د. ليلى حمدان
إنّ بناء الاستراتيجيات في تاريخ المسلمين كان معلمًا يعكس درجة الإحاطة التي كان يلم بها قادتهم ودرجة الوعي واليقظة التي كانوا يتمتعون بها، فلا عجب أن سطروا الأمجاد.
ومما يجب الوقوف عليه عند الاستدلال بأمثلة من التاريخ، التخطيط في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من الناحية العسكرية والسياسية وهو الجانب المظلوم في سيرته صلى الله عليه وسلم حيث يتم تفاديه بشكل متعمد، والتركيز على أحاديث إماطة الأذى في وقت تعيش فيه الأمة في قلب الاستضعاف.
فقد اتسم هذا الجانب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بقوة التخطيط الاستراتيجي، عمل فيها النبي صلى الله عليه وسلم على مراحل بحسب ما كان يقتضيه الظرف والوقت والإمكانيات، وقد لخصها بعض الباحثين في أربع مراحلة، البداية بالحشد، ثم الدفاع عن الإسلام، ثم الهجوم، ثم التكامل. هذه المراحل متتالية أثمرت أول دولة إسلامية في التاريخ، بلغ مجدها الآفاق.
أما الحشد فكان منذ البعثة النبوية إلى تاريخ الهجرة إلى المدينة. القاعدة التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم لاستقراره وتشييد دولته.
وبعد الاستقرار بدأت مرحلة الدفاع عن الإسلام، وتجلت بإدارة النبي صلى الله عليه وسلم السرايا والغزوات فدافع خلالها المسلمون عن مدينتهم خير دفاع كما شاهدنا في غزوة الخندق.
وتحديدًا بعد غزوة الخندق إلى بعد غزوة حنين، أصبح المسلمون قوة ضاربة في شبه الجزيرة العربية، يحسب لها ألف حساب، فكانت مرحلة الهجوم وترسيخ سلطان الإسلام.
لنصل للمرحلة الرابعة وهي مرحلة التكامل، بعد غزوة حُنين إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حيث أضحت شبه الجزيرة العربية كلها تحت سلطان الإسلام، وبدأت مرحلة التطلع إلى خارجها، فكانت غزوة تبوك معلمًا في توسع الدولة الإسلامية إلى إمبراطورية عالمية في ظرف قياسي.
ثم لنقف قليلا مع هذا الانتقال من مرحلة القتال الداخلي القبائلي أو المحلي لتثبيت أركان الكيان الجديد، إلى القتال العالمي لما اقتضته ضرورة المرحلة لحفظ هذه الدولة والارتقاء بها.
فلم ينطلق في هذه المواجهة مجرد جيش للمسلمين بل انطلقت فيه كل الأمة المسلمة آنذاك، بتجهيز جيش العسرة، قال ابن هشام في سيرته: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جدَّ في سفره، وأمر الناس بالجهاز والانكماش، وحضّ أهل الغنى على النفقة والحُملان في سبيل الله، فحمل رجالٌ من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم يُنفق أحدٌ مثلها”.
وهنا نشاهد تجييش الأمة في الصراع وهو مفهوم أدركته الأمم اللاحقة. وإن هذا التخطيط من النبي صلى الله عليه وسلم كان نواة التوسع التي عرفتها الدولة الإسلامية لاحقًا.
ومن أمثلة التاريخ الكثيرة عند الحديث عن الاستراتيجية لدى المسلمين عبقرية عبد الرحمن الداخل الأموي، فمن يتأمل كيف سيطر هذا الرجل على الأندلس ليقيم دولة إسلامية فيها منطلقًا من لا شيء، يدرك أن تحقيق هذا الهدف الكبير لم يأت من عبث.
فاستراتيجية عبد الرحمن حققت ما لم يحققه أحد قبله في هذه الأرض، بتوحيد الصفوف وكفّ النزاعات، وكسب الشرعية، واختياره لقرطبة ثم استخدامها قاعدة للسيطرة على سرقسطة وبرشلونة، وهزيمته شارلمان إمبراطور الفرنك في معركتي سرقسطة وباب الشرزي، فكانت نتيجة هذا التخطيط الذكي، قيام دولة قوية أسسها عبد الرحمن الداخل في عام 138هـ (756م) ثم توارثها خلفاؤه إلى غاية عام 422هـ (1031م) قبل أن تتفكك في حقبة ملوك الطوائف.
ومن الأمثلة على براعة التخطيط الاستراتيجي، القائد ألب أرسلان السلجوقي فقد كانت الأناضول مع بداية حكم ألب أرسلان جزءًا من الإمبراطورية الرومانية الشرقية البيزنطية، فعمد ألب أرسلان لحرب العصابات بمفهومها الذي عرفه التاريخ، حتى تمكن من التوسع بشكل تدريجي من شمال العراق ووسط آسيا إلى قلب الأناضول، وتمكن من السيطرة على مساحات كبيرة في الأناضول.
وبعد انتصاره العظيم في معركة ملاذكرد الماجدة في عام 463هـ (1071م) تمكن السلاجقة في غضون سنتين من الوصول إلى قونية في قلب الأناضول، ثم السيطرة على الأناضول بالكامل بفتح نيقية عام 469هـ (1077م)؛ أي خلال أقل من عقد.
التخطيط الاستراتيجي الفذ نبصره أيضا مع القائد نور الدين زنكي الذي بدأ تخطيطه بمواجهة الحملات الصليبية ونجح في طرد الصليبيين من سوريا وفلسطين وركز جهوده على توحيد مدن الشام تحت إمرته، ثم اتجه إلى مصر ونجح بالفعل في ضمها إلى جبهته الموحدة، لتظهر عبقرية صلاح الدين الأيوبي بعد ذلك ويستفيد من هذه المكتسبات التي حققها نور الدين بحسن تخطيطه الاستراتيجي فانتقل صلاح الدين من قائد على رأس القوات الشامية في مصر، إلى وزير للخليفة العبيدي فقضى بحنكته على الملك العبيدي، خلال أعوام، وأعاد المذهب السني إلى مكانه، وبعد إسقاط الحكم العبيدي وتوحيد الجبهة الإسلامية هزم صلاح الدين الصليبيين واسترجع عكا والناصرة وحيفا ونابلس ودينين وبيسان ويافا وصيدا وبيروت والرملة وبيت لحم والخليل وعسقلان ثم القدس بعد معركة حطين الماجدة.
ومن المغرب الأقصى لابد أن نتحدث عن التخطيط الاستراتيجي للقائد الفذ يوسف بن تاشفين الذي بدأ بتأسيس مدينة مراكش ثم توسع تدريجيًا فسيطر على المغرب والجزائر بالكامل، ووجه جيوشه إلى الأندلس وأوقع الهزيمة بالملك ألفونصو القشتالي عام 479هـ (1086م)، ونجح في توسيع ملك دولته ليشمل معظم شبه الجزيرة الأيبيرية.
هذه أمثلة على سبيل المثال لا الحصر، للتخطيط الاستراتيجي الفذ الذي أقام دولًا وصنع بطولات وأمجادًا في تاريخ المسلمين يستحق الدراسة والفهم. وغيرها الكثير من النماذج لمن أراد الاستزادة من تاريخ هذه الأمة.
وفي الختام فإنه لا يكفي أن نحمل هم الإسلام ونصرته بشغف، بل لابد أن نحمل الفهم والعلم الذي يسمح لنا بنصرته كما يجب، بدراسة إمكانياتنا وحسن توظيفها، ودراسة أعدائنا وحسن تقييمهم، بتحديد الأهداف الأولى وتحييد ما يمكن تحييده، بصناعة الخطط الاستراتيجية الأنسب والأحكم، ومع درجة التعقيد والفتن التي نعايش في هذا الزمان علينا أن ننطلق من أسس ووسائل شرعية سليمة ومتينة، مستذكرين قول العلامة ابن القيم رحمه الله:”الدنيا مضمار سباق وقد انعقد الغبار وخفي السابق والناس في المضمار بين فارس وراجل وأصحاب حمر مُعقرة، سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار”.
فلا مجال للفشل ولا مجال للإحباط، بل لابد من تظافر الجهود والاستراتيجيات لتحقيق الهدف الاستراتيجي المشترك للعاملين، والحل لجميع مشاكل المسلمين في كل مكان، ألا وهو الخلافة الإسلامية الواعدة. ولابد من أخذ جميع الأسباب الممكنة لتحقيقه، وهذا من صميم مفهوم حسن التوكل على الله.
وإنه لمن تمام العقل والحكمة حسن الاستفادة من طاقات الأمة المخلصة في كل مكان لتوجيهها في استراتيجية النصر المبين. وهي عملية متكاملة من صناعة الوعي والدعوة والإصلاح والدراسة والعمل في كل ميادين العمل.
هذه كانت قراءة مختصرة لمفهوم عميق وتسليط للضوء على أحد أهم نقاط الضعف في الأمة الإسلامية. وإن كان لا يزال هناك الكثير لنتناوله في هذا الباب. نسأل الله أن ينفع به.
هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، أعاذنا الله وإياكم منه.
_________