عبدالرحمن شلقم

بعد معاركَ طويلة قادها الشيخ عمر المختار ضد الاحتلال الإيطالي الفاشي، تمكَّن جيش الغزاة من القبض على الشيخ الفقيه المجاهد. لكن المعركة لم تنتهِ بينه وبين آسريه، بل بدأت حرب أخرى بين الإرادة الوطنية الصلبة وعنجهية الجنرال الإيطالي غراسياني.

في معتقله كان الشيخ الفقيه المجاهد ينظر إلى جنرالات إيطاليا المتحلقين حوله يعلوهم الابتهاج بالانتصار على قائد المقاومة الليبية، ينظر إليهم بتعالي الجبال، ويرون في عيونه زخات الاحتقار لهم جميعاً.

يوم السادس عشر من سبتمبر (أيلول) سنة 1931، قام الفاشيون بتعليق عمر المختار على حبل المشنقة في مدينة سلوق أمام حشد من الرجال والنساء والأطفال الليبيين.

عندما اعتلى الشيخ السلَّم إلى حبل المشنقة بثبات، سرت الإرادة إلى الجموع المتعالية رؤوسها وهتافها وتكبيرها، وسرت ذبذبة أخرى إلى رؤوس العساكر الفاشيين الذين دبَّت فيهم حرارة الصدمة والضعف بسبب وهج الإرادة التي أشعّت من الجسد المرتفع نحو الشهادة.

كان يومُ إعدام شيخ الجهاد والإرادة بركاناً للحرية والمقاومة، هزّ العالم بأسره.

وسائل الإعلام العربية من محيطها إلى خليجها رغم أن أغلب البلدان العربية آنذاك كانت تحت نير الاستعمار الأجنبي، كل تلك الوسائل ملأت صفحاتها بالعناوين والمقالات التي تُكبِر وتُكبِّر لذلك المشهد المهيب، الذي هزم فيه المجاهد قاتليه مرة أخرى في معركة الإرادة الوطنية الجهادية.

تسابق الشعراء العرب لا أقول يرثون عمر المختار، بل يسطرون بحروف ومشاعر تفيض اعتزازاً بالشهيد كمثل يُجسّد قامة النصر وهو يسمو فوق الموت.

تحولت حلقة حبل المشنقة حول رقبة الشهيد إلى دائرة جرس إنساني عبرت أصقاع الدنيا وهزَّت الضمير الإنساني.

وسائل الإعلام العالمية في أوروبا وآسيا والاتحاد السوفياتي وأميركا الشمالية واللاتينية، دبَّجت صفحاتها بصور وتفاصيل مكتوبة عن عمر المختار البطل في ميادين المعارك وفوق عود المشنقة.

أُطلق اسم عمر المختار على أكبر الشوارع في المدن العربية ونُصبت تماثيل له في العديد من الحدائق والساحات في مدن العالم المختلفة.

اتخذه المقاتلون من أجل الحرية مثلاً لهم، وتحدّث عنه قادة الثوار في فيتنام والجزائر وجنوب أفريقيا والكونغو وغيرها.

يوم السادس عشر من سبتمبر هو اليوم الذي هزم فيه الموت الشامخ، جنون القتل الهمجي الفاشي.

آلاف المكافحين من أجل الحرية جرى قتلهم بالرصاص وعُلّقوا على أعواد المشانق، لكنهم لم يتحولوا إلى الملحمة الأسطورية التي تفرّد بها عمر المختار.

تكاملت الملحمتان الأولى والثانية وشكّلتا معاً كيان الأسطورة. الشيخ الطاعن في العمر الذي يتقدم صفوف المجاهدين وهو على صهوة جواده مندفعاً صاعداً للجبال ومخترقاً لمنحنيات الوديان في الجبل الأخضر، مُصوّباً بندقيته القديمة إلى صدور العدو المدجج بأعتى الأسلحة، ويوقع بهم هزائم متلاحقة.

الملحمة الأخرى كانت معركة المواجهة المباشرة مع الجنرالات الفاشيين بعد وقوع عمر المختار في الأسر.

قاتلهم بسلاح لا يملكون ما يواجهونه به، وهو سلاح التعالي عليهم بل الاستخفاف بهم، وذلك كله موثق في الأرشيف الإيطالي، حيث نشر مجموعة من الأساتذة المؤرخين الإيطاليين محاضرَ التحقيق مع عمر المختار بعد أسره.

كانت المعركة الثانية التي دارت في غرفة التحقيق وهو مُكبّل القدمين بالسلاسل، لا تقلّ عن معارك البارود في ساح القتال، وامتدت المعركة مع الفاشيين إلى مشهد شنق عمر المختار، حيث صعد إلى الحبل برجولة وثبات.

اكتملت حلقات الأسطورة الفريدة التي صوّرها أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدة طويلة رائعة، ضمَّنها مسيرة البطل إنساناً ومعلماً ومجاهداً ومثلاً وطنياً وعالمياً. ومما قاله شوقي في قصيدته الشهيرة:

نصبوا رفاتَك في الرمالِ لواء

يستنهضُ الوادي صباحَ مساءَ

يا ويحهم نصبُوا مناراً من دمٍ

يوحي إلى جيلِ الغدِ البغضاءَ

ما ضرَّ لو جعلوا العلاقة في غدٍ

بين الشعوب مودة وإخاءَ

ثم يصف حال المختار وتواضعه وبساطته في عيشه قائلاً:

خُيِّرتَ فَاختَرتَ المَبيتَ عَلى الطوى

لَم تَبنِ جاهاً أَو تَلُمَّ ثَراءَ

إِنَّ البُطولَة أَن تَموتَ مِن الظَما

لَيسَ البُطولَة أَن تَعُبَّ الماءَ

لَم تُبقِ مِنه رَحى الوَقائِعِ أَعظُماً

تَبلى وَلَم تُبقِ الرِماحُ دِماءَ

بَطَلُ البَداوَة لَم يَكُن يَغزو عَلى

تَنَكٍ وَلَم يَكُ يَركَبُ الأَجواءَ

لَكِن أَخو خَيلٍ حَمى صَهَواتِها

وَأَدارَ مِن أَعرافِها الهَيجاءَ

وافاهُ مَرفوعَ الجبينِ كَأَنَّهُ

سُقراطُ جَرَّ إِلى القُضاة رِداءَ

طارت هذه القصيدة على بساط ريح الإكبار إلى كل أصقاع البلاد العربية، وأدخلت في مناهج التعليم في بعض الأقطار.

لقد كتب الأدباء وأبدع الشعراء العرب وغيرهم عن عمر المختار، وقدّموا أبعاداً ملحمية لهذه الشخصية الأسطورية وهو ما لم يُكتب عن الجنرال الفيتنامي جياب، ولا عن الثائر البوليفي تشي جيفارا وغيرهما من القيادات النضالية والثورية.

ومما يجدر ذكره هنا أنَّ الممثل العالمي أنتوني كوين الذي جسَّد شخصية عمر المختار في فيلم أسد الصحراء، اعترف بتأثير عمر المختار عليه، حتى إنه لم يستطع الانفكاك من تلك الروح التي تملَّكته ورافقته فيما تبقى من حياته.

يوم السادس عشر من سبتمبر هو يوم عمر المختار الإنساني العابر للدنيا والزمان.

***

عبدالرحمن شلقم ـ ممثل ليبيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبق

_________

الشرق الأوسط

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *