تلخيص المحرر
مقولة شهيرة منسوبة لفلاديمير لينين قائد الثورة البلشفية تقول: “ما من ثورة عظيمة حدثت في التاريخ، بدون حرب أهلية“. والمعرُوف أيضا عن الحروب الأهلية أنَّ ضحاياها يكونون أكبر بكثير من ضحايا الحروب العادية. فمثلًا الحرب الأهلية الرُّوسية كلَّفت روسيا ما يقرب من 13 مليون روسي راحوا ضحيَّتها. والعالم العربي ليسَ ببعيد عن الحروب الأهلية، ففي القرن الماضي قامت حربان أهليتان في السُّودان ولبنان.
الحرب الأهلية مصطلح فضفاض وواسع، وفي الغالب لا يخاف الناس من هذا المصطلح بشكلٍ مفزع. وهناك تعريفات أكاديمية كثيرة للحرب الأهلية، ومنها أنها “الصراع المسلح بين فريقين من بلدٍ واحد وتتعدد الأسباب الظَّاهرة لهذا الصراع المسلح وفي الغالب ما تكون أسباب سياسية”.
بعض التعريفات الأكاديمية تشير إلى أنَّ رقم 1000 قتيل هو رقم كافٍ لاعتبار ما يحدث من نزاع مسلح بأنه حربًا أهلية، ولذلك فإن ما قام به حفتر في ليبيا من عدوان على بنغازي ودرنة وطرابلس وغيرها من المدن ومن عمليات عسكرية وتفجيرات واغتيالات في الجنوب والشرق والغرب، بما فيها عمليات القصف العشوائي للمواقع المدنية واستعمال أسلحة محرمة دوليا، كل ذلك جعله صانع أول حرب أهلية ليبية بامتياز .
في هذا التقرير نلخّص توجيهات “دليل الحروب الأهلية” التي درسها حفتر ونفذها حرفيا، وهي:
أولا: ابدأ الحرب ولا تتردد، فالشّعب لن ينتبه أنها ستكون حربا أهلية مكلفة إلا بعد فترة طويلة، وبشكلٍ عام تقوم الحرب الأهلية عادة دون أن يشعر بها الشَّعب في البداية
حقا بأن الشعب لا يلاحظ أن هناك حربا أهلية قد بدأت خاصة بالنسبة للذين لا يقيمون بالقرب من مناطق الصراع، وفعلا لم ينتبه كثير من الناس في المنطقة الغربية والجنوبية لما كان يحدث في بنغازي ودرنة ومدن أخرى في برقة، من قصف بالطيران وتهديم للبيوت وقتل على الهوية، وذلك لأن الظاهر أمامهم أنَّ هناك صراعًا ما قد حدث بين الجيش والثوار، وأنها مشكلةً سيجري حلُّها.
المعضلة أنَّ بداية الحرب عادة ما يجري التعامل معها شعبيا بالتجاهل، لأنها تبدأ دون أن يشعر بها أحد، وكثيرا ما تكون أمرًا غير متوقع وليس مخطط له من الطرف المعتدَى عليه. فصناع الحرب الأهلية يركزون على بداية الحرب وما أن تطلق القذيفة الأولى تبدأ في التمدد والتوحش ويسيطر الشعور بالعجز حيالها بعد ارتفاع أعداد الضحايا.
ثانيا: حَدّد طرفا واحدا واجعل منه عدوا أساسيا، فالحرب ينبغي أن تكون بين طرفين اثنين فقط، فقم بتحييد بقية الأطراف الأخرى مؤقتا وبقدر الإمكان.
الناس يصدقون ما يقوله له إعلام الطرف القوي في الحرب الأهلية. وما دام هناك طرفان في «الحرب الأهلية» فعليك أن تجعل لعدوك عدوّ آخر يحاربه، بحيث تحصر الحرب بين طرفين. ورغم أن قادة الحروب الأهلية لا يعتقدون أنَّ هناك أطرافًا أخرى أقلّ عداوة لهم من الذين يحاربونهم، فحفتر جعل من ثوار بنغازي ودرنة عدوا أساسيا في المنطقة الشرقية، وقام بتحييد عدوا حقيقيا مثل “داعش” وهو أكبر عدو لليبيا ولثورة فبراير، بل قام بحماية انسحاب فلول داعش من برقة إلى مدينة سرت، وكانوا هاربين من المنطقة بعد هزيمتهم وهم في حالة تقهقهر تام.
ثالثا: إصنع من عدوك هدفا سهلا لمحاربته وعليك بشعار محاربة الارهاب وتحدث دائما عن وحشية العدو وممارساته الإرهابية.
كان بإمكان حفتر أن يقضي على فلول داعش وهي في حالة تقهقر، ولكنه أراد غير ذلك حتي يستمر في توظيف فزاعة الإرهاب والتطرف لكي يقضي على ثوار المنطقة بذريعة محاربة الإرهاب، وهكذا أصبح حفتر يحارب الإرهاب، وفي المقابل أصبح هو من يسعى لتحقيق الأمن والاستقرار. المواطن البسيط يحبّ (ويحتاج) أن يشعر بالأمان أكثر من الحاجة للشعور بالحرية. إن شيطنة الطرف الآخر في الصراع واتهامه بالإرهاب و التطرف والدموية والوحشية تجعل الجماهير تصفق لك بلا شكّ لأنك تحارب «الإرهاب» وتريد أن تحقق لهم الأمان.
رابعا: مهما كانت الضغوط عليك، لا تفاوض ولا تسعى لوقف الحرب ولا تعقد أي صلح
قادة الحروب الأهلية عادة لا يُصغُونَ لمحاولات الصُّلح بينهم وبين عدوهم الأساسي. وهذا ما فعله حفتر في بداية التفاوض من شباب الثورة في بنغازي، وكان يعلم تماما بأن الحروب الأهلية دومًا حُرُوب «متعصِّبة» جدًّا. لن يستطيع أن يكسبها ألا أذا نظر فيها من زاوية العدوّ الذي صنعه لكي يُرضي الأطراف الإقليمية التي كانت تدعمه والتي كانت تبحث عن وقود لإشعال حرب أهلية لا تبقي ولا تذر.
بالنسبة لداعمي حفتر من الدول الإقليمية والأجنبية كان من الضروري أن يوفروا أكثر مما يحتاجه من أسلحة ودخائر وتقنية بالإضافة للضباط والعناصرالقبلية من أنصار النظام السابق ليكون هو الطرف الأقوى وبالتالي تكون الأمور أسهل على القادة والمجرمين والمرتزقة الذين جلبوهم ليكونوا أداة القتل والرعب للثوار والمدنيين. ذلك ما قام به حفتر في حروبه ضد أحرار الشعب الليبي بدءً من المنطقة الشرقية ثم الجنوبية وانتهاءً بعدوانه السافر على العاصمة ولكن حساباته كانت خاطئة وقد تلقى هزيمة مدوية لم يحسب لها حساب.
خامسا: لا تجعل من صراعك مع العدو بأنه خلاف سياسي فحسب، بل عليك أن تصبغه بصبغة دينية أو قبلية أو جهوية.
جميع الحروب الأهلية تقريبًا كانت لها أسباب سياسية واقتصادية حقيقية، لكنَّها تغطت بشعارات قبلية وجهوية وطائفية وأحيانا عرقية. الأمثلة على هذه القاعدة عديدة، في السودان اكتست الحرب الأهلية بصبغة طائفية ودينية معًا. فالمسلمون في الشَّمال والمسيحيون في الجنوب. أما في ليبيا فقد ظهرت شعارات الغرب الذي همَّش الشرق والجنوب من حيث توزيع السلطات ومن حيث توزيع الثروة والخدمات الصحية والتعليمية وغيرها من الأمور التي تضطلع بها الدولة. ولكن الأسباب الحقيقية كانت من البداية سياسية (حفتر وراء السيطرة على موقع السلطة السيادية المطلقة) واقتصادية (حفتر هدفه السيطرة على المصرف المركزي وثروة النفط والغاز) .
سادسا: أظهر دائما بمظهر الرجل القوي الذي يدافع عن قضية محورية، وركز على الظهور كقائد بطل ولا تُظهر أي تردد في مواقفك، ولا تهتم بإطلاع الشعب على التفاصيل
في مراحل الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، تحتاج الحرب الأهلية التي تريد قطع الطريق أمام هذا التحول أن يكون لها قائدا يدافع عن قضية محورية مثل “كرامة القوات المسلحة” لكي تجتمع حوله الجموع ليقود الحرب الأهلية! ولكن لابد من وجود الآلة الإعلامية لكي تلصق تلك الصِّفات على هذا القائد القوي والشجاع والبطل حتَّى لو لم تكن هذه الصفات فيه (وذلك ما كان من تبني وصف الرجل القوى في وسائل الإعلام العربي والغربية). وعلى ذلك القائد أن يتظاهر بكل تلك الأوصاف من خلال صورته وحركاته وتصريحاته ومظهره، فالجماهير ستصدِّق الوهم لأنها تريد أن تُصدِّقه.
سابعا: لا تترد في الحصول على الدعم الخارجي فليس هناك مشكلة لدى الناس بتلقي ذلك الدعم
ليست هناك حروب أهلية تقريبًا دون تدخُّل خارجي. ما يحدث في أي دولة يظل دومًا محلّ نظر من الدول المجاورة، إضافةً إلى الدول الأخرى والتي لها مصالح في هذه الدولة أو تلك. الحروب الأهلية حدثت في دول كبيرة وصغيرة، بالإضافة لروسيا فقد حدثت حروب أهلية في أمريكا وفرنسا وإسبانيا وفي أغلب دول أمريكا اللاتينية، وحتى التي يُشار إليها باعتبارها دولًا «متقدِّمة». وفي كل حرب منها كان هناك دعما من الخارج لكل أطراف الصراع. أما بالنسبة لحفتر فقد لعب ورقة محاربة الإرهاب مع الدول الغربية ومحاربة التيار الإسلامي وتحديدا الإخوان مع مصر والإمارات والسعودية.
ثامنا: لا تفكر كثيرا في مآلات الحرب ونهاياتها، فالناس سيكمّلون الحرب التي بدأتها أنت
يمكنك وأنتَ القائد أن تتحكَّم في تحركاتك وردود أفعالك، ومن موضع القيادة يمكنك رؤية الأمور بشكلٍ أوضح، الأكاذيب عليك أن تخترعها، لأن الجمهور يُصدِّق الأكاذيب. في النهاية إذا بدأتَ الحرب الأهلية سيكون الجمهور مشحونًا بأكاذيبك التي اختلقتها وجعلتهم يصدِّقونها على أنها حقائق. بالتالي ربما لا تنتهي الحروب الأهلية إلا ببضعة أكاذيب أخرى يصدقها الجمهور على أنها حقائق جديدة.
____________
ساسة بوست