سالم العوكلي
القبيلة، البداوة، أو مايشتق منها من مفردات تتوجه في مجملها لوصف حالة رجعية من التخلف الذي يناهض الحداثة، بدأت علكة دائمة نستخدمها دون أن نتوقف عند ما طرأ من تبدلات جذرية في هذه المفاهيم، وقد أتيح لي أن أعيش حياة البداوة في قلب القبيلة وأن أعيش في المدينة في قلب الحاضرة، وكنت ألمس تلك المتغيرات في هذه المفاهيم التي تتناغم مع وتيرة سريعة في التقنية والحضارة والتواصل، حيث مفهوم القبيلة في الاقتصاد الرعوي او الزراعي البعلي غيره تماما بعد النفط وما ترتب عنه من رفاه، وحيث مفهوم البداوة تغير مع شبكة المعلومات والمعرفة التي اجتاحت كل الجيوب المعزولة في العالم.
يحيلني هذا التصور إلى مقالة الكاتب صالح السنوسي (القبلية والديمقراطية والمغالبة) المنشورة بتاريخ 18 أكتوبر 20121 ، التي أثارت الكثير من الشجون، ولأنها مقالة مهمة، وتحتاج إلى نقاش يذهب إلى تفحص ما حدث من تغيرات في القاعدة الاجتماعية لأي بناء سياسي فوقها، أو بمعنى آخر، هذه المقالة تركز على الاستحقاق السياسي المتمثل في شروط البناء الديمقراطي للدولة على حساب التركيز على القاعدة الاجتماعية وما حصل فيها من تحولات جوهرية؛ وهي تحولات نوعية يمكن أن تفضي لهذه الشروط حين تدار بعقل يستطيع التوفيق بين خصائص المجتمع ومتطلبات الدولة الحديثة واستحقاقات العولمة والرقمنة التي غدونا في قلبها، وما حصل في بنى المجتمع من تبدلات جوهرية نتيجة انسياب المعرفة عبر تأثير هذه الثورة التقنية، وما حدث من تصدع في بنية المجتمع الأبوية نتيجة هذه المؤثرات، لأن البناء الهيراركي لأي مجتمع بطركي (سواء في المدينة أو الريف) هو العائق السياسي لقيام نظام ديمقراطي.
حين كنت أذهب إلى قريتي مرورا بقرى أخرى، كنت أرى لافتة (لا للفيدرالية) منتشرة على الجدران في وقت تحركت فيه وجهة النظر هذه لدى القلة، وكنت ألتقي بشبان القرية، وحدويون بتطرف ــ مع أن الفيدرالية ليست ضد فكرة الوحدة الوطنية ــ وكانوا في الوقت نفسه مصرين على استخدام اسم (برقة) كهوية لهذا المكان، وباعتباره اسما جرفه تيار القذافي الوحدوي المتطرف، ومنعه من التداول مثلما جرف بعد ذلك اسم ليبيا من خارطة الهوية ومنعه من التداول .
كنت أرى أن تسمية فيدرالي مزدراة من قطاع واسع وأحيانا مدعاة للتفكه والسخرية، ولكن مع الوقت ومع احتدام المركزية، وبث خطابات الكراهية في وسائل إعلام من الغرب والشرق الليبي، وتصاعد وتيرة الاحتقان والاستقطاب، بدأت المعدلات تتغير دون أن تقصي تنوع وجهات النظر، تحول بعض الفيدراليين الراديكاليين الذين خدمتهم الظروف إلى انفصاليين، وتحول قطاع من الوحدويين الراديكاليين إلى فيدراليين، واقترب الفيدراليون المعتدلون من الوحدويين المعتدلين ليشكلوا ما يمكن تسميته تيارا وطنيا وحدويا ضد المركزية، وكل هذا عايشته عن قرب ويحدث في مجتمعات توصف بالقبلية أو بالتعصب، رغم أن الأسرة الواحدة منقسمة تجاه هذه الرؤى.
من جانب آخر، أحتفظ بالكثير من البيانات التي صدرت بعد فبراير من اجتماعات قبلية، ومن بيانات صدرت من قلب الحواضر المدنية في ليبيا، وأقبض على مفارقة غريبة، فجل البيانات القبلية تحرص على وحدة الكيان الليبي، والحفاظ على المسار السياسي بعد الانتخابات، وعلى مدنية الدولة، بينما بعض البيانات (الفتاوى) التي صدرت من حواضر مثل درنة أو بنغازي أو طرابلس أو صبراتة أو مصراتة كانت تكفر الديمقراطية والدولة المدنية من الأساس، أو تدعو في أفضل الأحوال إلى دولة دينية تُحكم شرع الله.
وأعرف أن هذه المفارقة خاضعة لظرف شاذ وليست راسخة اجتماعيا أو ثقافيا، فقط لأن تلك الحواضر سيطرت عليها لفترة جماعات الإسلام السياسي المتطرفة، وهي حقا لا تعكس روح تلك المدن التي لها باع طويلة في الثقافة والسياسة، والتي أسهمت بقدر كبير في تأسيس أول دولة وطنية مدنية في ليبيا.
لكن السؤال هو كيف استطاعت هذه الجماعات الظلامية أن تسيطر بسهولة أو بغير سهولة على تلك الحواضر النابضة؟ ولماذا غابت لفترة التيارات المدنية والوطنية فيها، بين صمت وحياد أو نزوح خارج المدن.
هذه المفارقة الناتجة عن ظرف طاريء تمت بصلة إلى مفارقة حدثت قبل سبعين سنة ناتجة عن ظروف مختلفة، إبان الشروع في تأسيس دولة ليبية مستقلة لأول مرة وفق قرار من الأمم المتحدة وبدعم منها، حيث يذكر مبعوث الجمعية العامة أدريان بيلت، أنه في التجهيز لصياغة دستور الدولة تطلب الأمر وجود هيأة لصياغته، ما سمي فيما بعد لجنة الستين، ولكن كانت الاختلاف بين الذهاب إلى تعيينها وبين انتخابها، والمفارق أن الأحزاب الناشطة في طرابلس كما يروي بيلت كانت مع التعيين وضد الانتخاب.
إضافة إلى النخبة الحاضرة من الشرق وجلها من بنغازي والفاعلون فيها معظمهم أعيان مدن أو تكنوقراط عائدون من المنفى، كانوا يميلون لآلية التعيين، غير أن الطرف الثالث المتمثل في فزان كان رافضا لفكرة التعييين بشدة مؤكدا على ضرورة انتخاب أعضاء لجنة الستين، مع العلم أن ما يمثل فزان في تلك الفترة هو تجمع قبلي يقوده السيد أحمد سيف النصر الذي كان لا يقبل نقاشا في ما يخص انتخاب الهيأة ما عرقل الشروع في صياغة الدستور، إلى أن تدخل الأمير السنوسي لإقناعه. وهي مفارقات تطرح أسئلة حيال مفهوم القبيلة ومفهوم الأحزاب الذي مازال في جدل حتى وقتنا الراهن. فالأحزاب ضرورة لأي ديمقراطية، ولكن ليس بالضروة القبيلة معرقلة للحلم الديمقراطي.
القبيلة كيان اجتماعي راسخ منذ قرون وتمتد جذوره في مكونات المجتمع الليبي،، الأمازيغي والعربي، وتحضر القبيلة بقوة إذا ما تراجع الدور المؤسسي في الدولة أو غاب إنفاذ القانون وكأنها سيناريو بديل في حالة غياب هذه الشروط المدنية للحفاظ على الترابط والسلم الأهلي، وطبيعة العمل السياسي أنه يحتاج إلى مجموعات، وحين تغيب المجموعات البديلة يتراجع المجتمع تلقائيا إلى مجموعاته التقليدية، ورغم ذلك، إذا ما تمعنا في كل الانتخابات التي حدثت بعد ثورة فبراير، والأسماء التي تصدرت المشهد عبر مبادارت للمجتمع الدولي، فلن نجد للقبيلة دورا واضحا أو أثراً فيها، من أعضاء المجلس الانتقالي ورئيسه، إلى آخر قائمة للسلطة القائمة حاليا.
فأول انتخابات جرت في درنة، مثلا، وعايشتها العام 2012: لم تتدخل فيها القبيلة بأي شكل من الأشكال، كانت الانتخابات وفق قوائم حزبية وأفراد، كما في كل ليبيا، وتشكلت أول سلطة تشريعية منتخبة عن طريق القوائم الممثلة لتيارات سياسية وليس قبلية، وهي الهيمنة نفسها التي اتخذت فيما بعد، وللأسف، قرارا بغزو قبيلة لقبيلة أخرى من أجل تصفية حساب قديم.
انتخابات مجلس النواب لم يكن فيها للقبيلة دور بارز رغم إلغاء آلية القوائم، وانتخاب عقيلة صالح رئيسا للبرلمان كان عن طريق أعضاء مجلس النواب الذي يشكل فيه الأغلبية أعضاءٌ من الغرب والجنوب ولم تكن القبلية منطقيا وراء هذا الانتخاب.
السلطات التي نتجت عن الاتفاق السياسي، السراج وباقي رؤوس المجلس وما سمي حكومة الوفاق الوطني لم يكن للقبيلة دور فيها.
قائمة المنفي وادبيبة لم تصل عبر أي تدبير قبلي ولكن كان وراءها رجال الأعمال أو المال السياسي.
غير أنه بمجرد أن ظهر فراغ سياسي ولم تستطع الأحزاب الهشة ملء هذا الفراغ، ما عدا ذراع الإسلام السياسي، لا أقول عادت القبلية ولكن الجهوية والمحاصصة الإقليمية، التي تحفزها أسباب أخرى تاريخية واجتماعية وإدارية، لكن لا يمكن أن نخلط بين الجهوية والقبلية، فالشرق مثلا يتكون من قبائل من جميع أنحاء ليبيا، بينما المقاطعة أو الانقسامات داخل مجلس النواب، كانت وراءها في الغالب أسباب أيديولوجية في الأساس وظفت فيما بعد المشاعر الجهوية.
وحين أقول أيديولوجيا، أعني الإسلام السياسي المنظم بكل أذرعه، وهو التيار الذي هاجم بضراوة القبيلة والجيش منذ البداية لأنه يراهما العائقين امام مشروعه في التمكين الذي فشلوا فيه عبر الانتخابات، واستطاعت وسائل إعلامهم وجيوشهم الإلكترونية أن تؤثر في قطاع واسع (حتى من بين المثقفين)، عبر استخدامهم لهذه اللافتات كمسبات تقف عائقا أمام الدولة المدنية، بينما تيارهم هو صُلب النظام الأبوي التراتبي الذي يشكل عائقا حقيقيا أمام الديمقراطية. وهو النهج الذي تبناه القذافي في بداية طرح أيديولوجيته حيث تحول اصطلاج ا(لقبلية) إلى ما يشبه الشتيمة ثم التهمة، وأيديولوجيا الإسلام السياسي فعلت المثل، وكلاهما عاد في النهاية لمحاولة خلق تحالفات قبلية للحفاظ على السلطة.
وفي الحالتين كان من يمثل القبائل في تحالفها مع السلطة بعض الانتهازيين أو الميليشيات غير المحسوبة على قبائلها، والظرف دائما مرتبط بهيمنة السلاح والمال الفاسد، وهو ظرف تراجعت فيه القبيلة حتى عن ممارسة دورها القديم في المصالحة والحفاظ على السلم الاجتماعي.
لا يمكن بناء طوابق سياسية أو مدنية إلا فوق أرضية اجتماعية درسناها وفهمنا تحولاتها ومدى استعدادها لهضم استحقاقات الدولة الجديدة، لتكون هذه المتغيرات حافزا لبناء دولة مدنية وليست عقبة ترمي بنا لليأس من المستقبل، ولعل عالم الإنترنت الذي دخل كل الجيوب المعزولة مثلما دخل الموبيل جيوب الفلاحين ورعاة الماشية، يبني نوعا جديدا من العلاقات، ووعيا مختلفا يجب أن ننتبه له ونسخره لخدمة أحلامنا في أن نكون جزءا من العصر، فكل مشترِك في منصة تواصل اجتماعي أصبح أصدقاؤه في هذه المنصة من أصقاع الأرض هم قبيلته التي يتواصل معها ويتابع أخبارها يوما بيوم. ومازال للشجون بقية .
______________