د. ليلى حمدان
الحديث اليوم عن الاستراتيجية والتخطيط الاستراتيجي يفرض نفسه فرضًا، بعد مسلسل الفشل والتخبط والعبث وتكرار الخطأ الذي عانت منه الأمة المسلمة ولا تزال، وبالنظر لشدة النوازل التي تمر بها ثم تعقيدات الساحات وتشابكها وتداعيات الأخطاء المتراكمة والخسائر التي تسبب فيها العمل العشوائي غير المدروس واتباع الهوى والإصرار على تحييد منهج الإسلام القويم أو تحريفه.
وكلما تأملنا درجة التعقيد التي تتسم بها ساحات الصراع أدركنا أهمية الاستراتيجية لتحقيق أهداف هذه الأمة في النهوض والتحرر والازدهار. بدل هدر الطاقات في العمل بسذاجة وتبعية نكدة لن تخرجنا أبدًا من النفق المظلم بل تدخلنا المتاهات.
وقد يعتقد البعض أن الحديث عن التخطيط الاستراتيجي وليد الفكرة الغربية وهذا خطأ، بل كان ولا يزال من أبرز أسباب نجاحات المسلمين وإنجازاتهم التاريخية وأهم معالم حضارتهم الماجدة.
نتعلمه أولا من وحي السماء، من القرآن، قال الله تعالى في سورة الأنفال (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم) ونتعلمه أيضا من سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، منذ بداية بعثته إلى أن لقي ربه سبحانه، كيف كان يخطط بعبقرية فذة لإقامة أعظم دولة في التاريخ.
وتلك هجرة النبي صلى الله عليه وسلم تقدم لنا المثال العملي الجليّ لروعة التخطيط الاستراتيجي الذي كان المرحلة الأولى في إنشاء الدولة الإسلامية. لقد خطط النبي صلى الله عليه وسلم ببصيرة جليلة معتنيًا بكل تفصيل لإنجاح هجرته وكذلك كان يخطط في كل غزواته كما تجلت عظمته في فتح مكة.
تعريف الاستراتيجية
تتفق أغلب المراجع على أن أصل مصطلح “الاستراتيجية” يعود للكلمة الإغريقية “ستراتو” Strato وتعني الجيش أو الحشود العسكرية، وباليونانية القديمة تسمى فن إدارة وقيادة الحروب “ستراتيجُس” Strategos. مع العلم أن الاستراتيجية مصطلح عسكري يعني فن الحرب أو الخطة الحربية، أو فن التخطيط للعمليات العسكرية قبل وبعد الحرب، أو براعة التخطيط، وهو في الواقع مفهوم عُرف قديمًا قبل ظهور مصطلح “الاستراتيجية” بحد ذاته.
ومع أن مصطلح الاستراتيجية كان مقتصرًا على الميدان العسكري إلا أنه مع مرور الوقت استعمل في العديد من الميادين والمجالات غير العسكرية.
ذلك أن مقياس النجاح غالبًا ما يتعلق بقوة الاستراتيجية في جميع المشاريع بغض النظر عن مجال اختصاصها.
وبحسب درجة إحكام هذه الاستراتيجية ومناسبتها وتكاملها، تتفاوت القوى والمشاريع في إحراز الانتصارات والنجاحات إلا أنها تتعلق أيضا بعامل لا يدركه الكثير من الغربيين، ألا وهو طبيعة الدعوات التي تحملها الاستراتيجيات، بين حق وباطل، فكلما كانت دعواتها للحق أقرب كانت بالنصر أجدر، وتلك جزئية من سنة التدافع لا يعقلها الكافرون كما لا يعقلون جميع سنن الله في هذه الأرض. وليس معنى ذلك أن الإيمان يعني الكسل والركون وانتظار النصر حتى يتنزل، إنما يعني وجوب العمل والإعداد والصبر والمصابرة والمثابرة والإصلاح والاستدراك والتخطيط الفذّ والإحاطة الشاملة، وذلك مفهوم الاستراتيجية.
ولاشك أن أي استراتيجية لابد أن تُبنى في ضوء الإمكانيات المتاحة والتي يمكن الحصول عليها كما يجب أن تحسب حساب المفاجآت والأحداث غير المتوقعة والأهم في ذلك بالنسبة للمسلمين ألا تخالف هدي الشريعة الغراء ولا تتعارض مع مقاصدها العظيمة.
ولأن الصراعات حديث الساعة والشاغل الذي استحوذ على اهتمام الأمم والبلدان، بقيت الاستراتيجية ميدان تفانٍ ومسابقة وتطوير ونقد. وكتب في ذلك الصينيون والرومان والعرب والأوروبيون بشكل مبكر، فيما يسمى الفن العسكري أو الفن الحربي.
واختلفت المدارس في تقسيم الاستراتيجية وتحديد أركانها، لكنها اتفقت على أهميتها وفعاليتها. وبالنظر للتطور الهائل في مجال الصناعات الحربية والعسكرية الذي يشهده العصر الحديث كان لزامًا أن تواكب هذا التطور استراتيجيات أكثر إلمامًا بتفاصيل كل صراع وساحة ولاعبين. ولأنها ساحات متشعبة متصلة معقدة أضحت الاستراتيجيات العسكرية متصلة اتصالًا مباشرًا بالميدان السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإعلامي وغيره، كما أن لكل ميدان من هذه الميادين استراتيجيته الخاصة به. مما يجعل الخروج بأفضل الاستراتيجيات بطولة!
وحين نتحدث عن الاستراتيجية فهذا يعني أن كل طرف في الصراع يسعى بشكل خاص لإتقان فن توزيع واستخدام الإمكانات والوسائل المختلفة لتحقيق الأهداف بالطريقة الأنسب التي تنسجم فيها الإمكانات مع الأهداف وإلى إتقان فن المناورة بغض النظر عن عامل الوقت كم سيطول. وبحسب درجة هذا الإتقان تتمايز الاستراتيجيات في الصراعات.
“و الاستراتيجية الناجحة هي التي توفق إلى اختيار الوسيلة أو الوسائل الأجدى بين كافة الوسائل المتاحة للوصول إلى هدفها”. وهي “التي تنجح في تحقيق وتأمين التوافق والتلاؤم بين الوسيلة والهدف”.
ثم قد يقع الخلط بين مفهوم السياسة والاستراتيجية، وما يعنينا في هذا الطرح هو السياسة والاستراتيجية في إطارها الإسلامي الخالص.فالسياسة في الإسلام سياسة شرعية والاستراتيجية لا يجب أن تخالف شريعة الله في منطلقاتها و وسائلها ومقاصدها.
والاستراتيجية هي في الواقع أداة السياسة التنفيذية. وقد أكدت التجارب التاريخية والمعاصرة أن الاستراتيجية العسكرية هي الأكثر قوة وحسمًا وهي التي في الأخير تغير المعادلات كلها. ولا يعني هذا أنه لا توجد ميادين أخرى مؤثرة لكنها تبقى أقل تأثيرًا من القوة العسكرية ولذلك تضع الدول الكبرى كل ثقلها في هذا الميدان وتجعله الحل الحاسم والمؤثر في أزمات بقية الميادين. ولطالما كانت العناية بالاستراتيجية العسكرية تحظى بالأهمية القصوى في صراعات القوى الكبرى، وكذلك كان حال الأمة المسلمة عندما كانت تحظى بدولتها المستقلة.
وكل استراتيجية لديها أهدافها العليا بعيدة المدى وهي الأهداف الاستراتيجية، وأهدافها المتوسطة ثم الأهداف الفرعية والأهداف الصغرى أي المباشرة. وجميع الأهداف يجب أن تعمل لأجل الأهداف الاستراتيجية لا تحبطها. وقد تكون الاستراتيجية شاملة ومحدودة أو مرحلية وقد تكون مباشرة أو غير مباشرة لضرورة عملية أو ظروف وحيثيات استثنائية.
ويجب أن تتماشى الاستراتيجية ونمط الصراع وتحدد متى يكون هجوميًا مباشرًا أم غير مباشر أو دفاعيًا مع ضرورة أن تتحلى بالمرونة.
بين الإسلام والغرب
ومن المعلوم أن الغرب يوظف استراتيجياته المدروسة بعناية كبيرة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو عسكرية بهدف بسط وإحكام هيمنته في العالم وبشكل أخص العالم الإسلامي لما يحمله المسلمون من مقومات نهوض وريادة. ويصعب في هذا المقام تلخيص المكر الغربي عند صياغة استراتيجياته لكنه معلوم أنه لا يستهين بأدنى تفصيل.
وما يعمل عليه الغرب بدقة هو قيادة استراتيجياته في مختلف الميادين بشكل متكامل، بحيث تؤدي باجتماعها معا وتظافر أدائها ونتائجها إلى تحقيق أهداف الغرب من الهيمنة بشكل أمثل. وقد يراوح بين الاستراتيجيات حين تقتضيه المصلحة، وتبقى استراتيجيته في الغزو الفكري وتغريب مجتمعات المسلمين هي الأخطر نظرًا لكونها تستهدف مكامن القوة في هذه الأمة في مهدها، وتستهدف أصول الإسلام لتغيّرها وفق ما يناسب مصالح الغرب فتعطّل بذلك أهم قاعدة لانبعاث هذه الأمة من جديد، “الإسلام”. وتمضي هذه الاستراتيجية بالتوازي مع الاستراتيجية العسكرية والاقتصادية والسياسة في إخضاع العالم الإسلامي وترويضه.
فلا غرابة أن سخّر الغرب جميع مراكزه البحثية ودراساته لرصد حركات العالم الإسلامي بكافة مكوناته الصغيرة والكبيرة المؤثرة وغير المؤثرة ثم بناء على هذه المعطيات التي قد تتغير، يتابع الرصد الغربي منحنيات التغيير عن كثب ليخرج بالاستراتيجيات المناسبة للمرحلة ولكل مرحلة.
ولاشك أن الاستراتيجية الغربية تمضي بالتزامن مع جميع الاستراتيجيات الأخرى المنافسة في العالم، وهذه الحقيقة تستوجب استراتيجيات مضادة للمسلمين عالية التخطيط لمواجهة ما يتربص بالأمة من أخطار متعددة.
والمتأمل في الاستراتيجيات الأمريكية والروسية والصينية وغيرها يرى أن جميعها يشترك في مبدأ ضرورة اختيار النقطة الحاسمة الواجب الوصول إليها والتي تؤدي إلى زعزعة الخصم وانهياره واختيار المناورة التحضيرية الصالحة للوصول إلى تلك النقطة. وكذلك يجب أن يحيط التخطيط الاستراتيجي الإسلامي بهذه الجزئية للاستفادة منها.
ومما يزيد من صعوبة وضع الخطط الاستراتيجية في العالم الإسلامي أن الغرب يمثله دول تتمتع غالبًا بصلاحيات وحدة الصف والهدف ونظام العمل والتحالفات الاستراتيجية، بينما يقابل هذا التنظيم في الجهة الأخرى الشعوب المسلمة التي تعاني الفرقة تحت الحكم الجبري وحكومات لا تمثلها ولا تُلبي حاجاتها وطموحاتها، مما أدى إلى نشوء جماعات إسلامية منفصلة مختلفة تسعى لاسترجاع مكانة الأمة بما تحمله من رصيد عقدي وطاقات. لذلك بدل أن تكون هناك دولة إسلامية موحدة تواجه الاستراتيجية الغربية المنظمة، لدينا شتات قوى إسلامية، كل قوة – بغض النظر عن طبيعتها الجهادية أو السياسية أو الدعوية– لديها استراتيجيتها الخاصة لتحقيق مشروع النهوض أو أنها للأسف لا تملك أدنى فكرة عن الاستراتيجية وتتحرك بطريقة اعتباطية.
وفي وقت يجب فيه أن تسعى كل استراتيجية لتنمية وحشد كافة الإمكانات والطاقات البشرية والاقتصادية والعسكرية والسياسية والإعلامية والفكرية بين سندان الهيمنة الغربية ومطرقة أغلال الحكم الجبري، فلنا أن نتأمل درجة التعقيد والصعوبة التي تعمل فيها الاستراتيجيات في العالم الإسلامي.
لذلك فإن صياغة الاستراتيجيات في العالم الإسلامي هي الأصعب على الإطلاق في هذا الزمان لأن معوقاتها وتحدياتها أكبر من مقوماتها وإمكانياتها. وهذا ما يفسر تباين الاستراتيجيات بين الجماعات الإسلامية بشكل لافت وتباين درجات استجابتها للنوازل. ولا شك أن خسائر وتداعيات أخطاء كل استراتيجية ستكون مؤثرة على الاستراتيجيات الأخرى. مما يزيد من تعقيد المشهد أكثر فأكثر.
__________