(المحرر: قدم المناضل بشير العامري رحمه الله هذه الورقة في سبتمبر 1993، ولذلك على القارئ أن يقرأها في سياقها التاريخي التي تناولته)
هذه الورقة تناولت كمحاولة لعلاج ثلاث مواضيع أساسية في أجندة المعارضة الليبية في الخارج، وهي: أولا، تقييم عقد ونصف من النضال من أجل الحرية، وثانيا، التطورات التي طرأت على أسس استراتيجية النضال، وثالثا، تصور جديد لقيادة النضال من أجل تحرير الإنسان الليبي وتمكينه من أن ينال حقوقه الطبيعية.

الجزء الثالث

تصحيح المسار

ونحن نقيم سنوات النضال المريرة لنتعرف على الأسباب التي ساهمت في قوة المعارضة وضعفها وفي أسباب قصورها، لابد أن تكون لدينا القدرة على الاستماع للرأي المخالف حينا والناقد حينا آخر، فالروح التي نقبل بها على المرحلة هي التي تحدد درجة النضج والجدية معا، فقد نكيل الإطراء والمديح لأنفسنا كما نشاء ونضع أصابعنا في آذاننا ونستغشي ثيابنا حتى لا يصل إلى أسماعنا ما نكره ونكتفي بترديد مآثرنا وما حققنا من نجاحات ومقدار تفوقنا على الآخرين معتقدين أن كل ذلك هو ما يعطينا الدفع إلى الأمام ويحمينا من الوقوع في دركات الإحباط والإنهزام الداخلي.
لكن الحقيقة هي خلاف ذلك فمن لا يفهم ماضيه سوف يعيده ولنستهدي بروح الدين الحنيف التي تدفع بالعاصي حتى يتوب ويقلع عما هو غير محمود فإن فعل أمرته بالالتزام بما هو خير فإن فعل أمرته بالشكر للذي هداه فإن فعل أمرته بالبذل والعطاء وفي كل مرحلة من مراحل التغيير، يوهب منزلة أفضل من التي كان فيها ويرفع عنه وزرا حتى إذا بذل روحه وصار شهيدا في سبيل الحق وُعِد أعلى منزلة في العطاء الرباني، فيرفع عنه كل وزر حتى لا يبقى هناك من داع لمساءلته يوم العرض ويحشر في ثلة قليلة من البشر مع الأنبياء والصديقين، وحسن أولئك رفيقا.
ويأتي التصحيح بعد التقييم بداهة فإن لم يحدث ذلك التصحيح فإما أن العمل كان مستقيما ولم يعاني مما يدعو إلى تصحيحه أو أن حركة التقييم كان يعوزها الصدق وهو إجراء كثير الحدوث في السياسة بهدف الدعاية السياسية أو لعدم القدرة على التصحيح لما يحتاجه ذلك الأمر من شجاعة وإمكانيات فوق طاقة المصححين.
والتصحيح غير الدعم، فالأول يقتضي تغيير في الإتجاه بينم يتطلب الآخر تغيير في الكمية، ولصعوبة التصحيح غالبا ما تلجأ المنظمات والحكومات على السواء إلى مضاعفة الجهد مع الحفاظ على وجهة المسار فتكون النتيجة مضاعفة الخطأ بالتالي فداحة الخسارة، وتلك نتيجة الولاء التنظيمي الذي تصر عليه المنظومات السياسية حاكمة كانت أو معارضة، قوميا كان فكرها أو أصوليا، فنجد العصبية هي التي تدفع الأعضاء إلى ما هم عليه من وحدة الرأي، وإن كان ذلك الولاء التنظيمي وتلك العصبية ضرورية لايجاد الترابط واستمرار العمل الجماعي فغالبا بل دائما ما ينساق التنظيم أو الحكومة وراء مصلحته الخاصة بدافع العصبية والتحيّز ورغبة في الغلبة والظهور حتى وإن كان الحق مع منافسيه.
نعم إن الولاء للحق قبل الرابطة التنظيمية بعد اليوم تجديدا وخروجا عن المألوف، لكن معظم الصراعات على السلطة في العالم الثالث وما ينشأ عنها من إهدار للأرواح والموارد إنما هو بسبب تلك العصبية الجاهلية وبسببها أيضا لم يحقق الأسلوب الديمقراطي في الإدارة والحكم في المجتمعات المتخلفة ما كان مرجوا منه فلا يصل الأكفاء من القادة إلى حيث يجب أن يكونوا مكان من هم دونهم قدرة وعطاء.

المصالح المشتركة

ليس هناك ما يدعوا للاعتقاد بأن العالم الغربي (أمريكا) قد تغير من مستعمر للعالم الثالث إلى حليف له، وهذه حقيقة لا أعتقد أنها موضع خلاف ولا يجب أن تغيب عن أذهاننا في غمرة أحلام اليقضة التي تراود الضعفاء المغلوب على أمرهم، فالعالم الغربي وإن منح شيئا من الحرية للشعوب المستعمَرة وتوقفٌ عن توطين الرجل الأبيض في أراضيها تحت إلحاح الثورة القائمة، إلا أن المبادئ الأخلاقية والسياسية في الغرب لم تتغير عما كانت عليه في القرن التاسع عشر وتبعا لذلك لم تتغير رغبته في إبقاء شعوب العالم الثالث في إطار نفوذه.
ولو أفردنا المنطقة العربية الحديث لوجدناها تمتاز عن كثير من شعوب العالم الثالث بثلاث عوامل تؤهلها لأكثر من أن تبقى تابعا للغرب وفي صميم موطن نفوذه، فهي تمتلك حصة كبيرة من الاحتياطي العالمي من الزيت ـ عصب اقتصاد عالم اليوم وشريان الحياة الأول فيه ـ إلى جانب أن المنطقة هي موطن الإسلام المنافس المحتمل للنفوذ الغربي في العالم الاسلامي، والباعث لهذه المنطقة من جديد والمحفز لها على الاستقلال السياسي والاقتصادي عن الغرب ونفوذه، ثم هناك دولة إفسرائيل بما لها من نفوذ بالغ في علاقة الشرق والغرب، وإذا صح أن الغرب لن يسمح حتى لله أن يكون له القرار النافذ في سلعة النفط وأنه لن يرضى إلا أن تكون إسرائيل هي القوة العظمى في المنطقة، فإن هناك ثلاث نتائج تُحتِّمها الفرضية السابقة وهي:
أولا: لن يسمح الغرب بقيام قوة عسكرية في المنطقة العربية قادرة على تهديد أي من المصلحتين النفط أو إسرائيل كائن من كان وراء هذه القوى إسلاميا أو قوميا.
ثانيا: لن يسمح الغرب بقيام نظام ديمقرطي حقيقي (وهو لم يسمح فيما مضى) في المنطقة العربية بقيام نوع النظام الديمقراطي المعروف اليوم في الغرب لأن ذلك يفسد منظومة التعامل بينه وبين حكومات هذه الدول، وقد ثبت أن غياب الشرعية تجعل السلطة الحاكمة تعتمد في أمنها الداخلي والخارجي على ولائها المطلق للغرب.
ثالثا: لن يرضى الغرب وسيظل يعمل ما في وسعه لكي يكون الأساس الفكري لأي حركة سياسية في المنطقة العربية إلا غربيا ومن ثم فلن يسمح بتمكن الفكر السياسي الإسلامي من الوصول إلى السطلة، ولسنا في حاجة إلى برهان أو حجة على صحة هذه الدعوى فالمؤامرة ضد النظام الديمقراطي الإسلامي في الجزائر وما يحاك الآن ضد السودان من مؤامرات وما يبذل من محاولات لإجهاض الثورة الإسلامية في إيران و أفغانستان وحملات التشكيك والطعن في الصحوة الإسلامية العالمية، كل ذلك وغيره من صريح الشواهد تكفينا عناء التدليل على صحة ما أوردنا.
كان هذا تقديما عاما لسؤال أكثر خصوصية وهو: ما هو الدور الذي ينتظره الليبيون من أمريكا أن تلعبه في القضية الليبية؟  الدولة المسلمة العربية النفطية القريبة من إسرائيل، وموطن حركة إسلامية سياسية ، إن لم تكن فاعلة فيكفي أنها تصل غرب الشمال الافريقي بشرقه، وتصل البحر بدول حزام تحت الصحراء المرشح الجديد لصحوة إسلامية، والاستقلال عن النفوذ الغربي.
مما سبق يتبين أن لأي نهضة حضارية أو حركة سياسية تهدف إلى الإصلاح وتأمين حقوق الإنسان في ليبيا أن تضع في أولوياتها ولا تتغاضى على قضية العلاقة بين العرب والغرب وبالتخصيص النفوذ الغربي في العالم العربي وفي ليبيا، فالسكوت على هذه القضية قصورا أو تقية يفقد الحركة مصداقيتها وتجعل الذين تريد الحركة منهم أن يكونوا أنصارا لها يصدرون عليها أحكاما مسبقة بالعمالة أو بالسطحية وإذا وصلت حركة مثل هذه (لا تمتلك دعما شعبيا من الطبقة الواعية سياسيا) إلى السلطة فهي حتما حركة النخبة التي تفرض إرادتها على الآخرين بالقوة ولا تجد بدا من الاستمرار في تحالفها مع القوة الأجنبية التي مكنتها من مقاليد الحكم، فالليبيون مثل العرب جميعا لا يريدون أن يكون تراب فلسطين ثمنا للإنفتاح، ولا يريدون التبعية الاقتصادية والسياسية للغرب هي البديل الوحيد لنظام الحزب الواحد، ولا يريدون التخلي عن تعاليم دينهم الحنيف مهرا من القضايا العربية الاسلامية الكبرى وهي التبعية للغرب وتحرير فلسطين، والصحوة الاسلامية.
هذه هي الأسس التي تحدد الإنتماء والولاء التنظيمي وتدفع بالعطاء، أو تحبطه.

نظرة في الاستراتيجية

كانت الرؤية التي ارتأتها المعارضة الليبية أو العقد المنصرم، أن العالم العربي ودول الجوار ثم العالم الغربي كله يناهض سياسة القذافي ولا يريد له البقاء على رأس السلطة في ليبيا لما يسببه من قلاقل للحكومات العربية ولسياساته غير المنضبطة بالأعراف الدولية ولأنه مصدر لعدم الاستقرار في المنطقة، وظنوا أن ما يُبقى على سدة الحكم في ليبيا إلا غياب خصم كفء، وقوة قادرة، لكن هذا الرأي قد ثبت خطأه ثبوتا يجعل الاستمرار عليه حمقا ما بعد حمق.
ذلك أن ما توفر من قوة وبأس ولسنوات لدى المعارضة فاق كل ما كان يطمع له المرء من مدة وعدة، وما توفر قبل ذلك في الجزائر لم يكن بالأمر الهين أيضا بل كان يكفي لاستنهاض الحليف وكسب العون وجلب المدد، لكن من ذلك لم يحدث وتركت تلك القوى تتداعى وتضعف أمام سمع حلفاء المعارضة الليبية وبصرهم وبعلم “أعداء” القذافي جميعا,
وأصحاب الرأي السياسي في المعارضة الليبية اليوم أمام خيارات ثلاث:
أولا، الاستمرار على العهد القديم والذي بينّا عقمه وثبت عدم جدواه.
ثانيا، أن تسقط المعارضة من برامجها مطلبها الأول “إسقاط النظام الحاكم” وتنفرد وتضع كل جهدها في تهيئة نفسها فكرا وخطة للهدف الثاني من أهدافها “إقامة البديل الراشد”، وهذا الخيار وإن كان يبدو عليه الواقعية لأول وهلة وله ما يدعمه في تاريخ الحركات السياسية الحديثة في المنطقة العربية.
ثالثا: نظرة متعمقة في الوضع السياسي العربي والعالمي ستهدينا إلى أن هذا الخيار الثاني لا يعدو أن يكون وهما جديدا. بل قد يكون الإستسلام والإنصراف لتربية أولادنا أفضل من الاصرار على ما لا جدوى منه ذلك أن التمعن فيما ينتظر المنطقة العربية لا يجعل هناك كبير أمل في نشر أي دعوة أو في الوصول إلى السلطة بالطريق السياسي فليس لذلك من شاهد في التاريخ المعاصر ولعلمنا بأن تغيير السلطة في ليبيا لن يكون سلميا وعن طيب خاطر من الحاكمين بل عنة ومن داخل المؤسسة الحاكمة نفسها، فالذين يملكون زمام السلطة لن يتركوه حتى وإن سمحوا بتكوين أحزاب سياسية فسيبقى علم السلطان فوق كل راية ودعمه بالقلم واللسان محجة وشريعة لا يحيد عنها إلا هالك.
إن الذين يتوهمون تكرار ما حدث في نيكاراجوا يخطئون في تشبيه الملابسات السياسية العالمية التي تحيط بكل من ليبيا ونيكاراغوا وفي تشبيه معارضة مسلحة محاربة تقف على أرضها بأخرى في المنفى أو في معتقلات عدوها فضلا على أن القذافي أو قل منهج القذافي في الحكم هو عين ما يريده الغرب ولو لم يوجد القذافي لاستحدثوه ولو فنى أو ضعف لعززوه ونصروه وإن سقط أو أسقط في شخصه فسيبقى نظامه ـ نظام مستبد تهيمن عليه القوات المسلحة أو ترعاه وتنصره متى واجه الخطر. فما الذي يدعونا بعد كل هذه السنوات من الانتظار للاعتقاد بأن القذافي ليس بالحليف لكل القوى ذات الأثر في وضع ليبيا السياسي.
إن مدافعة القذافي ومقارعته بالسلاح لا ترجى اليوم إلا جهادا في سبيل الله بقصد نيل الشهادة أو ظهور الإسلام. أما الحرب من أجل المغنم فغير مرجوة لشراسة النظام وشدة تنكيله بالناس حتى أن فداحة المغرم لتفوق كل مغنم وتجعل كل مطلب يهون، ويشهد بذلك تواطؤ الناس في ليبيا على الخنوع والركوع والرضى بالغبن والهوان، وكأنهم جبلوا عليه، إذاً لم يبق أمام أو غيرها ممن لا يحملون لواء الاسلام وليس من جملة أهدافهم التمكين للإسلام إلا التحالف مع الحركة الإسلامية، ليس تحالفا استراتيجيا فقط بل إيجاد قاعدة مشتركة، وذلك بالاتفاق على مجموعة من الأهداف المرحلية وعلى أسلوب الحكم ثم يوثق موقف الجميع من القضايا الأساسية التي يظن أن تكون منشأ الخلاف الفكري فيما بعد، وتوضع تعريفات واضحة للمبادئ العامة مثل مبدأ الديمقراطية وحرية التعبير وباقي الحريات.

يتبع في الجزء الرابع بدءً بـ “نظرة في المنهج”

_____________________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *