ألى البطل الشهيد أحمد في ذكراه
بقلم الشهيد عزات المقريف (أبي يوسف)
أكاد أسمعك تردد في الجنة: “.. يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين.” صدق الله العظيم
حقا لا أعرف كيف أكتب عنك، ولا من أين أبدأ بالكاتبة عنك، كيف أكتب عنك، ولا من أين أبدأ بالكتابة عنك، فالبيان يعجز عن أن يفيك حقك، وتموت الكلمات خجلا وتتوارى أمام من قدّم روحه رخيصة في سبيل الله.
أنّى للكلمات أو المقالات أو الكتب والمجلدات أن تفيك حقك وأنت الذي نذرت نفسك في سبيل الله وكأننا بخالد وابن العاص والأيوبي والمختار وغيرهم من أفذاذ التاريخ يتكررون. فلم تستطع رصاصات الطغاة سوى أن تمنحك الشهادة التي كنت تتمنى، والتي صرت بها رمزا لشعبنا بأجمعه في الداخل والخارج، وتجاوزت بها الزمان والمكان.
فهل نحن في موقف عزاء ورثاء أم في موقف اعتزاز وافتخار بك وبرفاقك. إنني أشعر بالصغار وأنا أحاول محاولة الكثيرين في الإطلال من فرق بروجنا العاجية ومقصورات المتفرجين مثمنين ومكبرين ومادحلين عملكم الجبار الخارق، ومقيّمين له بمنتهى السطحية والنوايا الطيبة، ودمكم لم يجف بعد وقد تركنا عهدنا لكم، ولم نثأر بعد وتركنا بناقدنا للصدأ، وغمدنا سيوفنا في التراب.
إنني أشعر بالمهانة والعار أن يكون رثاؤك يا أحمد بالكلمات والبكاء والعويل ولطم الخدود وشق الجيوب لا بالسرايا والخيول والرصاص.
أستاذي الشهيد
لا يزال بعضنا يجيد الكلام كما تركته، حتى وأنت تضرب لنا أعظم الأمثال في التضحية والفداء والتجرّد، وتجود بروحك في سبيل الله. صدقني إنني الآن أعجز عن أن أقول كلمة رثاء فيك وفي رفاقك الأبطال، أجل إن الروح في عزاء ولكنه غير ذلك العزاء المعروف بلغة البشر، إنه العزاء الذي يقذفه الله في النفس، عزاء الطمأنينة والسلوان بأن منحكم الله الجنة والفردوس المقيم مع الأنبياء والصديقين.
إذًا كيف لي أن أرثي من يعيش في الضمير والوجدان، ويحيا في الشعور والذاكرة، ويحلّق في السموات العلا صدى صوتك الواثق الواعد يتردد لاعناً طواغيت ليبيا، ومبشرا بفجر الإنقاذ والتمكين، ومداد بنانك يملأ الكتب والمقالات، ويحفز النفوس للجهاد، ومكان صلاتك، لا يزال دافئا وسبحتك في مكانها ومصحفك لا يزال مفتوحا.
فعندما تدلهم الدنيا من حولي تهب صورتك على الخاطر لترطب من لهجة ورمضاء الفجيعة ولوعة المصاب. فكيف نرثيك وأنت الحي بيننا، ولعلي لا أبالغ إذا قلت إنني كثيرا ما أخطئ وأخاطب من يجاسني بأحمد، أو أطلق لنفسي الحديث مع الأصدقاء، فأذكر لهم: لقد كان أحمد .. وقال أحمد ذات مرة .. وحدث أن كان معنا أحمد .. حتى أنني كدت أخطئ مرة وأسأل الحاجّة هل اتصل بكم أحمد؟
فكيف لي أن أبدأ في الحديث عنك، وقد اختلطت البداية بالنهاية .. مواقف رائعة .. قدوة في الحياة والإستشهاد من البداية للنهاية .. من أين أبدأ يا أحمد الإسم والفعل.
من كفاحك الدائم الدؤوب .. منه شجاعتك وصبرك .. من عزيمتك وإرادتك الصلبة .. ومن رجولتك ومرؤتك من محبتك وعطفك ومودتك لك من عرفت.. من عزيمتك التي لا تلين .. من إيمانك وتقواك وورعك .. من أخلاصك ومن وطنيتك .. من إسلامك عروبتك .. من وفائك وأخلاقك ومبادئك .. يارجل الأخلاق والوفاء المبدأ .. من أين أبدأ وأنت كل هذه الخصال الحميدة الطيبة التي تنذر أن تجتمع في رجل واحد، ولكنها اجتمعت فيك .. يا شهيدنا البطل أحمد ابراهيم احواس، الذي رافقتك من قبل إعلان الجبهة وحتى استشهادك
***
ثلاث سنوات وأنا أشتغل فيها معه ولم أسمعه يشكو من العمل أن لمله. ثلاث سنوات ولم أراه فيها يوماً أو ساعة يقوم بعمل خارج عمله أو يتناقش في أمر لا يخص القضية. كان يشتغل في بيته حتى ساعات الصباح الأولى وكان يقضي الليلتين والثلاث ليال بدون نوم اللهم بضع ساعات قليلة، وإن أغمض جفنية ففي أقل الأماكن راحة تاركا الأسرّة المريحة لزملائه.
***
كان أحمد بشوشا مرحا يندر أن تفارقه ابتسامته المميزة وضحكته الرنانة تغطي وجهه الساطع بالنور.
كنت أراه ضحوكا مازحا وهو يحمل على أكتافه قضية وطنه وهموم شعبه عابرا بأحزان ليبيا كل بوابات مرافئ العالم.. فما أشجعك يا أحمد مجاهدا .. وما أصدقك محدثا .. وما أشرفك مناضلا .. وما أوفاك صديقا .. وما أنبلك قائدا وقدوة .. وما أبرّك إبنا .. وما أخلصك زوجا .. وما أعطفك أبا ..
***
كان أحمد خلوقا حيياً وطيباً رضياً يندر أن يُغضب أحدا بل كان يتحمل في نفسه إساءات الخصوم وأخطاء الأصدقاء بابتسامة طيبة، وكان يعف عن الرد على الإساءات، فكان يدخل إحدى الحجرات ويقفلها عليه ويجهش في البكاء ثم يقرأ بعض آيات الذكر الحكيم، ويصلي ركعتين للّه، ويخرج بعدها مطمئنا واثقا .. هكذا كان يواجه الإساءات بابتسامة لا تفارق ثغره وهو في قمة التعب وفي أوج العطاء.
كان قليل الشكوى، لا تفارقه سبحته يردد بين الحين والآخر: “اللّهم إليك المشتكى وأنت المستعان” ويردد في أحيان أخرى: “الّله ربّي ولا أشرك به أحدا“.
لقد كان أحمد معطاءً لا يكف عن العمل، مساهما بقلمه ولسانه، فكتب المقالة، وأعد البرامج، ونظم الشِّعر، وأجرى المقابلات الصحفية، وقاد المظاهرات، ووزع الأشرطة والمنشورات، وقدّم المحاضرا، وقاد جنوده إلى ساحات الوغى.
كان لايستكف عن الذهاب إلى البلدان التي يتردد عليها الليبيون حيث كان يقابلهم بدون إعداد مسبق أو اتخاذ أي إحتياطات أمنية تحسبا لأي إجراء. قد يقدم عليه زبانية المجرم القذافي، وعند نصيحته بأخذ الإحتياطات اللازمة لمثل هذه اللقاءات المفتوحة كان يردد شعاره الخالد “الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فأخشوهم فزادهم إيمانا، وقالوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من اللّه وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان اللّه واللّه ذو فضل عظيم“.
كان لا ينام الليل قبل أن يطمئن على سير العمل، وعلى حل جميع مشاكل زملائه في العمل. في إحدى رحلاتنا الخارجية أخذ يقلّب مفكرته وأخبرني أنه في خلال أربعة عشر شهرا متواصلا من العمل قضى حوالي ما مجموعه إثنان وعشرون يوما مع أسرته، ولقد رأيته بأم عيني كيف كان يقضي إجازته مع أسرته بين استقبال الضيوف، ومطالعة الأوراق والملفات، ومتابعة الإتصالات بالهاتف.
***
لقد كان شهيدنا شجاعا لدرجة المغامرة، وكان حريصا على الوقت بشكل غير عادي إذ أنه كان يستغل وقت بقائه في حالة (الترانزيت) في إحدى المطارات في عمل المكالمات الهاتفية الهامة، وإرسال البريد، ومقابلة بعض الرفاق في صالات المطارات، وكان كل وقته عمل حتى أنه في حوالي (36) ساعة اتصل بي من اربع عواصم أوروبية عدا العاصمة التي غادرها، ومن حرصه على أموال الجبهة كان الشهيد يسافر بالتذاكر الزائدة والمخفضة التي لم يستطع أصحابها الأصليون السفر بها، فكان يتجشم الصعاب والمخاطر الأمنية ليسافر بمثل هذه التذاكر قائلا: “أحسن من رميها في سلة المهملات وضياع ثمنها على الجبهة“.
ولا يرتاح الشهيد إلاّ في المطارات وسيارات الاصدقاء إذ كان مع كثرة التعب والإرهاق يستسلم للنوم بأسرع ما يمكن، وسرعان ما ينال قليلا من الراحة ليستأنف عمله في الطائرة أو القطار أو السيارة قراءةً أو كتابةً.
ومن أبرز ما كان يميز الشهيد أنه كان سرعان ما يألف الناس ويؤلف بينهم، وتلك النكتة السريعة والظرف المستلطف الذي أضفى على شخصيته الجادة الوقورة قدرا من الحيوية والإستلطاف بين أقرانه وأصدقائه حتى لتجد نفسك، وقد أحببته من أول لقاء به. فلم يكن شهيدنا متزمتا بل كان منفتحاً مرناً يتفهم الآخرين بما حباه اللّه من فراسة وكيان ومرونة وفطانة في معرفة الناس وفهم طباعهم وأسباب مشاكلهم.
فكان ثاقب النظر، وحاد البصيرة، كانت نظرته للأمور ذات صبغة مستقبلية شاملة، حيث كان يرى أشياء لا نراها نحن، ويحس أشياء لا نحس بها أو نعرفها، ويتوقع أشياء لم تخطر على بالنا على الإطلاق.
كان شهيدنا تقياً ورعاً شديد الإيمان باللّه كثير التقرب إليه وشديد التمسك بسُنّة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبسيرته العطرة.
كان يندر أن يؤخر أحمد صلاته، أو أن تراه بدون مصحفه، كان قواماً للّيل .. صواما بالنهار، ونادرا ألا يقوم لصلاة الفجر، كان من المؤمنين الذي قال فيهم اللّة “إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا، وعلى ربهم يتوكلون“.
كان الشهيد دائم الدعاء بطلب الشهادة، وكان يعلمنا أصول تجويد القرآن، ويدعونا أن نكثر من الدعاء في صلاتنا لمجاهدينا قبل دحوله والتحاقه بهم، وأن نطلب لهم النصر أو الشهادة.
ملمح آخر رائع من ملامح شخصية الشهيد أنه كان مربيا فاضلا، دائم المشاركة لأعضاء الجبهة في أعمالهم وإشعارهم بأنه جزء لا يتجزء منهم، وأنهم هم القدرات الفاعلة والخلاقة التي سيكون على يديها النصر والتمكين لدين الله، إن شاء الله، فترى شهيدنا مشاركاً وإيانا النشاطات الثقافية والرياضية والإجتماعية .. يشارك بمحاضراته التعبوية الروحية الجهادية والجبهوية والوطنية، وفي حلقات السمر والندوات الثقافية والفكرية,
هكذا كان شهيدنا رحمه الله وألحقنا به شهداء مثله، شخصية رائدة جديرة بالإحترام والتقدير والتبجيل. فما أحرانا نحن رفقاءه وتلاميذه وأبناءه وإخوانه من أن نقتدي به، وبسيرته العطرة، وأن نسير على نهجه. فسلام عليك يا شهيدنا يوم ولدت ويوم تموت ويوم تبعث حياً، إن العزاء في أحمد هو ما قاله الشاعر “الكزة” في عمر المختار.
نلقنها العزاء فيه ركاب سمح النبات
ما هو بكا بنات
ولا هو حجايج في ورق بايزات
لكن طوابير متنظمات
إيديرن نهار
عمره ما طري في حرب صار
____________
مجلة الإنقاذ (ملحق ذكرى معركة باب العزيزية) العدد (14ـ15)، 1985