوقع نحو الساعة الثالثة والربع فجرًا، حين عاد ضابط صف من الدفاع الجوي اسمه التومي، وكان مخمورًا، ولمّا لاحظ وجود حركة غير اعتيادية تساءل عمّا يحدث، فقال له رئيس العرفاء خليفة: “غيّر ملابسك بسرعة والبس بدلتك العسكرية. بعد ساعة ونصف سنتحرك لإسقاط النظام”. كان ضابط الصف التومي شابًّا مثقفًا، فقال لخليفة: “لن أتزحزح من هنا إلا حينما أعرف مَن على رأس الحركة وما هي أهدافها؟”. بالطبع، لم يكن لدينا وقت ولا رغبة في حوار من هذا النوع.

جاء خليفة مسرعًا وأبلغني بالأمر وسألني “كيف نتصرف معه. أليس من الأفضل أن نقوم بإعدامه؟ بقاؤه حيًّا قد يتسبّب في إفشاء سر الثورة”، فقلت له: “كلّا. ضعه في حجرة وأقفل الباب”. كان لدينا في كتيبة الهندسة نحو عشرة من الجنود المشاغبين وغير المنضبطين والمثيرين للمتاعب، وغالبًا ما كانوا يتغيّبون عن الحضور إلى المعسكر، حتى إنهم لم يشاركوا في التدريب الليلي وظلوا لساعات متأخرة من الليل خارج المعسكر. عاد هؤلاء إلى المعسكر ليناموا ليلتهم، ويبدو أنهم استيقظوا فجأة على وقع تحرك الجنود. وحين علموا أننا سوف ننطلق لتفجير الثورة جاؤوا إليّ وهم يبكون قائلين: “كيف تحرمنا يا ريس عبد السلام من هذا الشرف؟”. لقد قام هؤلاء بأهم الأدوار في يوم الثورة.

وبحسب الخطة الموضوعة التي تتضمّن السيطرة على الأهداف الحيوية، كالإذاعات الثلاث في كل من طرابلس وبنغازي والبيضاء، لأهميتها في تلك الفترة في التواصل مع الشعب الليبي، والسيطرة على البريد وقطع الاتصالات وتحييد القوة المتحركة وشلّ حركتها واعتقال رموز النظام من مدنيين وعسكريين وعلى رأسهم ولي العهد ورئيس الوزراء ونيس القذافي، ووزير الدفاع حامد علي العبيدي، ووزير الداخلية أحمد عون سوف.

لم يكن لدينا خطة بديلة: فلا بديل عن النجاح. فقد كان على جميع الوحدات أن تكون متأهبة لمغادرة المعسكر في الساعة الرابعة والنصف صباحًا. وفي أثناء صعود الجنود إلى سيارات النقل في الساعة الرابعة تقريبًا، توقف الخويلدي الحميدي أمام معسكري، وكان في سيارة نقل عسكرية مع بعض الجنود، قادمًا من مدينة ترهونة، حيث كانت كتيبتَا مشاة ومدرعات بقيادة الخويلدي وأبو بكر جابر يونس قد توجهتَا من ترهونة صوب طرابلس لتنفيذ الخطة. ولأن حركة الوحدات كانت بطيئة، ونظرًا إلى حماسة الخويلدي، ترك كتيبته في أثناء انطلاقها نحو طرابلس، وفضّل أن يسبق الكتيبة بساعات.

لمّا توقف الخويلدي أمام معسكري، ركب معه السيارة عبد المنعم الهوني، وانطلقا نحو الإذاعة، وكنت قد ذهبت أنا والهوني إلى ترهونة واجتمعنا بالخويلدي وأبو بكر جابر يونس، وأبلغناهما بموعد الثورة وحددنا لهما المهمات بحسب الخطة ثم عدنا إلى طرابلس. في مساء هذا اليوم التقيت عددًا من الضباط الأحرار من مدينة الزاوية غربًا إلى مصراتة شرقًا، مرورًا بمدينة الخمس لإبلاغ أعضاء الحركة بالموعد والخطة والمهمات.

قبيل الثورة بأسابيع، حصل خلاف وشجار بين عمر المحيشي وعدد من الضباط الأحرار في الكتيبة السادسة بمدينة الزاوية. كان السبب الرئيس في هذا الخلاف يكمن في شخصية عمر المحيشي؛ إذ إنه لا يحسن التواصل والحوار مع الآخرين نتيجة أسلوبه الاستفزازي والمنفّر، وأحيانًا المقزز، وفي شخصيته الاستعلائية، وقد جرّ عليه هذا نقمة الكثير من الضباط الأحرار، وكانوا يعاملونه بقسوة وكثيرًا ما حاولوا اتخاذ إجراءات ضده. لكن الأخ معمّر يحميه ويدافع عنه، وكثيرًا ما كان يأتيني ويقول لي يجب ألَّا نتخذ قرار تفجير الثورة قبل التأكد من جذريتها، وكان يقول إن الكثير من الضباط الأحرار لا يملكون الثقافة والوعي لتفجير الثورة، وهذا اعتقاد يشاركه فيه الكثيرون، وكنت أقول له: “إن هذا ليس مفاجئًا لي، وهو ناجم عن تحول الحركة من حركة مدنية، حيث الشروط والمعايير الصارمة، إلى حركة عسكرية تستهدف أكبر عدد من الضباط”. ولذلك، كنت قد قاومت وعارضت تحول الحركة إلى حركة عسكرية، ولكن – للأسف – حصل الأخ معمّر على موافقة أغلبية اللجنة المركزية للوحدويين الأحرار.

في هذه الأجواء، وقبيل الثورة، كنت أنا والأخ معمّر في طريقنا إلى الزاوية لمعالجة هذا الخلاف. ثم حدث عند وصولنا إلى منطقة باب قرقارش في جزيرة الدوران استوقفتنا دورية للشرطة وطلبوا منّا التعرّف على هوياتنا، فقال لهم الأخ معمّر: “نحن ضباط جيش”، فردّوا بوقاحة: “نحن لا نعرف ضباط جيش. هاتوا بطاقاتكم”. فغضب الأخ معمّر وزعق في وجوههم: “احترموا أنفسكم”، ثم دخل معهم في شجار لم ينته إلا بالسماح لنا بمواصلة الرحلة.

حينما كنت في الولايات المتحدة، اشتريت أحد عشر مسدسًا مع ذخائرها واحتفظت بها في منزلي طوال سنتين. ليلة الثورة، وزعت المسدسات بين الضباط الذين كانوا معي. في هذه الليلة حدث أمر غريب ومثير، فحين كان الضباط والجنود يغادرون معسكر قاريونس في بنغازي متجهين إلى الأهداف التي حددناها في الخطة، علمت أن الأخ معمّر “تخاذل” في هذه اللحظة، وترك ضباطه وجنوده وذهب لينام في غرفته بالمعسكر.

في ما بعد – في أواخر الثمانينيات – أدلى الأخ عبد المنعم الهوني بتصريح، من القاهرة حيث كان يعيش، مذكّرا بهذه الحادثة. وحين استمع الأخ معمّر إلى تصريحه، لم ينكر، وقال: “فعلًا ذهبت إلى غرفتي ونمت”، وقال في معرض تبرير هذا “التخاذل”: “أنا قائد الأوركسترا، ومهمتي هي ضبط الإيقاع وتنظيم الفرقة وبعد ذلك تنتهي مهمتي”.

وصباح يوم الثورة، فوجئنا بأن أوامر صدرت للكتيبة السادسة المتمركزة بمدينة الزاوية بالتحرك إلى طرابلس، وبالتحديد معسكر تاجوراء، وحتى اليوم ظل تحرك الكتيبة لغزًا بالنسبة إلينا: أكان تحركًا لإجهاض الثورة أم عملية نقل روتيني؟

لقد واجهت ليلة الثورة تحدّيَين كبيرين: الأول، كيف يمكن الحصول على ذخيرة؟ فمن دون ذخيرة سيكون موقفنا ضعيفًا وصعبًا في حالة حصول أي مواجهة. لما سحبوا الذخيرة من كتيبتي، أخبرني رئيس عرفاء كتيبتي خليفة إحنيش بأنه يعرف ضابط الشرطة المسؤول عن مخازن الذخيرة، فطلبت من إحنيش أن يتقرّب إليه ويحاول أن يقيم معه صداقة وثيقة، والأهم أن يعرف مكان إقامته.

في الساعة الرابعة والنصف لما انطلقنا نحو أهدافنا، انطلق إحنيش مع مجموعة من الجنود صوب منزل ضابط الشرطة، فاصطحبوه إلى مخازن الذخيرة، ثم عادوا إلينا بسيارات محمّلة بكل أنواع الذخيرة، فارتفعت معنويات الجنود، وأخذوا يطلقون طلقات نارية في الهواء ابتهاجًا.

كانت الأهداف التي حُددت لقواتي هي السيطرة على البريد وقطع الاتصالات، والسيطرة على وزارة الداخلية ومديرية الشرطة وجهاز الأمن ورئاسة الأركان، وشلّ القوة المتحركة الموجودة في معسكر قرقارش من دون الدخول في أي صدام معها، بل الاكتفاء بمحاصرة المعسكر ومنع هذه القوة من الخروج. ثم قمنا بزرع ألغام تدريبية حول المعسكر، ووجهنا إلى عناصر القوة المتحركة تحذيرًا صارمًا، بأن أي محاولة منهم لمغادرة المعسكر تعني تفجير الألغام وإبادتهم، ثم قام الجنود باعتقال كبار ضباط الشرطة الذين يقيمون في مركز المدينة.

في هذه الأثناء، فكرت في خطة لتوفير الوقت والجهد. حين اعتقلنا عددًا من الضباط الكبار، وعلى رأسهم مدير الأمن علي عقيلة، كنّا نتصل عبر البريد العام مع بقية ضباط الشرطة الذين لم نعتقلهم؛ ولذا طلبت من العقيد علي عقيلة أن يتحدث إلى زملائه ويبلغهم أن الثورة انتصرت، وأن عليهم ألا يقاوموا حفاظًا على سلامتهم. وبالفعل، حققت الخطة أهدافها.

أمّا التحدي الآخر، فكان يتمثل في السيطرة على الطرق الرئيسة المؤدية إلى القاعدة الأميركية (تُعرف باسم الملاحة)، وهي أكبر قاعدة جوية خارج الولايات المتحدة، وكانت تحتوي على قنابل نووية، ثم الحيلولة دون وصول ولي العهد أو رئيس الوزراء وكبار ضباط الجيش والشرطة إلى القاعدة.

كان وصول أي واحد من هؤلاء إلى القاعدة يعني أنه يمكن أن يطلب من حكومة الولايات المتحدة تفعيل المعاهدة العسكرية والتدخل لصالح النظام؛ فضلًا عن إمكانية استغلال إذاعة القاعدة، لتوجيه نداءات بمقاومة الثورة وعدم الاعتراف بها، ودعوة الشرطة والجيش إلى المقاومة والتصدّي لهذا التمرد بحسب مفهومهم.

في الساعة العاشرة والنصف صباحًا، وصلت كتيبة مدفعية من مصراتة تحت إمرة الضباط الأحرار، فاتصل بي عبد الله الحجاز، أحد ضباط الكتيبة، وسألني: “أين ستتمركز الكتيبة؟ وما هو الواجب؟” فقلت له: “تتمركز في منطقة تاجوراء وتصوّب مدافعها في اتجاه القاعدة الأميركية. وفي حالة إقلاع أي طائرات من القاعدة يجب تدمير ‘هناجر’ (مخابئ) الطائرات والمهابط. امنعوا أيّ طائرة من الإقلاع”.

وبالفعل تلقت القاعدة الرسالة وفهم ضباطها مضمونها الصارم، وهكذا تمّ شلّ حركة القاعدة الأميركية منذ ساعات الصباح الأولى. في الظهيرة، ذهبت صحبة الأخ عبد المنعم الهوني لمقابلة ولي العهد حسن الرضا السنوسي الذي كان قد اعتُقل في معسكري بباب العزيزية، وأخذنا معنا جهاز تسجيل، ثم طلبنا منه أن يتنازل طوعًا عن العرش، فوافق. وهكذا أعلنا عبر الإذاعة تنازل ولي العهد عن الحكم، وكان هذا أمرًا بالغ الأهمية؛ إذ كان الملك إدريس السنوسي في رحلة إلى اليونان، وقد أناب عنه ولي العهد.

أتذكر أنني أنا والأخ معمّر كنّا خلال الفترة 1968-1969 نقوم بزيارة بعض المناضلين من القوميين العرب الذين وضعهم النظام الملكي العميل في السجون، وكان من بينهم الدكتور محمود المغربي، وعمر المنتصر، وعز الدين الغدامسي، وعبد السلام الزقعار، وسواهم ممن نسيت أسماءهم، ولكن من دون أن أنسى نضالهم، وقد بنينا معهم علاقات نضالية وشخصية حتى حين كانوا في السجون.

تولى هؤلاء المناضلون مناصب سياسية مهمة في أعقاب الثورة، فأصبح محمود المغربي أول رئيس وزراء، بينما تولى عمر المنتصر مناصب وزارية عدّة، وكذلك الأمر مع الغدامسي الذي تولى حقيبة المالية.

قبل الثورة بأشهر قليلة، علمنا أن بعض الضباط الوطنيين الأعلى رتبة منّا، شكلوا تنظيمًا. وعلى الرغم من أن التنظيم كان في بداياته، فإننا – أنا ومعمّر – قرّرنا الاتصال بهم، وأذكر أن من بينهم الرائد المكي أبو زيد، والرائد محمد عزوز، وعرضنا عليهم التعاون وتوحيد الجهود لإنجاز الثورة، وقال لهم الأخ معمّر: “نحن مستعدون لأن نضع حركتنا تحت تصرفكم”، لكنهم رفضوا أي شكل من أشكال التعاون، بل إنهم أنكروا أن يكون لهم “تنظيم”.

بعد انتصار الثورة بثلاثة أيام، اجتمعت بإخوتي وقلت لهم: “اسمعوا جيدًا ما سأقول. أولًا، أنا منذ يوم الفاتح، لست أخًا لكم. أنا أخ لكل الليبيين. ثانيًا، ستجدون الكثير من الليبيين يتقرّبون منكم ويطلبون صداقتكم فاحذروهم، وحافظوا على صداقاتكم القديمة”. لقد تثقفت وتعلمت أن الحدّ الأدنى في سلّم الأيديولوجيات، هو الوطنية. لا أستطيع أن أنزل إلى العائلة أو القبيلة والعشيرة والطائفة.

على هذا النحو، تصرفت مع عائلتي وقبيلتي بقسوة، حفاظًا على إيماني بأنني لكل الليبيين. كما كنت عدوًّا للأجهزة الأمنية، والمستشارين المعيّنين أو المتطوعين، وحذرًا إلى أبعد الحدود منهم، لأنني تعلمت من التاريخ أن هؤلاء جميعًا يشكلون خطرًا على أيّ زعيم أو قائد سياسي؛ إذ إن دورهم هو تخويف القيادي والزعيم من الشعب، وخداعه بفكرة زائفة مفادها أن الجميع يكرهونه أو يقفون ضده، وأنهم وحدهم منْ يكنّون له الحب الصادق، وأنهم “مستعدون للموت من أجله”. في صباح يوم “الفاتح” تمّت السيطرة على العاصمة ودار الإذاعة ومحطات الإرسال.

يتبع في الجزء التالي

____________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *