محمود محمد الناكوع
عرفت أحمد احواس أول مرة في مدينة طرابلس في الستينيات من القرن الماضي، كان ذلك الوقت ضابطافي الجيش الليبي، وكان متدينا وله علاقة بالفكر الإسلامي الحديث، وهو على علاقة بشخصيات عدة من جماعة الاخوان المسلمين، وكان يشارك في جلسات وحلقات ثقافية تربوية.
علاقتي بأحمد احواس المباشرة تكونت من خلال في مدينة الرباط في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، وكان قائمة على المودة والصفاء، وكنا نلتقى يوميا تقريبا أثناء وجودنا بالمدينة، والتي انطلقنا منها عندما أسسنا “الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا”.
وكانت لقاءاتنا تجمع بين الأحاديث الخاصة بالنشاط السياسي وما يتطلبه من عمل وتواصل بالناس في شتى بقاع العالم، وخاصة أوروبا والولايات المتحدة، ومصر حيث كان يقيم آلاف الطلبة من الليبيين في تلك البلدان لغرض الدراسة.
كان حريصا على القيام بواجب العبادات من صلوات، وقراءة قرآن، في مظهر جماعي حتى تتقوى عناصر الترابط بينه وبين إخوانه وتلاميذه وأحيانا ترتب تلك اللقاءات ليلا، وأحيانا أخرى فجرا، وللفجر نفحات إيمانية ترفع من درجات القرب إلى الله، وترفع درجات التوكل على الله، والاستعداد للتضحية، وكنا نعمل في مشروع كله تضحية، وكان أحمد الأكثر استعدادا للتضحية والأكثر تقوى فيما أحسب.
أحمد احواس 1938 ـ 1984، ولد بجردينة بالقرب من بنغازي ـ كان طاقة إيمانية عملية، ولا يميل إلى التنظير والجدل، وفي الوقت ذاته كان من أصحاب الفضائل التي ترفع اقدار الناس عند غيرهم من الناس.
كان أحمد يتميز بالصدق، والتكتم، والشجاعة، والإخلاص، والوفاء، ويتحلى في سلوكه وتعامله بخلق الصفوة، وكأنه صورة تعيد للأذهان نماذج الصدر الأول من المسلمين.
حدثني مرة وهو في حالة من الحرقة والتفاعل والألم وشدة الضغوط، أنه يشعر بثقل المسؤولية التي تحمّل وضعها على نفسه، وهو في الوقت ذاته لا يجد ما يتطلبه العمل من الكفاءات والاستعدادات اللازمة، وذلك يحزّ في نفسه كثيرا.
إن ما تحمّله أحمد من مسؤوليات كبيرة بحكم موقعه قائدا للعمل العسكري في الجبهة، قد لا يشعر بخطورتها كثرة من الذين يتزاحمون في تلك الأيام على عضوية الجبهة. وجاء إلى ذلك الموقع بعد سنوات من العمل الدبلوماسي، وهو مرحلة مهمة من مراحل حياته وأعماله الدعوية، تستحق التوقف عندها.
أثناء عمله في المجال الدبلوماسي في كل من “غيانا” إحدى جزر الكاريبي، وقبلها في كل من الدنمارك، والصومال، وعدن، كان أحمد الدبلوماسي الداعية، وقد ترك أحمد في تلك الأماكن أثرا ثقافيا وتربويا طيبا ومشهودا، فهو لم يكن دبلوماسيا تهمه الحفلات واللقاءات ذات الطابع الدبلوماسي فقط، بل إن عمله كان أكبر من كل ذلك، فسخّر همته ومركزه لخدمة المسلمين قدر المستطاع، وحالفه التوفيق أينما حل، وترك في كل بلد تقريبا عددا ممن تتلمذوا على يديه وما زالوا أحياء ويذكرونه بالفضل والخير.
وسألت الأخت المجاهدة رفيقة دربه فاطمة عن نشاطه الإسلامي منذ شبابه، فذكرت لي أن أحمد تأثر بدعوة (الاخوان المسلمين) منذ مرحلة الدراسة الثانوية، وكان طوال وجوده في ليبيا منتظما في حلقات فكرية تربوية سواء في بنغازي أو في طرابلس، وواصل نشاطه الدعوي أينما حل.
وقد بارك الله في جهوده وتأثر بسلوكه وصحبته الكثير من الشباب في كل البلدان التي عمل بها خارج ليبيا، وقد كان النظام السابق في ليبيا لا يريده ان يعمل ويعيش في البلاد حتى إن رغب في ذلك، وكانت الأخت فاطمة نعم العون له في ذلك النشاط الإسلامي، وما تزال حتى الآن تواصل نشاطها في الوسط النسائي بلندن حيث تنتظم في بيتها منتديات لتدارس القرآن، والسيرة النبوية، وغيرهما من الموضوعات العامة، فجزاها الله خيرا عن ذلك.
أحمد ظل في مرحلة عمله الدبلوماسي داعية إلى تعاليم الإسلام، وأخلاق الإسلام، ومبادرا إلى مساعدة المسلمين أينما ذهب.
وتوفق الداعية أحمد إلى تكوين مجموعة من الشباب في “غيانا” وما جاورها من الجزر، وكان من بينهم الإخوان فيصل البكش، ونظام بكش، والدكتور داوود عبدالله، الذي له عدة نشاطات إسلامية في بريطانيا منذ أن استقر بها في تسعينيات القرن الماضي.
سالت الدكتور داوود عن الدور التكويني والتربوي الذي قام به أحمد عندما كان في “غيانا” (1977 – 1981) وعن الأشخاص الذين تأثروا بنشاطه، فقال: إنه هو أحد كثرة من الشباب الذين تعلموا من دروس أحمد وندواته، وتعلموا من سيرته وأخلاقه وفضائله. وذكر لي مجموعة أسماء من الأشخاص الذين استفادوا من ذلك العطاء المبارك، ومنهم: داوود عبد السامي، وسليمان عبد الصبور، وزبار بخس، وداوود عبد الحق، نسيم خان. هؤلاء بعضهم من “غيانا”، وبعضهم من جامايكا، وبعضهم من دومونكا، أي أن نشاط أحمد الدعوي قد شمل تقريبا كل جزر الكاريبي.
ومن فضائل أحد التي لا يعرفها إلا قلّة من الناس أنه كان ينفق من ماله الخاص أي من مرتباته على عدد من الطلاب لمساعدتهم لإكمال دراستهم، وهم من جنسيات مختلفة، وكان يساعد على إنشاء المكتبات، ونشر الكتب الإسلامية.
وكان لأحمد علاقات بعدد من الطلاب الليبيين الدارسين في الولايات المتحدة قبل الإنخراط في أعمال الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، وكانوا يفكرون في تأسيس تنظيم إسلامي، ولعل ارتباطه بأجواء العمل الإسلامي هو الذي جعله يصر في تكون الجبهة إسلامية، أو على الأقل أن تكون دوائرها الأساسية من المقتنعين بالفكر الإسلامي ليس على المستوى النظري فقط، بل على المستوى العملي.
بعد فترة قصيرة من إعلان الدكتور محمد المقريف استقالته من مهمة سفير ليبيا في الهند وانضمامه إلى تيار المعارضة الوطنية، قرر أحمد احواس أن يفعل ذات الموقف، فاستقال من مهمته الدبلوماسية في “غيانا” حيث كان قائما بالأعمال في السفارة الليبية فيها.
غادر أحمد “غيانا” إلى الرباط عام 1981، وأصبح العضو السابع والأخير من “فريق العمل” وهو الحجر الأساس في بناء الجبهة الوطنية في مراحلها التحضيرية، وقمت معه بجولة واسعة في الولايات المتحدة للإتصال بالطلبة ودعوناهم إلى تبني مشروعنا السياسي الذي تبلور في تنظيم الجبهة، كما قمنا بجولة أخرى في مصر لذات الغرض، وبجولة ثالثة في بريطانيا.
وتولّى أحمد الضابط سابقا، فيما بعد تنظيم وقيادة الجناح العسكري للجبهة، وهو الذي وضع كل الترتيبات الخاصة بالتدريب والتعبئة وتسريب الفدائيين إلى داخل تراب الوطن.
وفي مرحلة من مراحل العمل ـ حسب بعض الروايات ـ لم يشعر أحمد ومساعدون بالاطمئنان إلى بعض الترتيبات العملية في داخل البلاد، والخاصة بوضع المجموعات الفدائية التي وصلت إلى هناك بسلام عن طريق الحدود التونسية، فقرر الدخول إلى البلاد بنفس الترتيبات، وعبر نفس الحدود، ووصل إلى تراب الوطن في اليوم السادس من مايو 1984.
وتضيف الروايات: كان معه مرافقين إثنين من الفدائيين، وكان من المتوقع أن يستقبله أعضاء الجبهة حال عبوره الحدود التونسية، ووصوله إلى تراب الوطن، ولكن خللا ما وقع، ولم تنجح خطة الاستقبال.
هناك ملابسات كثيرة، وروايات مختلطة المعلومات عن ما حدث بعد وصول أحمد ومن معه إلى تراب الوطن، ولا أريد أن أخوض فيها لأنني لم أكن طرفا مباشرا فيها، وليس لدي من المعلومات ما يوضح حقيقة ما جرى.
وقد فوجئت بكثير مما حدث، وما انتهت إليه تلك الرحلة من نهايات مؤلمة.
وقد كشفت خطة دخول أحمد في تلك الظروف عن ضعف الكفاءة والتدني في مستوى الاداء في دوائر عدة في الجبهة، الأمر الذي كانت له تداعيات خطيرة فيما بعد.
مات أحمد احواس واقفا وعلى تراب الوطن كما هي موتة الأبطال، وكان هاجس تلك الحادثة حاضرا في نفسه قبل مغادرة تونس، وفي رسالة خطية قال لي:
“الأخ الفاضل الكريم محمود حفظه الله ورعاه … معذرة لعدم تمكني من الانتظار لحضور الاجتماع المقرر وذلك لعزمي على الذهاب في مهمة عاجلة إلى أرض الوطن الحبيب، فأرجوا ألا تنسونا من الدعاء، ومعذرة لعدم إعلامي لكم بهذا الامر، فدائرة العالمين بهذا الأمر ضيقة جدا .. وعلى كل حال سألتزم بأي قرار تتوصلوا إليه إذا خرجت أنا شخصيا على خير، أما إذا كان غير ذلك فأهلي أمانة بين أيديكم جميعا …” الرسالة بتاريخ 4 مايو 1984.
في الأثر: إنما يُعجّل بخياركم، وقد كان أحمد خيرة رجال الجبهة قيادة وأعضاء، وعجّل برحيله وترك فراغا لم يملأه أحد بعده.
لله درّه من رجل فذّ، قل أمثاله في هذا الزمان.
كان أحمد دائما يتطلع إلى الشهادة، وقد أفضى إلى ما قدم من جهد وجهاد لعله نال به ما يريد.
نسأل الله أن يتقبله أحسن القبول، ونسأله تعالى أن يغفر له ولنا، إنه غفور رحيم.
__________
المصدر: كتاب “أسماء في النفس وفي الذاكرة” لمؤلفه الاستاذ محمود محمد الناكوع، دار الحكمة ـ لندن (الطبعة الأولى 2011)