د. محمد عاشور مهدي

حينما هبت رياح التغيير والثورة على كل من تونس ومصر، أكد المراقبون والمحللون السياسيون أن ثروات ليبيا كفيلة بألا تجعل الشعب الليبي يثور، غير أن الليبيين أنفسهم كان لهم رأي آخر!.

الجزء الثاني

وعلى الصعيد الداخلي، يمكن القول أن القذافياستطاع طويلا الحفاظ على سلطته ونظامه، عبر سياسة فرق تسد، والتبشير بمجموعة الأفكار شديدة العمومية التي ضمنها كتابه الكتاب الأخضر، وما عرف بالنظرية العالمية الثالثة، والتي استمدها من الإيديولوجيات المختلفة (عروبية، إسلامية، اشتراكية..), ومن القيم الأساسية للثقافة الليبية، من مثالها شركاء لا أجراء، البيت لساكنه،الأرض ليست ملكاً لأحد“.

والتي استطاع تأطيرها في مجموعة من المؤسسات ممثلة في المؤتمرات واللجان الشعبية، أضفت قدرا من الشرعية المؤسسية  وقدرة على الضبط والسيطرة، علاوة على استخدام النظام قدراته الاقتصادية التي توفرت له من عوائد النفط في نشر أفكاره وإيديولوجيته إلى مدى أبعد بكثير من قيمتها ومضمونها.

وممارسة القمع الشديد ضد كافة صور ورموز المعارضة داخل وخارج البلاد، والذي بلغ قمته في التسعينيات من القرن العشرين، مستغلا في ذلك، الحظر المفروض على التعامل مع النظام الليبي والذي حال دون تكشف تلك الممارسات.

ورغم كافة الشعارات الخاصة بحكم الجماهير والشعب، ورغم التنظيمات والهياكل الشعبية الهادفة إلى ترجمة فلسفة الكتاب الأخضر بشأن حكم الشعب نفسه بنفسه، والمتمثلة في المؤتمرات الشعبية بمستوياتها المختلفة وفي قمتها مؤتمر الشعب العام، والتي هي بمثابة السلطة التشريعية، واللجان الشعبية (السلطة التنفيذية).

فإن الواقع العملي يشير إلى أن السلطة تركزت بيد اللجان الثورية، والتي تتكون من مجموعة من الشباب المتحمسين الذين أعلنوا التزامهم وإيمانهم بأفكار العقيد القذافي وأطروحات الكتاب الأخضر، والتي أنشئت في  عام  1979م. وهو ذات العام الذي استقال العقيد القذافيوبقية زملائه من الأمانة العامة لمؤتمر الشعب العام.

أكد القذافي” – آنذاكأنه بذلك قد تم فصل السلطة عن الثورة، وأن السلطة أصبحت بيد الجماهير، وأن الحكومة بأشكالها التقليدية قد انتهت، مؤكداً أن قيادة الثورة بجب ألا تتولى أي منصب سياسي أو إداري، وأن تتفرغ لتحقيق غايات الثورة وتصحيحها، ومنذ ذلك الحين أصبح يطلق على العقيد القذافيلقب قائد الثورة“, وأصبح المنصب الرسمي الوحيد للعقيد القذافي في الهيكلية الرسمية للدولة الليبية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة منذ ذلك التاريخ.

 ولقد لعبت اللجان الثورية دوراً مهماً في العمليات السياسية في ليبيا خلال العقود الماضية، حيث أصبح هناك خطان متوازيان للسلطة في ليبيا:

الأول هو سلطة الشعب الممثلة في المؤتمرات الشعبية الأساسية واللجان الشعبية ومؤتمر الشعب العام, ويقع ضمن اختصاصها تسيير أمور الدولة الإدارية والسياسية المعتادة.

والثاني هو سلطة الثورة التي يبدأ تسلسلها القيادي من القذافيوالأعضاء الباقين من مجلس قيادة الثورة إلى اللجان الثورية، التي تقوم بمهمة مراقبة اللجان الشعبية ولها سلطات أوسع وأقوى.

واستطاعت في كثير من الأحيان أن تستغل المواجهات مع القوى الخارجية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكيةللحصول على المزيد من السلطة والنفوذ داخليا وخارجيا.

وقد حالت صورية المؤسسات وتسلط اللجان الثورية، دون مشاركة شعبية حقيقة في شؤون الحكم. حيث قدرت إحدى الدراسات حجم العزوف الشعبي عن المشاركة بما يتراوح من 50-80% ممن لهم حق المشاركة.

كما نشأت طبقة من المستفيدين والمحتكرين للسلطة والثروة يصعب التغلب عليها، في ظل مناخ الفساد والإفساد الذي ضرب كافة جوانب المجتمع بما في ذلك أعلى مستويات النظام، خاصة مع عدم وجود مؤسسات مجتمع مدني حقيقي مستقلة عن النظام.

وقد تواترت انتقادات لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية للممارسات القمعية للنظام الليبي، فقد أعربت الأولى عن قلقها إزاء العدد الكبير المزعوم لحالات الاختفاء القسري وحالات الإعدام خارج القضاء أو بإجراءات موجزة أو تعسفاً“.

وجاء في تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2010 م أنه ظلت حرية التعبير وحرية التجمع وتكوين الجمعيات تخضع لقيود مشددة، ولم تظهر السلطات قدراً يُذكر من التسامح إزاء المعارضة.

وعُوقب بعض منتقدي سجل الحكومة في مجال حقوق الإنسان. واستمر احتجاز معتقلين سابقين في معتقل خليج جوانتنامو، كانت السلطات الأمريكية قد أعادتهم إلى ليبيا، وقُبض على بعض أهالي الضحايا الذين كانوا يسعون لمعرفة الحقيقة.

ولم يتضح مصير مئات من حالات الاختفاء القسري وغيرها من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتُكبت في عقود السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، وظل جهاز الأمن الداخلي، الذي كان ضالعاً في هذه الانتهاكات، يمارس عمله وهو بمنأى عن المساءلة والعقاب“.

ورغم الآمال التي علقها البعض على المشروع الإصلاحي لسيف الإسلام القذافي نجل العقيد القذافيومحاولته تقليص نفوذ اللجان الثورية فيما وُصف – في بعض الأحيانبأنه صراع بين الإصلاحيين والمحافظين؛ فإن ذلك المشروع واقعيا كان أداة في إطار الصراع من أجل السيطرة على السلطة والنفوذ بين النخب داخل النظام ونظر له كثير من الليبيين نظرة توجس وارتياب بفعل ميراث الفساد والاستبداد الذي عانوا منه جراء ثورة الفاتح وحقبة الحصار الدولي.

يؤكد ذلك أن اللجنة الأساسية لمكافحة الفساد التي شكلها القذافي، فشلت في تحقيق غايتها وكانت انتقائية في أداء مهامها، على نحو جعل منها أداة لفرض الوصاية والسيطرة على الكيانات الاقتصادية والمالية المتعاملة مع الشركات الأجنبية، وخضوعها لإشراف الموالين للنظام.

وهكذا فإنه برغم – وربما بسببما شهدته ليبيا من انفتاح اقتصادي منذ رفع العقوبات عنها عام 1999م من جانب الأمم المتحدة، والذى تسارعت وتيرته منذ عام 2003م، ولم يتزامن معه إصلاح سياسي ملائم، بفعل تردد القيادة السياسية في اتخاذ قرار التحول، في ظل ضغوط وصراعات القوى بين المؤيدين والمعارضين للمشروع الإصلاحي.

تصاعدت حدة التوترات الداخلية، وتنامت قوى المعارضة للنظام، إلا أنها لم تكن قادرة وحدها على إزاحتة، في ذات الوقت لم تكن القوى الخارجية تثق في قدرة معارضة الداخل ولا الخارج الليبية على القيام بهذا الدور بفعل تشرذمها، وغموض غاياتها وأهدافها، لذا كان التعويل على التغيير من داخل النظام ممثلا في المشروع الإصلاحي لسيف القذافي.

إلا أن قيام ثورتي تونس ومصر غّير الموازين، في ظل تشابه النظم الثلاث من زاوية: عدم الاعتقاد بقدرة المعارضة على الإطاحة بها.

فقد أدت الثورات الشعبية المصرية والتونسية إلى تقويض الصورة النمطية عن أجهزة القمع العربية وقدراتها الفائقة على التنبوء بالأحــداث وقدراتها الدائمة على ســحق التمردات والقضاء عليها.وكانت ثورة مصر بمثابة الشـــرارة التي أطلقت عنان الثـــورة الليبية، خاصة في شرق البلاد.

 وفي المقابل كشفت ردة فعل سيف الإسلام القذافي تجاه الأحداث عن هشاشة مشروعه الإصلاحي في ظل انحيازه التام إلى سياسات والده القمعية في مواجهة المتظاهرين السلميين الأمر الذي توارت معه ثقة العالم الغربي في مصداقيتة بشأن الإصلاح السياسي في البلاد.

في ذات الوقت الذي مثلت فيه حركة الاحتجاجات الليبية فرصة تاريخية للتخلص من نظام العقيد القذافي، الذي كان بمثابة شوكة في حلق كثير من النظم ليست الدولية فقط، بل والإقليمية العربية منها، والأفريقية.

عوامل استمرار الأزمة في ليبيا

مع عجز الثوار عن تحقيق تقدم عسكري يسمح بافتراض إن نظام القذافي سيسقط قريباً، ومع عجز قوات العقيد القذافي عن إزاحتهم عن المواقع التي حرروها. وصلت الأمور إلى حال الجمود، وهو ما يدفع للبحث عن أسباب ذلك الجمود.

الطبيعة الشخصية القذافي

العقيد القذافي شخص يتسم بالعناد والتصلب في مواقفه، والتهور في ردود فعله، ومن غير المتوقع أن يتنازل بسهولة لمطالب المنتفضين، فهو لم يتنازل لمطالب زملائه في مجلس قيادة الثورة، وتعامل مع معارضيه بقسوة غير معهودة، ولم يبق إلى جانبه من أعضاء المجلس المذكور إلا بضعة أشخاص يعدون على أصابع اليد الواحدة، مثل مصطفى الخروبي، وأبو بكر يونس والخويلدي الحميدي (على علاقة نسب مع العقيد حيث تزوج ابنه الساعدي من كريمة الأخير).

عدم وجود مؤسسة عسكرية وجيش وطني

يمكن القول بعدم وجود جيش قوي في ليبيا على غرار مصر وتونس. وهو ما كان يقصده القذافي بدقة، فالعقيد الليبي كان يخشى الجيش، ولا يثق به، ويعتبره خطراً على نظامه، ولهذا قرر حله تحت مسمى الشعب المسلحكبديل, حيث يتم تدريب الشعب على استخدام السلاح ولكن يظل السلاح بلغت قيمته نحو 13 مليار دولار, بما يفوق حاجة جيش قوامه 55 ألف جنــدي في تلك الفترة، ومخازنه تحت سيطرة وهيمنة النظام, وحراسة الموالين له من الميليشيات وقوات الأمن الخاصة التي يرأسها أبناؤه أو أفراد قبيلته، على حساب الجيش الرسمي للبلاد.

ويعود ذلك إلى محاولة الانقلاب الأولى التي قام بها عمر عبد الله المحيشي عضو مجلس قيادة الثورة.

 إن ما ترتب على هذا الهيكل العشوائي المتداخل هو أنه بعكس مصر أو تونس، ليس هناك أية جهة لديها السلطة والموارد التي تمكنها من الإطاحة بالديكتاتور، لذا فإنه من المستبعد أن يلعب الجيش دوراً كبيراً في حسم الأوضاع لهذا الطرف أو ذاك.

كما أن النظام الليبي تعلم من تجربتي تونس في الغرب ومصر في الشرق، وهو يعتقد أن تردد النظامين فيهما في ارتكاب مجازر دموية ضد المتظاهرين هو الذي أدى إلى سقوطهما، ولذلك حشد كل ما في جعبته من وسائل قمعية لإخماد الانتفاضة الشعبية.

ضبابية الموقف الغربي وانقسام القوى الكبرى

رغم استخدامه كل ما لديه من أوراق، سواء الأمنية منها أو الدعائية، بما في ذلك تسريب أنباء عن قيام دولة إمارة إسلامية في شرق ليبيا بعد سقوط المنطقة بالكامل في يد المتظاهرين والتحذير من تداعيات انهيار النظام على مسألة الهجرة باتجاه أوروبا، وقفت الدول الغربية في معظمها موقفا عدائيا تجاه النظام الليبي، وفي المقابل، وبسبب افتقار العالم الغربي لمعلومات واضحة عن تشكيل ومكونات قوى المعارضة، وتوجهاتها الفكرية، والسياسية، والاقتصادية, والخوف من مرحلة ما بعد القذافي, اتسم الموقف الغربي بدرجة من التردد والضبابية.

ما بين الإقدام على مساعدة قوى المعارضة مالياً وإنسانياً وفرض حظر جوي وتوجيه ضربات جوية لقوات العقيد القذافي ومنشآته العسكرية لحماية المدنيين، والامتناع عن إمداد قوى المعارضة بالعتاد والتسليح اللازم لتمكينهم من مواجهة قوى النظام التي تفوقهم تسليحا، وكذا الامتناع عن إرسال قوات برية لحسم النزاع لصالح المعارضة.

الأمر الذي أضفي درجة من الجمود على أرض الواقع لعدم قدرة أي من طرفي الصراع على حسم النزاع عسكريا لصالحه. ويبدو أن حالة الجمود العسكري والسياسي التي تشهدها الأزمة الليبية إنما تعكس في جوهرها طبيعة التناقض وتعقد المصالح وتشابكها في النظام الدولي الراهن بعد نهاية الحرب الباردة.

فعلى حين أكدت دول مجموعة البركس (روسيا، الصين، الهند، البرازيل, جنوب أفريقيا) في اجتماعها السنوي الثالث في 14 أبريل 2011 على ضرورة التسوية السلمية للأزمة الليبية، ورفض التدخل العسكري لحلف شمال الأطلنطي في ليبيا. سارعت فرنسا منذ البداية إلى الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي في بنغازي، ودفعت باتجاه التدخل العسكري في الأزمة الليبية.

وفي حين وقفت الولايات المتحدة موقفاً متردداً في البداية، حاولت بريطانيا اللحاق بركب التدافع الدولي على ليبيا في موقف وسط بين الموقفين الفرنسي والأمريكي. ولم يخل موقف بعض الدول الأوروبية أعضاء حلف شمال الأطلنطي مثل إيطاليا وتركيا وألمانيا واليونان من التردد والغموض، في ظل تضارب المصـــالح وتعقد الحسابات.

وبالنسبة للموقف الأمريكي فإنه يقع أسير اتجاهات ثلاثة تسود المؤسسات والمصالح الأمريكية.

أول هذه المواقف تعبر عنه الشركات النفطية الأمريكية التي ترغب في الوصول إلى النفط الليبي حتى لو كان الثمن تقسيم ليبيا. الموقف الأمريكي الثاني تعبر عنه وزارة الدفاع الأمريكية التي لا تريد أن تخوض حرباً لمصلحة الشركات النفطية. ويرتبط الموقف الأمريكي الثالث من الحرب في ليبيا بصقور الإدارة الأمريكية أمثال سوزان رايس وهيلاري كلينتون. ويميل إليه الرئيس أوباما ومؤداه ضرورة رحيل القذافي.

وإذا كان يمكن تفهم الامتناع عن إرسال قوات برية؛ لما يمكن أن يحدثه ذلك من انشقاق داخلي وإقليمي، على الصعيدين العربي والغربي حول دور تلك القوات ومهمتها، فإن التخوف من مرحلة ما بعد القذافي هو ما يفسر تردد العالم الغربي في إمداد قوى المعارضة بالتسليح الكافي لحسم الصراع، وهو ما ينقلنا لمناقشة احتمالات المستقبل.

خيارات المستقبل

يمكن القول أن ليبيا أمام عدة خيارات:

السيناريو الأول:

 ومن بين أسوأ السيناريوهات المحتملة لليبيا هو تقسيمها إلى مناطق شرقية وغربية؛ فالواقع الجغرافي لليبيا الذي أتاح في الماضي – وطيلة قرون طويلة – قيام ثنائية إقليميْ برقة وطرابلس، مع بروز إقليم فزان في الجنوب أحياناً.

والذي على أساسه نشأت ليبيا الحديثة بعد الاستقلال كدولة اتحادية فدرالية قبل التوحّد في دولة مركزية. قد يجعل ليبيا أمام احتمال جدّي للانقسام السياسي, أو لقيام دولة هشة تتعدّد فيها مراكز القوى السياسية والجغرافية، ففي ظل تواصل القتال دون وجود ضربة حاسمة لصالح أي من الأطراف.

يمكن تصور أن ينفرط عقد الوحدة الليبية إلى دولتين أو ثلاث، بحيث يبقى النظام في إحداها. وستكون النتيجة هي المزيد من المعاناة والخسائر في الأرواح، حيث ستسعى القبائل من كلا الجانبين إلى الانتقام لنفسها من أعدائها، وهو ما يهدد بتكرار نموذج العراق أوالصومال أوأفغانستان.

السيناريو الثاني:

فهو ســقوط حكومة العقيد القذافي، وسيطرة قوى المعارضة على كامل أقاليم البلاد، وهو الأقرب للتحقق من وجهة نظرناحال تقديم الدعم للثوار، أو زيادة الضغط على النظام ومحاصرته بما قد يدفع إلى انهياره من الداخل.

ولعل سعي المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية لاستصدار مذكرة اعتقال للقذافي وابنه سيف تأتي في هذا السياق.  على أن ذلك السيناريو يحتمل داخله عدة سيناريوهات فرعية يمكن إجمالها في أربعة سيناريوهات محتملة على النحو التالي:

1-سقوط الدولة وانقسامها

وذلك بفعل صراعات داخلية بين رفقاء الأمس الذين سيتحولون إلى فرقاء الغد حول مغانم مرحلة ما بعد القذافي، وهو ما قد يقود بدوره إلى انقسام إقليمي في أرض الواقع بين دويلات شرق وغرب وربما جنوب البلاد، خاصة وأن التركيبة السياسية والقبلية والاجتماعية للمجلس الانتقالي تضم خليطا من القوى لا يجمعه من وجهة نظريسوى هدف إسقاط القذافي دونما رؤية واضحة لمرحلة ما بعد نظام القذافي. وهذا السيناريو سيقود حتما لمزيد من الفوضى الداخلية والإقليمية.

لذا سيظل سيناريو الانقسام واردا وقد يتطلب تدخلا دوليا في صورة إرسال قوات حفظ سلام أجنبية، أو شيئًا أكثر فاعلية إلى ليبيا لتوفير الأمن. وهو ما سيثير الكثير من المخاوف والتساؤلات حول من الذي سيقوم بتوفير القوات أو يقبل بتحمل التكاليف.

2- التحول الديمقراطي:

ومؤدى هذا السيناريو قدرة المجلس الانتقالي على دعم نظام التعددية الحزبية وإجراء انتخابات حرة ونزيهة تشارك فيها كافة القوى السياسية على قدم المساواة، وهو ما يقود إلى حكومة ديمقراطية واستقرار داخلي وإقليمي، على أنه يحول دون ذلك السيناريو ميراث وتراكمات نظام العقيد القذافي المعادي لكل ما هو غربي من نظم وفكر، وهو الميراث الذي تشكلت حوله مجموعات لا يستهان بها من المستفيدين وأصحاب المصالح الذين لن يسلموا هم ولا فئاتهم الاجتماعية وأنصارهم القبليين بسهولة بمعطيات ذلك التحول.

3- النموذج اليعقوبي

حيث تسعى قوى المعارضة إلى القطيعة مع كل ما هو قديم من نظم وتشكيلات اجتماعية واقتصادية وسياسية والتغيير الجذري لكل هذه التشكيلات، وإقصائها من الساحة السياسية والاجتماعية، الأمر الذي سيقود حتما إلى توترات وصراعات داخلية وإقليمية طويلة المدى.

4- اختطاف النظام (الدولة)

ويفترض هذا المسار سيطرة إحدى القوى (قبلية، عسكرية، إسلامية،..)، على السلطة واستئثارها بها، مقصية كافة القوى الأخرى من الساحة ترغيبا وترهيبا، بما يسفر في النهاية عن نموذج استبدادي جديد للسلطة والحكم في البلاد.

السيناريو الثالث:

مؤداه قدرة النظام الليبي على التغلب على كل التحديات والتحالفات التي تواجهه استنادا إلى تحالفاته القبلية والإقليمية العربية والأفريقية، وأرصدته المالية،  واستعادته السيطرة على مقاليد الأمور في البلاد، ورغم ضعف ذلك الاحتمال في ضوء المعطيات الآنية على أرض الواقع السياسي والعسكري، فإنه حال حدوثه سيؤدي إلى كثير من التعقيدات الإقليمية والدولية سيتعين معها غالبا الإطاحة بالنظام من خلال العمل السري وفرض العقوبات أو تعديل سلوكه فحسب من خلال التدابير الاقتصادية وغيرها. وهذا، على أي حال، هو المنحى الذي سبق وأقنع القذافي من قبل بالتخلي عن أســلحة الدمار الشامل.

خلاصة القول

إن هناك العديد من الأطراف الفاعلة والمتغيرات فيما يتعلق بالأزمة الليبية، حتى إنه لا يمكن لأحد أن يعرف ماذا سيحدث لاحقًا، على أن المؤكد، إنه أي كان ما ستسفر عنه الأحداث فإنه سيكون له تداعيات داخلية وإقليمية ودولية، فليبيا ما بعد القذافي لن تكون بحال هي ليبيا القذافي.

فمن الواضح إنه، كما ذهبت إحدى الدراسات بحق، كلما زاد أمد بقاء النظم المستبدة في الحكم، كلما زادت احتمالات عدم الاستقرار بعد زوالهم من السلطة، خاصة إذا جاءت الإطاحة بهم عبر عمل قسري، الأمر الذي يفرض بقوة ضرورة قيام نظم تؤمن بتداول سلمي للسلطة بصورة سلمية ودورية على نحو يحول دون قيام نظم مستبدة طويلة الأمد بالمنطقة.

***

د. محمد عاشور مهدي ـ أستاذ العلوم السياسية المساعد، معهد البحوث والدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة

____________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *