الباروني باشا واليا على طرابلس

ليث الباروني باشافي الآستانة، منذ وصوله إليها في ربيع 1913. ولكنه ظل يتحين الفرص للرجوع إلى طرابلس الغرب لمعاودة الجهاد من جديد.

ثم إن ظروف السياسة الدولية أتاحت للدولة العثمانية أن تعيد النظر في علاقتها بطرابلس الغرب. فكلّفت شقيق سليمان البارونيفي الآستانة: “يحي الباروني، فسافر إلى طرابلس في أوائل عام 1916، لينظر في حال البلاد ويختبر وضعها ويرى شعور السكان، فنزل في مصراتة، واتصل بزعيمها رمضان السويحلي، وأخبره بما تنويه الحكومة العثمانية من الإتصال بحركة الجهاد.

وعاد يحي البارونيإلى الآستانة، ليبلغهم بما رآه من عزم الطرابلسيين على مداومة الجهاد. فكان ذلك مما قوًّى الأسباب لدى أولياء الأمر في الآستانة لالحاق طرابلس الغرببالدولة العثمانية من جديد.

وهكذا أصدر السلطان محمد رشادفرمانا بذلك، وفرمانا آخر بتعيين سليمان البارونيواليا ، على طرابلس الغرب وقومندانا عاما لها.

ثم حملت غواص الوالي الجديد، نزل منها في مصراتةفي يوم من أيام نيسان\ابريل 1916.

كان أهل طرابلس، إذ ذاك، منقسمين إلى زعامات محلية متنافسة، ومنها ذلك العداء بين مصراتةوجارتها ترهونة“.

فلما وطئت قدم سليمان البارونيأرض مصراتة وقد نهض لاستقباله أهلها، وفي مقدمتهم زعيمهم رمضان السويحلي، أقسم المحتفى به ألا يذوق طعامهم قبل أن يعاهدوه على مصالحة ترهونة .. وفي نشوة اللقاء، عاهدوه على قبول كل صلح يقترحه بينهم وبين ترهونة.

ثم سار مركبه حتى ترهونة، وهنا استقبله أهلها، وفي مقدمتهم زعيمهم أحمد المريّض” .. فجدّد المحتفى به قسمه ذلك، بألا يذوق طعامهم قبل أن يعاهدوه على مصالحة مصراتة.

وتصالح الفريقان

وأرسل الباروني باشا، والي طرابلس، كتابا إلى كبار المجاهدين والأعيان والمشايخ، يخبرهم بأمره.

اتخذ الباروني باشامن مدينة الزاويةمركزا له، ورفع فيها العلم العثماني، ثم راح يبذل الجهود في مصالحة الزعماء، الذين أضناهم التنافس، ويوحد بين القلوب، وولّى كل زعيم المنطقة التابعة له، على أن ينفذ تعليمات الحكومة المركزية وأوامرها.

وتفرّغ إلى تنظيم القوات الطرابلسية كلها في جبهة واحدة، تمتد من حدود مصراتة شرقا إلى مركز زوارةعلى الحدود التونسية. وانطلقت كتائب المجاهدين تشنّ الغارات المنظمة على القوات الإيطالية.

الجمهورية الطرابلسية

استمرت الحال على ذلك عالما، ثم عاما آخر، وكانت الحرب العالمية الأولى، التي اشتركت فيها الدولة العثمانية، قد نشبت، وهي هي ذي تنتهي بانكارها هي ومن معها من حلفاء، وضياع ولاياتها، فلم تعد منها طرابلس الغرب.

وفكر الباروني باشا، والمجاهد الكبير رمضان السويحلي، في تأسيس دولة مستقلة، تكون جمهورية عربية لا علاقة لها بالدولة العثمانية.

وسرعان ما تمّت الاتصالات في هذا الشأن بين زعماء البلاد، ودُعي الأعيان للاجتماع في مسلاتة، فتوافدوا إليها من كل صوب.

وفي يوم 16 نوفمبر 1918، تم الاجتماع في جامع المجابرة في مسلاتة، وتم الاتفاق على إنشاء الجمهورية الطرابلسيةوانتخب أربعة من رجالات البلاد أعضاء في مجلس الحكومة، هم: سليمان الباروني، ورمضان السويحلي، وأحمد المريّض، وعبدالنبي بن خير، مؤجلين انتخاب رئيس للجمهورية حتى ينجلي الموقف وتستقر الأمور، كما انتخبوا في هذا الاجتماع التاريخي: “مجلسا للشورىمؤلفا من ثلاثة وعشرين عضوا. وقد أقسم الحاضرون جميعا يمين الولاء والإخلاص للجمهورية.

رفض المستعمر الإيطالي الاعتراف بالجمهورية الطرابلسية، وأنها مستعدة للحرب حتى النهاية! وزادت بأن ألقت طائراتها على الأهالي منشورا طويلا يطفح بالتهديد والوعيد! وبعث الطليان يوم 8 فبراير 1919، إلى حكومة الجمهورية الطرابلسية بكتاب يهدد البارونيبالقول إرحل عنا غير مطرودوفي 26 فبراير من نفس العام، بعث قائد أيطالي فاشي برسالة الى أعضاء مجلس الحكومة يطلب فيها اللقاء والاجتماع للوصول إلى حل سلمي. وقد كان غريبا أن ينشد الطليان الحل السلمي، ولهم في تلك الآونة ثمانون ألف جنديفي طرابلس.

وقد تم الاجتماع الأول، وتلته اجتماعات أخرى، حاول فيها الطليان إحداث انشقاق في صفوف المفاوضين من المجاهدين دون جدوى. وما بين قطع مفاوضات، واستئناف حرب ثم، عودة إلى المفاوضات ـ وذلك ابتداء من شهر مارس 1919 ـ اتفق الليبيون والطليان على قاعدة للصح في بنيادم“: وهي منح الشعب الطرابلسي دستورا يخوّله مباشرة حقوقه المدنية والسياسية، ويعطيه الحق في القيام بجميع واجباته الكبرى، مثل الشعوب المتمدنة

تم أول مايو 1919، وضع القانون الأساسي” (الدستور)، وعين بموجبه أعضاء مجلس حكومة القطر الطرابلسي، وهم ثمانية، ولم يكن بينهم سليمان الباروني، الذي اعتذر عن الدخول في المجلس، وأصر على الاعتذار رغم الالحاج عليه، وحجته في ذلك أنه عثمانيويريد الاحتفاظ بعثمانيته وبوظيفته في مجلس الشيوخ العثماني.

غادر البارونيطرابلس إلى الآستانة في 6 نوفمبر 1919، ولكن صادف قدومه إليها الانقلاب الذي قام به مصطفى كامل، فخابت آماله، وعاد أدراجه إلى طرابلس في مطالع العام التالي، بعد أن لبث في تركيا أشهرا ثلاثة .. عاد وصورة الوطن في قلبه.

عاش سليمان باشا البارونيـ بعد عودته إلى طرابلس ـ منعزلا، بعيدا عن السياسة، وهو يرى ما حققه صلح بنيادممن أمن للمواطنين بعد حرب دامية استمرت سنوات.

سعى الطليان إلى بذر بذور التفرقة من جديد فتوالت الدسائس ضد البارونيواتهمته بإحداث الفتنة.

طلبت السلطات الايطالية من الباروني في عام 1922، مغادرة البلاد، بعد أن أطلعته على مضابطزعمت أنها موقعة من أبناء وطنه، ومنهم أٌقاربه، وأدعت أنهم طلبوا من السلطات إبعاده حتى تهدأ الامور، وقالت له السلطات الفاشية: سنأذن لك بالعودة بعد خمسة عشريوما!

فغادر الوطن دون أن يودّع أهله وأولاده.

عاد مجددا إلى الآستانة، ثم إلى أنقرة، ولكنه وجد الانقلابىالكماليقد أتى على كل شئ!

فحاول السفر إلى الشام، أو مصر أو تونس ولكن حالت فرنسا وبريطانيا دون تحقيق أي من هذه الرغبات، فاجتاز رومانيا في طريقه إلى أوروبا، وهو يحمل جواز سفر باسم مستعار: “سليمان بن عبدالله العثمانيواستقر به المقام في باريس، ووجد نفسه فيها أسيرا لأن السلطات منعته من مغادرة فرنسا بمجرد أن عرفته أنه سليمان الباروني“.

تنقل وهو في فرنسا بين العاصمة باريس ومرسيليا، ووفق ذات يوم أن يتحصل، باسمه المنتحل، على جواز سفر من بعض المراجع في مرسيليا، فأبحر إلى تونس في سبتمبر 1923. وما أن علمت السلطات الفرنسية بوجوده في تونس، قام رجال الأمن بتطويق الفندق المقيم فيه، وأرجعوه في أول باخرة أبحرت إلى مرسيليا.

عاد البارونييطرق أبواب قناصل الدول في باريس، وهو يؤكد لهم أنه قد أعتزل السياسة ولن يقوم بأي نشاط سياسي مهما كان شأنه، وإنما يريد أن يغادر هذا المنفى ليعيش في تونس أو الجزائر أو سورية أو مصر، وكانت عائلته تعيش بين كثبان زوارةفي صحراء طرابلس.

أصرت السلطات الفرنسية على منعه من دخول تونس والجزائر وسوريا، أما السفارة البريطانية، فقد رفضت أن يقترب من الشرق العربي، وبخاصة مصر!، وأما تركيا فإنه هو نفسه لا يريد العيش في ظل العهدى الكمالي“.

كتب سليمان باشا البارونيإلى الشريف حسينيطلب منه تسهيل السفر له إلى مكة لأداء فريضة الحج، وكان قد كتب مقالا في جريدة الصوابالتونسية ينتقد فيه المعاهدة بين الإنجليز والشريف حسين، وما أن أطلع الشريف حسينعلى المقال، قال معلقا: “إن الباروني ما كتب إلا عن حسن نية ونصيحة، وأمر بالإذن له بالحج فورا.

غادر البارونيمرسيليا في يوليو 1924، بعد أن أمضى فيها عامين متجها إلى الديار المقدسة، وعندما توقفت به الباخرة في الاسكندرية، مُنع من النزول إلى البر. وما أن وصل جدةحتى وجد معتمد الملك في الحجاز في انتظاره منفذا لأوامر الملك باستقباله والقيام بما فيه راحته، ثم أكرمه الملك، واحتفى به، وقلده نيشان الاستقلال العربي“.

ثم توسطت الحكومة العربية ـ حسب رغبته ـ لدى السلطات الانجليزية ليزور مسقطو عمان، فوافقت السلطات الانجليزية على ذلك ورحبت به الأسرة الحاكمة. وعندما رست الباخرة في ميناء مسقط، صعد إليها وزراء حكومتها لملاقاته والترحيب به، وكان السلطان تيمورغائبا في الهند، فأرسل له من هناك، برقية ترحيب به.

أقام البارونيفي مسقط، وكان همه الدعوة إلى جمع الكلمة، والإتحاد، والنهوض بالمجتمع لمجاراة الأمم الحية، فلما مضى عليه عامان، وهو فيها كان قد كسب محبة الحاكم والمحكومين وأذا ببلاغ يصدره إمام المسلمين محمد بن عبدالله الخليلييقول: “ليعلم الحاضر الغائب .. أني قد فوَّضت الأمر في تنظيم المملكة تنظيما صالحا .. للشيخ سليمان الباروني فبيده المِلكية والعسكرية والمالية والسياسة الداخلية والخارجية .. فمن يخالفه في سبيل أعماله الإصلاحية يعاقب .. ولا يلوم إلا نفسه..”

نهاية المطاف

الباروني القوي الجسم، المتين البنية، الذي ما شكا من مرض في طول ما خاض من معارك وما لقي من عناء الإبعاد وشظف العيش، أخذت حُمّى الملاريا بتلابيبه منذ دخل عُمان، فهو يغلبها تارة وتغلبه.

داء الملاريا، لم يصطلح على البارونيالأب وحده، بل تعداه إلى إبنه الشاب ابراهيمـ الذي التحق به في مسقط هو وأفراد أسرته. توظف ابراهيم البارونيفي القصر الملكي في العراق عام 1934، بغية الإبتعاد عن بيئة مسقط الراشحة بحمى الملاريا، ولكي يتاح له أن يدرس الحقوق في جامعة بغداد.

رأى، في عام 1940، أن يسافر مع السلطان سعيدإلى الهند، بقصد المعالجة من هذا الداء العضال. ولكنه كان يبيّت أمراً آخر هو السفر إلى إحدى الجهات في تونس أو مصر، ليجتمع بمواطنيه، آملا العودة إلى أرض الوطن. فلم يكد يصل بمباييوم 23 مايو 1940، حتى سقط مغشيا عليه. فحُمل إلى المستشفى، فلما أفاق كان قد فقد القدرة على الحركة والنطق معا.

وفي الغربة، أيضا، مات سليمان البارونيرحمه الله تعالي.

_____________

المصدر: كتيب رقم 13 من سلسلة نوابغ العرب بعنوان سليمان الباروني المعلم المقاتلـ إصدار دار العودة ـ بيروت (1975).

مقالات

3 Commentsاترك تعليق

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *